انعقدت مؤتمرات عديدة وكتبت مقالات لا تحصر ونظمت فعاليات عربية وإسلامية وعالمية، جميعها يضع نصرة غزة ونصرة فلسطين عنوانا، والنسبة الأكبر منها تضع هذا العنوان داخل إطار عنوان آخر، يعبر عن حزب أو اتجاه أو تيار، قد يكون له وجود كبير وفعال أو لا يكون، فتكاد تتحول أنشطته ونصرته -مع عدم التشكيك في النوايا- إلى توظيف أوضاع القطاع وقضية فلسطين لنصرة نفسه واتجاهه وتياره وحزبه أولا.

ليس هذا محرما ولا محظورا في الأصل، ولكنه ليس هو المطلوب في هذه المرحلة، ولا هو الذي يحقق المصلحة والأهداف، ناهيك عن أن يجمع القوى بدلا من بعثرتها، ويضاعف المنجزات بدلا من تقليصها، ويزيل أثقال المنازعات والصراعات التاريخية التي كانت من أسباب التدهور في مسار العمل للقضية، بدلا من تعزيزها ومحاولة تجديدها.
فلسطين وقضية فلسطين هدف مشترك وليست وسيلة، والمطلوب خدمتها لا استخدامها، والعمل من أجلها لا استعمالها، والتحرك وفق ما تقتضيه وليس التحرك بها وفق ما تقتضيه الظروف الذاتية لهذا الحزب أو ذاك وهذا التيار أو ذاك، لا سيما عندما ينطوي التحرك الخاطئ على عدم الوصول إلى المطلوب على صعيد القضية ولا حتى المطلوب بمنظور الصراع أو التنافس بين الأحزاب والتيارات والاتجاهات المتعددة.
لقد أصبح الهم الأكبر لبعض الأقلام هو تجريد إنجازات المقاومة من توجهها الإسلامي ومنطلقاتها الإسلامية في الوقت الحاضر، رغم أن منظمات المقاومة التي لم تتخذ من الإسلام منطلقا ونهجا وهدفا لا تتردد عن التعاون الوثيق على أرض القضية وفي قلب المعركة مباشرة مع منظمات المقاومة الإسلامية وتعلم أن تقديمها في المرحلة الراهنة، لا ينسجم مع واقع حجمها وعطائها فقط بل ينسجم أيضا مع واقع انتشار الإسلام عقيدة وتصورا ونهجا على المستويات الشعبية العربية والإسلامية أيضا.

وأصبح هم بعض الفعاليات الإسلامية لنصرة غزة وفلسطين أيضا أن تؤكد منطلقها الإسلامي -وهذا من حقها- وتسدّ إلا نادرا أبواب التفاعل الإيجابي مع أصحاب المنطلقات والتصورات الأخرى، وليس هذا من حقها، وهم موجودون في الساحة، وقد يكون مدخل قضية فلسطين هو المدخل الواقعي الأقرب إلى التلاقي على أرضية مشتركة بقواعد قويمة للعمل المشترك من أجل هدف مشترك، دون أن يفقد أحد حقه في العمل لنهجه أيضا.

بل نرصد داخل نطاق التيار الواحد، بما في ذلك التيار الإسلامي، تحركا في قضية فلسطين تحت عنوان فرعي من هذا التيار، وكأننا نريد أن يستمر المنحدر الذي أضعف قضية فلسطين، فلا يكفي الهبوط بها من منطلق إسلامي جامع للأمة، إلى منطلق عروبي، إلى منطلق فلسطيني محاط بالألغام، إلى منطلق منظمات تسوية ومنظمات مقاومة، فإذا بالتحرك الجديد مع تسجيل انتصارات المقاومة وإنجازاتها، يمضي على منحدر قد يكون أخطر من سابقه.
ليست قضية فلسطين قضية الإسلاميين أو القوميين ولا قضية الإخوان أو السلفيين أو التحريرين ولا قضية الشيوعيين أو الاشتراكيين أو العلمانيين، وليست قضية فلسطين قضية الفلسطينيين، بل هي القضية الجامعة للعرب بشتى انتماءاتهم وللمسلمين بشتى قومياتهم بل هي القضية العربية والإسلامية القابلة أن تكون قضية مشتركة على مستوى عالمي يجمع من وراء الجهود المطلوبة لتحقيق أهداف تحرير الأرض والإنسان على صعيدها، وأهداف العدالة والحق والكرامة، كثيرا من المنصفين على مستوى عالمي إلى جانب العرب والمسلمين.

لقد هبطت قضبان التفكير الحزبي والإقصائي بجميع قضايانا إلى حضيض أصبح فيه وجودنا جميعا معرضا لأكبر الأخطار الخارجية والداخلية، وشمل ذلك قضية فلسطين على امتداد عقود حافلة بالنكبات والهزائم والتنازلات مع التجزئة والتفرقة والتخلف والعجز، واستطاعت منظمات المقاومة على تعدد أطيافها، مع عدم الغفلة عن حقيقة بروز الاتجاه الإسلامي فيها، أن تخرج بقضية فلسطين من ذلك الحضيض، وأوجدت بصيص أمل في أن نقترب يوما بعد يوم ومرحلة بعد مرحلة وملحمة بعد ملحمة من الأهداف العزيزة الجليلة من جديد، فلا ينبغي القضاء على ذلك الإنجاز تناحرا، وإطفاء بصيص الأمل تحزبا وتعصبا، فليست الحصيلة إلا البقاء في الحضيض، وليس البديل سوى أن نرتفع جميعا بأنفسنا وفكرنا وكتاباتنا وفعالياتنا وممارساتنا إلى مستوى القضية الكبرى الجامعة المحورية، وإلى مستوى من يقدمون التضحيات الجسيمة الطاهرة على أرضها، وإلى مستوى عالمنا وعصرنا، وأن نجعل من ذلك المدخل الكريم إلى حياة كريمة، ومكانة عزيزة، وأهداف جليلة تنتظر جهود الجميع وإخلاص الجميع وتكتل الجميع والتلاقي بين الجميع على ما يحفظ لكل مكانته وحقه، ويحفظ لكل قضية مكانتها وحقها على الجميع.

ن. شبيب