خارج النص
بقلم: سعد هجرس
حاجة تقرف
ليست هذه أول مرة أذهب فيها إلي ماليزيا. لكني أجدها مختلفة كل مرة وهذه المرة بالذات تخيلت أني أخطأت العنوان وسافرت إلي بلد آخر.
فهذه الدولة التي كانت تسمي حتي عهد قريب "جزر الملايو". وكانت مضرب الأمثال في التخلف والفقر. حتي أن عاصمتها "كوالالمبور" تعني ترجمتها حرفيا "وادي الطين". لأنها كانت مجرد أحراش موحلة. أصبحت اليوم شيئا آخر تماما.
ماليزيا اليوم أحد النمور الآسيوية. وهي نمر ليست من ورق علي حد تعبير الزعيم الصيني ماوتسي تونج. بل إن لها أنيابا ومخالب اقتصادية حقيقية. ويكفي أن نذكر أن حجم تجارتها الخارجية هذا العام سيكسر حاجز التريليون رينيجت "علما بأن الدولار الأمريكي يساوي 6.3 رينجيت والتريليون يساوي مليون مليون" وأن حجم صادراتها العام الماضي زاد علي 148 مليار دولار أمريكي "مع العلم بأن عدد سكان ماليزيا لا يزيد علي 26 مليون نسمة بينما إجمالي صادرات مصر التي يبلغ عدد سكانها 70 مليون نسمة والتي كانت متقدمة عن جزر الملايو بمئات السنوات منذ أعوام قلائل لم يتجاوز 6.10 مليار دولار أي أن صادرات ماليزيا تبلغ 14 ضعف الصادرات المصرية".
وليس هذا فقط. بل إن ماليزيا تخطط لأن تصبح دولة تقدمة بالكامل عام 2020 أي أنها ستنضم بعد 14 عاما إلي نادي الدول المتقدمة وتودع نادي دول "العالم الآخر" الذي يسمي أحيانا ب"العالم الثالث" وأحيانا أخري ب"الدول النامية" تجنبا لتسميته الحقيقية وهي "العالم المتأخر".
وهذه النقلة الأخيرة تبين لنا أن النهضة الماليزية ليست ناجمة عن "هبة" طبيعية هبطت عليها من السماء أو تفجرت لديها من باطن الأرض. بل إنها نتيجة جهد وعرق وعمل وتخطيط ومثابرة واصرار وإرادة سياسية. والدليل علي ذلك أن أكثر من ثلاثين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الماليزي يأتي من الصناعة وأكرر ألف مرة كلمة "الصناعة".
ثم إن هذه النهضةالاقتصادية الهائلة ليست عشوائية بل إنها مخططة وأضع ألف خط أيضا تحت كلمة "التخطيط" وهو تخطيط يرتبط ارتباطا وثيقا بامكانيات البلاد وطبيعة المرحلة التي تمر بها البشرية والعالم وانطلاقا من ادراك أن تعيش الآن ثالث ثورة بعد الثورتين الزراعية والصناعية. هي ثورة المعلومات. يرتكز مشروع نهضة ماليزيا علي إقامة مجتمع المعلومات. بل وتحويل البلاد إلي "مجتمع المعرفة" عام .2010
والأهم أن كل هذه الخطوات المدروسة لم تتوقف ولم تتعثر عندما ضربت الأزمة المالية الرهيبة اقتصادات جنوب شرق آسيا عام .1997
والأكثر أهمية أن القيادة الماليزية لم تركع أمام صندوق النقد الدولي. ولم تستمع إلي تعاليمه و"نصائحه" وقتها بل إنها خرجت من الأزمة في ظل قيادة الدكتور مهاتير محمد وقتها بفضل روشتة "وطنية" مناقضة تماما لأوامر وفرمانات الصندوق.
ثم إن مهاتير محمد الذي قاد البلاد بحسم في هذه المسيرة الناجحة. ترك الحكم بمحض ارادته وهو في أوجد مجده وقال إن من حق البلاد أن تري قيادات شابة جديدة ودماء جديدة ومبادرات جديدة.
وأثناء زيارتي الأخيرة إلي ماليزيا وجه اتحاد غرف التجارة والصناعة والخدمات لمجموعة الخمسة عشر. الذي كان يعقد مؤتمره الثالث عشر وقمة مجتمع أعمال المجموعة في كوالالمبور. وجه الدعوة إلي مهاتير محمد للاستماع إلي آرائه في مستقبل هذه الحركة التي ولدت من رحم حركة عدم الانحياز عام 1989. وتضم الآن 19 دولة من أفريقيا وآسيا وبالمناسبة فإن حجمه الضئيل وابتسامته الخفيفة التي لاتفارق ملامح وجهه وحركاته وطريقة كلامه وشكله عموما يذكرنا بزميلنا وصديقنا وأستاذنا الراحل الكاتب والصحفي العبقري صلاح حافظ.
هذا مشهد غير مألوف علي الاطلاق في العالم الثالث أن تجد حاكما يحتفظ ببريقه وتألقه وشعبيته بعد خروجه من السلطة.
وتلك علامة أخري علي أن مشروع النهضة الماليزية ليس وليد الصدفة. بل إنه محصلة إرادة سياسية. وتجربة ديموقراطية جديرة بالتأمل في بلد توجد فيه أعراق متعددة مالوية وصينية وهندية وديانات مختلفة إسلامية وبوذية وهندوسية ومسيحية. ونظام تعليم وطني. وتخطيط اقتصادي مدروس. ومجتمع يقدس العمل ويعتبره "عبادة".
وقبل أن أعيد قراءة الأوراق الكثيرة التي حملتها معي حول هذه التجربة التنموية الرائعة. وأحاول مقارنتها بواقع الحال لدينا.. توقفت الطائرة التي أقلتني من "كوالالمبور" في مطار الدوحة وكان أول ما وقع عليه بصري هو نسخة من جريدة "الوطن" الصادرة في هذا اليوم الذي كان يصادف الجمعة الماضي.
تصفحت الجريدة.. توقفت أمام صفحتها الخامسة وبالتحديد أمام زاوية بعنوان "أنت تسأل والعلماء يجيبون".
السؤال الأول عن مصافحة النساء والاجابة أنها "لا تجوز بحال من الأحوال مادامت المرأة ليست زوجة ولا محرما بنسب أو رضاع أو مصاهرة".
السؤال الثاني عن سماع الموسيقي والاجابة هي أن "الموسيقي تأتي بأدوات العزف كما هو معلوم والمعازف محرمة.." يعني باختصار الموسيقي حرام.
السؤال الثالث وعفوا لقلة الذوق والعقل ماحكم الاستنجاء فوق البول والغائط والتناثرات البسيطة جدا من البول علي الجسم. ولا داعي لانتظار الاجابة.
هل تحتاجون بعد ذلك إلي معرفة سبب تأخرنا وتقدم باقي خلق الله. بما في ذلك الماليزيون الذين يمثل المسلمون نحو 60% منهم يحافظون علي دينهم الحنيف ولكنهم يستلهمون منه أمورا سامية ونبيلة ودافعة للتطور والتقدم.
أنهم يتحدثون عن مجتمع المعرفة وثورة التكنولوجيا بينما نحن مشغولون بتحريم الموسيقي ومصافحة النساء والاستنجاء فوق البول والغائط.
حاجة تقرف!
لي عوده للتعليق بإذن الله ....