سلسلة شبهات و ردود حول منهج الامام البنا؟؟؟
مقدمة
قد تفاجأ بإنسان لم يقرأ بابا واحدا من العلم ، ولا درس صفحة واحدة من مسائلة ، قد تعمم وتحذلق ، وأطال لحيته ، وقصر ثوبه ، وأبرز مسواكا في صدر جلبابه ، و أخر في فمه ، كأنه يريد أن يقول لك : انتبه ، فأنا حارس السنة وداعية الشريعة ، ومصدر العلم ، الإسلام كله في جيبي ، والتعاليم والفتاوى في رأسي ، وآراء السلف والخلف طوع أمري ، أنا صيدلية العلم ونطاسي الملة ، ومدينة الفقه ، ومجمع الفتيا ، وباب الحلال والحرام ، ومفتاح القبول ، وطريق الوصول .
كل أمر لا يصدر عني فهو رد، وكل حكم لا يخرج من مشكاتي فهو مدخول ، وكل عمل غير ممهور برضائي فهو باطل ، وكل فتوى لا تخرج من بين شفتي فهي مزورة ، الحلال ما أحللت والحرام ما حرمت ، ا لأدلة أنا الذي أصوبها أو أخطئها ، أقبلها أو أردها ، الاجتهاد من فني وعملي ، فلا أقلد أحدا ، فالتقليد ممنوع . وأهل النظر ، هم أهل الضلال والبدع ، وكل بدعة ضلالة ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد رجال زمانهم ، ونحن رجال زماننا ، ولهدا ومن أجل ذاك ، تراه يمشي منتفخا كأنه الطاووس ، مزهوا مثل قيصر أو كسري ، يثرثر كأنه ببغاء ، ويهذي كأنه إذاعة ، ويرغي ويزبد كأنه ملتاث ليكون نشوزا في نغم الحياة الإسلامية ، ونفورا في نظام الدعوة إلي الله ، في أيام استيقظت فيها الأمة الإسلامية من رقاد طويل ، وأخذت تنضح جفنها الوسنان بأنداء الإسلام الشجية وتبحث عن حللها وحلاها ، وجمالها ، في خزائن الشريعة ، وتأهب كل مسلم ليحتفل بشباب الأمة العائد ، وجمالها المستيقظ وهو يستمع إلى دعاة صدق ، بعلم واسع وبديهة حاضرة ، وفكر نفاذ ، وبيان أخاذ واطلاع شامل ومنطق مستقيم ، وإيمان عميق ، قد أرقهم كثيرا ضعف المسلمين وضياعهم ، في أهم ضربت عليها العزلة ، وشعوب مؤمنة جاهلة مغلوبة علي أمرها ، ومستعمر داهية متمكن من الحكم سافرا أو مقنعا ، وسلطات غريبة عن شعوبها فكرا واعتقادا وعاطفة ، ونظام دستوري مستقي من الغرب ، بعيدا عن أعراف الناس وعقائدهم ، وإقصاء متعمد للدين الإسلامي عن واقع الحياة .
حتى لم يبق في مجتمعات المسلمين من الإسلام شيء من خلقه ، ولا في أيديهم شيء من تراثه ، وأصبح الدين رسما محيلا في نفوس الخاصة ، وأثرا مشوها ضئيلا في نفوس العامة ، لأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية ، وأضاعوها يوم أضاعوا دولة الإسلام ، وأن تراثهم أصبح نهبا مقسما بين شذاذ الشعوب وذئبان الأمم ، فناداهم دعاة الصدق ، بصوت رحيم ولفظ ودود ، أفيقوا من النوم ، وخففوا عن القدر اللوم ، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، فمن عاند شريعة الله وناموسة قتل في نفسه الطموح ، وفي فكره التجدد ، وفي عمله الابتكار، ورضي أن يكون في الدنيا كسقط المتاع ، أو كالأثر في المتاحف يدل علي ملك باد ، وشعب انقرض ، وكان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين وتلامذتهم ، ووطنه للمستعمرين وأتباعهم ، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسر علي المجد المفقود ، ويتعلل بالأماني الكذاب .
ولقد عرف هؤلاء الدعاة طريقهم الذي لا طريق سواه ، ومنهجهم الذي لا منهج غيره في إيقاظ تلك الأمة الغافية ، وهو طريق محمد!نه الذي كون الأمة المسلمة ، وخرج عمالقة الدنيا ، وقد رأوا أن تكوين الأهم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ يحتاج من الأم التي تحاول هذا ، أو من الفئة التي تدعو إليه علي الأقل إلي قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور :
إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل ، ومعرفة بالمبدأ ، وإيمان به وتقدير له ، يعصم من الخطأ فيه ، والانحراف عنه والمساومة عليه ، والخديعة بغيره ، فعلي هذه الأركان الأولي التي هي من خصوصية النفوس وحدها ، وعلي هذه القوة الروحية الهائلة تبنئ المبادئ ، وتترفي الأم الناهضة ، وتتكون الشعوب الفتية ، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة الشريفة والعظيمة زمنا طويلا ، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربع أو علي الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه ، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلي خير ، ولا يحقق أملا إلا الأوهام والأماني والظنون : "وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " (انجم : 28).
هذا هو قانون الله تبارك وتعالي وسنته في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا :
" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد : 11 ) .
فكابد دعاة الصدق في الأمة جهلها بدينها وطغيان المادة والشهوات عليها ، وتسلط المستعمر والدخيل علي مقدراتها ، وردوا إلي الإسلام شموله ، وروعته ، وبلغوه ، عقيدة وعبادة ، وخلقا ومادة ، وثقافة وقانونا ، وسماحة وقوة ، ودعوا إليه نظاما كاملا يفرض نفسه علي كل مظاهر الحياة ، ويعظم أمر الدنيا والآخرة ، ونادوا إليه منهجا عمليا وروحيا معا .
ولكن هذا أفزع أعداء الإسلام وأقض مضاجعهم ، لأنهم رأوا تباشير الفجر الصادق ما ، وأنوار الرسالة الغامرة ، تنادي ا الشتات الحائر ، وتبعث الفتات الخامل ، وتكون الأمة المرتقبة والقوة التي طال انتظارها ، وهذا أمر قد يكون مفهوما لسن الأعداء ، ومرتقبا من أهل الباطل ، ومن شايعهم وسار في طريقهم لعداوتهم للإسلام.
ولكن غير المفهوم ، وغير المصدق ، أن ينبري بعض المتعالمين والمتحذلقين ، إلي لمز وهمز دعاة الإسلام وأصحاب اليقظة ، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، وكان الأولي لهؤلاء ، أن يزيلوا عن أنفسهم سحب الجهالة ، وكوابيس الخمول ، وأوهام الغرور ، ونزغات الشياطين ، وكم نصحوا فلم يسمعوا ، وعلموا فلم يعقلوا ، ووجهوا فلم ينصاعوا ، ويأبون إلا أن يلجوا في غرورهم ، ويسدروا في شكوكهم ، ويظلوا في أوهامهم ، ينظرون إلى مجاهدي الإسلام بمناظيرهم السوداء ، وقلوبهم العمياء ، وبصائرهم الملتاثة ، ويتحدثون عنهم بلسان المتحرج المتشكك ، بل المجرح المشهر ط ونحن نقول لهؤلاء : لا تكونوا مطايا للمستعمرين ، ولا أظافر للضالين ، ولا عبيدا للمنافقين ، ولا خدما لعلماء السوء : " الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلاا" (البقرة : 174 ) .
"ومن أضل ممن اتبع هواة بغيير هدى من الله " (القصص 50) .
واتركوا – هدانا الله وإياكم – تلك الغفلة السادرة ، والخطوات اللاهية ، والانصياع الأعمى إلي كل ناعق ، فما هو من سبيل المؤمنين ، ولا طريق الفالحين ، وأقبلوا علي الله وعلي دعوته بقلب سليم .
وإذا كان من غير المفهوم أن يخوض بعض المتعالمين في رجال الدعوة ، وفي أعلام الحركة ا لإسلامية سيرا وراء أكاذيب اختلقوها ، وأوهام صوروها ، أو انقيادا وراء متعالمي السوء ابتغاء أحقاد ورثوها ، وأضغان أخفوها .
فمن الكوارث والدواهي أن يكون هذا بإيعاز من بعض المنتسبين إلي العلم ، و.أن تكون تلك أخلاقهم وبضاعتهم ، وأن يكون ذلك جل أعمالهم وأساس منهجهم وشغلهم الشاغل ، وهذا يعطينا في ميزان الشريعة مؤشرا صارخا علي شيئين اثنين : الأول 4 أن هؤلاء لم ينتفعوا بعلمهم ، لأن العلم المعتبر هو الملجئ إلي العمل الصالح ، لأن العالم لابد وأن يكون محفوظا بعلمه من الافتراء والسوء وعمل الآثام ، والعلم وحده بدون العمل غير كاف ، وقد استدل العلماء علي ذلك بقوله تعالي في علماء بني إسرائيل :
" وجحدوا بها واستيقنتما أنفسهم ظلما وعلوا " (النمل : 14 ) ، " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (البقرة : 146 )، فثبت أن هؤلاء لم ينتفعوا بعلمهم ، وقد ثبتت لهم المعاصي والمخالفات الكبيرة مع العلم . الثاني 4 ذم هؤلاء العلماء واعتبار فسادهم وإثمهم أفدح وأكبر من آثام غيرهم ، وقد سماهم الشرع علماء السوء : وما جاء في ذمهم من الآثار كثير ومستفيض ، فمن ذلك قول الرسول !ز : "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه "(1).
وفي القران الكريم : ! أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون * (ا لبقرة : 44 ) . وقوله تعالي : " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا !ما يأكلون في بطونهم إلا النار * (البقرة : 174 ) .
هذا وقد علل الإمام الشاطبي فساد العلماء بأمور عدد منها ما يلي :
أولا : مجرد العناد ، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي ، وعلي هذا قوله تعالي : "وجحدوا بها واستيقنتما أنفسهم ظلما وعلوا " (النمل : 14 ) .
وقوله تعالي "ود كثير من أهل .الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لقم الحق " (البقرة : 109) .
وأشباه ذلك ، والغالب علي هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوي من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك ، بحيث يكون وصف الهوي قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
ثانيا : الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر؟ فقد يصير العالم بدخوله الغفلة غير عالم . وعليه يدل –عند جماعة – قوله تعالي : !إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " (النساء : 17) .
وقوله تعالي :" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون مه (الأعراف : 201) . ومثل هذا الوجه لا يعترض علي أصل المسألة ، كما لا يعترض نحوه علي سائر الأوصاف الجبلية ، فقد لا تبصر العين ، ولا تسمع الأذن ، لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما ؟ فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حين تصاب ، ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول علي السمع والإبصار، فما نحن فيه كذلك .
ثالثا : كونه ليس من أهل هذه المرتبة ، فلم يصر العلم له وصفا ، أو كالوصف ، مع عده من أهلها . وهذا يرجع إلي غلط في اعتقاد العالم في نفسه ، أو اعتقاد غيره فيه . ويدل عليه قوله تعالي : ء ومن أظلم ممن اتبع هواه بغير هدى من الله * (القصص : 55) . وفي الحديث : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس . . . إلي أن قال : اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"(1 )، فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما ، فليسوا من الراسخين في العلم ، ولا ممن صار لهم كالوصف ؟ وعند ذلك لا حظ لهم في العلم ، فلا اعتراض بهم .
فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم –حسبما نصته الأدلة ؟ وفي هذا المعني من كلام السلف كثير . وقد روي عن eأنه قال : "إن لكل شئ إقبالا وإدباراً ، و إن لهذا الدين إقبالا و ادبارا ؟ وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به ، حتى إن القبيلة لتتفقه كلها بأسرها ، أو قال آخرها ، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان ، فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا ، واضطهدا " . . الحديث ( 1 )
وفي الحديث : "سيأتي علي أمتي زمان يكثر القراء ، ويقل الفقهاء ، ويقبض العلم ، ويكثر الهرج (2)إلي أن قال : "ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول ".
وعن علي : ( يا حملة العلم اعملوا به ، فإن العالم من علم ثم عمل ، ووافق عمله علمه ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ، ويخالف علمهم عملهم ، يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا؟ حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلن غيره ويدعه . أولئك لا تصد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل ) .
وعن ابن مسعود : ( كونوا للعلم رعاة ، ولا تكونوا له رواة ، فإنه قد يرعوي ولا يروي ، وقد يروي ولا يرعوي ) . وعن أبي ألد رداء : ( لا تكون تقيا حتى تكون عالما ؟ ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا) .
وعن الحسن : ( العالم الذي وافق علمه عمله ج ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث ، سمع شيئا فقاله ) .
وقال ألثوري . ( العلماء إذا علموا عملوا ج فإذا عملوا شغلوا ج فإذا شغلوا فقدوا ، فإذا فقدوا طلبوا ، فإذا طلبوا هربوا ) .
وعن الحسن قال : ( الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل ) . وعنه في قول الله تعالى : ( وعلمتم ما لم تعلموا أشم ولا آباؤكم ) قال : (علمتم فعلمتم ولم تعملوا، فوالله ما ذلكم بعلم ) .
وقال الثوري : (العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه ، وإلا ارتحل ) . وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجى إلى العمل .
وقال الشعبي : (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ، ومثله عن وكيع بن الجراح) .
وعن ابن مسعود : ( ليس العلم عن كثرة الحديث ، إنما العلم خشية الله ) .
يستكمل الموضوع..