مفكرة الإسلام:

في ذات اللحظة التي أعلن فيها رئيس وزراء " إسرائيل " عن قرار وقف إطلاق النار أحادي الجانب تبدت فيها علامات الخسارة والانتصار واتضحت مآلات المواقف المختلفة من القضية التي اقشعرت الأبدان من نتائجها المهولة وآثارها المدمرة .

قد يبدو وسط الركام المعتم ورائحة الموت التي تغطي الأركان في غزة أنه لا معنى لحديث عن نتائج انتصار أو فوز، كيف وأجساد الموتى تغص بها المدافن وأشلاؤهم تختلط ببقايا الهدم ، وعائلاتهم قد بح صوتها من هول الصدمات، وانهارت البنية التحتية للقطاع ولازال الحصار قائما ..

قد يبدو ذلك لأول وهلة، إلا أن ممعنا للرؤية قد يرى ما قد يغفل عنه الكثيرون ..

فقد يرى هاهنا شعبا لم يركع، وعطاء لم ينضب، ووقودا للكفاح لم يجف، ويرى مبادئ لم تنكسر، وديانة لم تنهزم، ومساجد لا يزال يرتفع فيها النداء .

وبينما يسيطر على المتابعين للموقف الحذر ، توقع عدم الالتزام " الإسرائيلي " بوقف إطلاق النار ، فإننا نحسب أن الوصف الأدق للحال هو أن نعتبره ( إنهاءً للمعركة مع استمرار للحرب ) ، ونتوقع - خصوصا مع إعلان ردود الفعل من الطرف الفلسطيني المقاوم - إمكانية استمرار المواجهات على الأرض بصورة متقطعة بينما تستمر محاولات الفعل السياسي من جانب آخر .

إن ما بين انقشاع لون الليل البهيم الأول ، ذاك الليل الذي أعلن فيه وقف إطلاق النار وبين تبدي الدلالات ..عهد قريب ، عهد يمكننا مع تباشير صباحه أن نتبين علامات الخاسرين حول القضية النازفة ..

الخاسر الأكبر هو الكيان الصهيوني ولاشك، برغم محاولته ارتداء قناع النصر، وافتعال ابتسامات التهاني .

فالأرض التي أحرقها أبت أن تكتب له أي إنجاز على جوانبها ، بعدما بذل فيها كل جهد يملكه ونشر فيها أكبر عدد من عملائه ، وأسقط عليها مليون كيلو جرام من متفجراته القاسية الحارقة ( ما استدعى حليفتها أمريكا أن تسارع إليها بإرسال آلاف الأطنان الأخرى من المتفجرات )

فرئيس الوزراء الذي أعلن تحقيق أهدافه كاملة كما ادعى ، لم يذكر لشعبه ولا للعالم ما تلك الأهداف التي حققها ، وكيف تضاءلت أهدافه المعلنة في أول يوم ( إفناء المقاومة ) إلى أن صارت بعد أيام ( ضربها ضربة تعجيزية ) إلى أن انكمشت بعد أيام أخرى إلى ( تحجيم قدرتها على ضرب الصواريخ ) ، ولم يدلهم على علامة واحدة من علامات ما قال إنه ( تحقيق لأهداف العملية ) ، فصواريخ الشعب الجريح لازالت تسخر من جميع مضاداته الأرضية التكنولوجية المتقدمة ، والمتظاهرون خارج المبنى الوزاري يتساءلون عن مصير الجندي شاليط الذي لم يتحرر بعد ، والحكومة التي اختارها الشعب لا تزال تمسك بزمام المكان وترفض وقف إطلاق النار الذي أعلنه !!

الخاسر إذن هي " إسرائيل " حيث أظهرت وجها قبيحا للعالم كله ، واستطاعت بجدارة أن تحصد سخط الملايين من شعوب الأرض ، وتخسر حلفاء إقليميين مهمين ( أهمهم تركيا ).

لقد خسرت " إسرائيل " عسكريا إذ لم تحقق شيئا من أهدافها العسكرية ، وخسرت أخلاقيا حيث أبدت للعالم تطبيقا عمليا للقيم الصهيونية، والمبادئ الصهيونية، وأعلنت لكل ناظر قدر الحقد الدفين على أبناء ذلك الشعب المحتل المحاصر الأسير ، لقد أثبتت بنفسها لملايين المسلمين كم هي صادقة آيات القرآن فيهم وكم كان وصف الإسلام فيما يخصهم دقيقا ، ووصفه في ولاء الغرب لهم الذي تبدى في صورة فجة في لقاء ليفني رايس حيث أعلنت كل منهما عن ما أسموه ( وحدة القيم والمبادئ )


خاسر آخر هي سلطة رام الله التي كبحت جماح جماهيرها الغاضبة في الضفة بكل عنف وغلظة عن أن تعبر عن مشاركتها مصاب عائلاتها وأقربائها في غزة، وهمشت دورها في حمل هم قضيتها بلا خجل، وارتدت رداء العجز بامتياز وسط صرخات الاستنجاد من ثكالى القطاع ويتامى القصف الوحشي الغادر.

عباس ومفاوضوه ووزراؤه يجدون أنفسهم الآن في موقف بائس، إذ انتهت الفترة الرئاسية له، وتلاشت موائد المفاوضات التي كان يتكئ عليها مع حلفائه "الإسرائيليين"، وتبخرت مواثيق واتفاقات أوسلو وأخواتها من بين يديه، وكسب حنقا وغيظا أمام أقطار عربية متكاثرة ، ما أوصله أن يكون نجما لرسوم الكاريكاتير الساخرة بلا منازع.

وبينما نرى الشعوب قد فارت فورة عاطفية صادقة فإن الموقف العربي الرسمي قد بدا هو الآخر خاسرا إلى حد كبير إذا ما قورن بما ينتظره منه ذاك المواطن المتأثر المتألم الثائر لما يحصل لإخوانه الفلسطينيين .

الموقف العربي برمته قد خسر لما انقلب على ذاته ، وانقسم على داخله ، وتشرذم وتمحور إلى محاور عدة ، فبان وكأن كل قطر يبحث عن مصالحه الذاتية ، ويقيم المواقف تبعا لحلفائه ، غير عابئ بأثر الوحدة والاعتصام ، والتقارب والتعاون ، والوقوف موقف يذوب فيه الجميع في واحد ، فيستطيع أن يجابه عدوه وينتصر في محنته .

قد كان أمام حكام العرب فرصة حقيقية لمصالحة شعوبهم، والالتصاق بهم وقت الأزمة، وإشعارهم بمشاركتهم ذات الألم وذات المسئولية التي يرجونها أمام ما يرون من مذابح ومجازر على مرأى ومسمع كل أحد ، لكنهم أعطوا الفرصة سانحة لكل لسان ناقد وكل قلم طاعن ، فاختلطت الأصوات وتعالت الصيحات ، بل استغلت - في أحيان - ثورة المشاعر عند المخلصين الكرماء .

الخاسر التالي هو الإعلام الغربي الذي خسر في الاختبار الأخلاقي وتواطأ وتستر على المجزرة ، لقد خسر الإعلام الغربي المتشدق بالنزاهة والشفافية في اختبار القيم والمبادئ، إذ رضي بالتستر على الجريمة ، وخسر في اختبار المهنية الإعلامية ، لما رضي الوقوف عند الخط الأحمر الذي رسمه له الجيش " الإسرائيلي " عند معبر إيريز وحدود غزة ولم يسمح له بالتقدم خطوة .

ولم تُعبر الآلة الإعلامية الغربية طوال اثنين وعشرين يوما إلا عن رؤية طرف واحد هو الطرف الجاني ، مغفلة صور الصرعى والجرحى والحرقى من الأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين ، ولم تكلف الآلة الإعلامية العالمية بكل قدراتها أن تكبد نفسها عناء البحث عن مصداقية الأحاديث التي استقوها من فم الجيش " الإسرائيلي " عن تفاصيل المعركة .

إننا نستغرب إلى حد الصدمة كيف صارت جميع وسائل الإعلام الغربية تؤدي بصورة ممنهجة ومنتظمة كأنها اتفقت فيما بينها أن تخفي آثار المذبحة وتهيل عليها التراب !

الموقف الإيراني السوري مع حزب الله ال**** هو الآخر خاسر ، إذ تبدى أمام الجميع كظاهرة صوتية فحسب ، وتوقفت آثاره عند التصريحات النارية ، والخطب الرنانة ، والتحريضات غير البريئة ، غير متخذ لخطوة إيجابية واحدة على الأرض لحماية الشعب الجريح، لقد امتثل أصحاب ذاك الموقف بما قاله المفكر صامويل هنتيجتون عمن أسماهم (العدو المثالي) ووصفهم بأنهم ، يصيحون صيحات تخيف السامع ولكنها لا تجرحه أبدا .

لقد انتظر الناقدون - المختلفون مع حزب الله - منه مواقف عملية إيجابية ، لعلهم يغيرون آراءهم عنه ، لكنهم ما لبثوا أن رأوه يكمم فوهات البنادق ، ويحكم إغلاق بطاريات الصواريخ ،ويحذر أبناءه من أي انفعال ، ويتبرأ من تهمة المشاركة ، ويكتفي بحصد أعداد الضحايا !

خسر كل هؤلاء في اختبار المحرقة الصهيونية لأبناء أمتنا الذين أنهكهم الحصار وآلمهم الأسى وأعياهم الصراخ .

وحتى الآن لا تزال تأتينا الأنباء بخرق " إسرائيل" ما أعلنت عنه منذ ساعات أنه وقف لإطلاق النار ، ولا تزال على الجانب الآخر تأتينا الأنباء الصادقة بإنجازات الشعب الأبي الجريح ، والتفاف شعوب العالم أجمع من حوله يضمدون جراحه ، ويحاولون إعادة بنائه من جديد ، فلاغرو إن رأينا غدا علامات الهزيمة تبدو ملامحها من تحت قناع يهود ، وسمعنا أغاريد الانتصار تعلو من فم أم الشهيد .

https://www.islammemo.cc/Tkarer/Tkar.../18/75450.html