تصوير كل القواعد الجوية
ومساء نفس اليوم – السبت 3 يونيو – وصلت تلك الطائرات إلى إسرائيل، حيث هبطت فى مطار مهجور وسرى بصحراء النقب جنوب شرق القاعدة الجوية الإسرائيلية فى بئر سبع، انه نفس المطار السرى الذى كانت القوات الجوية الفرنسية قد استخدمته فى سنة 1956 فى مهمات بالغة السرية ضد مصر إثناء الغزو الثلاثى البريطانى الفرنسى الاسرائيلى .
وفى مسار حرب يونيو الكبرى والوشيكة، فان تلك الطائرات ستقوم بمهمتها شديدة السرية بكل الإتقان لتصوير القواعد الجوية لمصر وسوريا والأردن، وكذلك مواقع القوات المسلحة وكل تحركاتها بتفصيل شديد الدقة .. وأول بأول .. وليلا ونهارا .. وفى كل طلعة تقوم كل واحده من طائرات التجسس هذه بتصوير خمسمائة قدم من الأفلام مطبوع عليها أوتوماتيكيا الوقت والتاريخ والارتفاع الجوى وزاوية التصوير .. الخ ..
أما فى المطار السرى الاسرائيلى ذاته .. فان أطقم الفنيين الأمريكيين تقوم بإعداد كل طائرة للطلعة التالية، بينما يقوم نحو ستين من الفنيين بتفسير وتحليل ألاف الأقدام من الصور التى يتم التقاطها فى كل طلعة، لقد كان يتم طبع أربعة نسخ من الصور التى يجرى التقاطها .. حيث يحصل الإسرائيليون على نسخة منها فورا .. ويحتفظ الأمريكيون بنسخة أخرى – ثم تركها للإسرائيليين بعد الحرب – بينما النسختين الباقيتين يتم إرسالها إلى الولايات المتحدة رأسا .
وحينما سيتم ضرب سلاح الطيران المصرى فى اليوم الأول من الحرب، وتضطر القوات البرية المصرية إلى التحرك ليلا بسبب حرمانها من الغطاء الجوى، فان الصور التى ستلتقطها لها تلك الطائرات طوال الليل ستصبح هى المفتاح الذى يمكن إسرائيل من الضرب بعد ذلك بكل دقة وأحكام .
إن تلك الطائرات سوف تحول مجهودها إلى الجبهات الأخرى بمجرد فراغ إسرائيل من الجبهة المصرية.. وستظل تقوم بمهماتها السرية هذه حتى الثانى عشر من يونيو، حيث عادت بعدها مع معداتها وفنييها إلى قواعدها فى أوروبا، ولكن فقط بعد التنبيه الصارم على كل شخص – طيارا وفنيا .. وبشكل فردى وجماعى .. بالا يتفوه باى كلمة لاى شخص مهما كان .. عن تلك المهمة شديدة السرية .. ولا حتى مع زملائهم أو مع بعضهم البعض، بل انه زيادة فى الاحتياط، طلبت منهم قياداتهم خلع ملابسهم واحدا بعد الأخر ليصبح عاريا تماما كما ولدته أمه .. ثم السير عبر ممر خاص .. وبعدها يرتدى ملابس جديدة مختلفة .. وبذلك تحوطا لاحتمال أن يكون أى منهم قد احتفظ معه باى شئ يشير إلى انه كان فى صحراء النقب، أو فى إسرائيل .!
قتل الديك الرومى
ولم يكن يعرف بكل الترتيبات شديدة السرية سوى حفنة قليلة للغاية من كبار مساعدى الرئيس الامريكى جونسون، وفى مقدمتهم بالطبع والت روستو مستشاره للأمن القومى الذى تتجمع فى مكتبه كل خيوط السياسة الأميركية " الأخرى " .. الخفية .. والتى أصبحت تطلق اسما رمزيا على هذه العملية الكبرى التى ستجرى ضد مصر قريبا، وهى عملية " قتل الديك الرومى " .! .
أما من الناحية الرسمية فان الرئيس الاميركى يستوفى أوراقه تماما كصانع سلام لا يعرف شئ باسم " الديك الرومى " .. ولا عن الخطة السرية لقتله، وهكذا فانه فى يوم السبت 3 يونيو قام بتوقيع رسالة رسمية صاغها له مستشاره للأمن القومى والت روستو وموجهة إلى ليفى اشكول رئيس وزراء إسرائيل ويقول فيها : " يجب بل وضرورى آلا تجعل إسرائيل نفسها مسئولة عن المبادرة بالإعمال العدوانية، إن إسرائيل لن تكون وحدها إلا إذا قررت المضى وحدها، ونحن لا نستطيع أن نتخيل اتخاذ إسرائيل لهذا القرار" .
لقد كانت تلك الرسالة معدة منذ أسبوع، لكن والت روستو لم يطلب من رئيسه توقيعها إلا فى 3 يونيو قائلا له فى المذكرة المرفقة : " قد يكون ملحا أن نضع هذه الرسالة فى السجلات الآن رسميا " .
وفى اليوم التالى – الأحد 4 يونيو – قام والت روستو بإرسال مذكرة سرية إلى كل من دين راسك وزير الخارجية وروبرت ماكنمارا وزير الدفاع تتضمن ما اسماه " سيناريوهات " الأحداث المقبلة فى الشرق الأوسط .
وخلال 24 ساعة فقط لم تكن تلك " الأحداث المقبلة " سوى الهجوم الكبير ضد مصر .. أو بدء عملية " قتل الديك الرومى " .. بإخراج سلاح الطيران المصرى نهائيا من المعركة، إن الأردن كان قد وقع مع مصر معاهدة للدفاع المشترك قبل خمسة أيام فقط، ولكن الحدود الأردنية مع إسرائيل هى أطول حدود عربية وتتجاوز 540 كيلو مترا، فبينما يتجاوز حجم الجيش الاردنى خمسين ألفا، والحرس الوطنى المخصص لمساعدة الجيش فى حالات الطوارئ كان قد ألغى قبل سنة، وسلاح الطيران الاردنى لا يتجاوز 24 طائرة، ولا تملك الأردن سوى مطارين اثنين فى عمان والمفرق .
ولذلك ففى غياب غطاء جوى فعال تحصل عليه الأردن من الخارج، تصبح الضفة الغربية صيدا ثمينا مغريا بالنسبة لإسرائيل، فإذا لم تقدم مصر هذا الغطاء لأنها الهدف الأول للضربة الإسرائيلية .. يصبح الأمل معلقا على سوريا، ولكن العلاقات الدبلوماسية كانت مقطوعة بين الأردن وسوريا ولم تعد سوى قبل أيام قليلة، فضلا عن انه لا توجد أية خطط سابقة للتنسيق بين الجبهتين وفوق هذا وذلك .. فبمجرد أن فرغت إسرائيل من سلاح الطيران المصرى ظهر الخامس من يونيو، استغرق منها القضاء على الطيران الاردنى والسورى 25 دقيقة .
الضربة الجوية
وكما رأينا من قبل، كان التشويش المسبق على أجهزة الرادار المصرية عاملا أساسيا فى الخطة الإسرائيلية فى نقس الوقت كان هناك فى البداية احتمال قائم بالنسبة للسفن الحربية السوفيتية فى البحر الأبيض المتوسط، ورادارتها تستطيع بالتأكيد متابعة ما يجرى، وهو أن تقوم بتحذير القيادة المصرية من الهجوم الاسرائيلى الوشيك بمجرد أن تبدو علاماته، لكن الأمريكيين أكدوا لإسرائيل من قبل انه لا يوجد أى اتصال مباشر بين السفن السوفيتية فى البحر الأبيض وبين القيادة المصرية، وان البديل الوحيد هو أن تقوم تلك السفن بنقل ما يجرى إلى موسكو أولا، ثم الاحتمال الأضعف هو أن تقرر موسكو، بعد أن تفكر وتفكر، فى نقل تلك المعلومات إلى مصر .. ولحظتها سيكون الوقت قد فات تماما، وفى جميع الحالات فان الولايات المتحدة كفيلة بمنع حدوث أى تدخل سوفيتى من أى نوع .
وكان أسلوب الطيران الاسرائيلى فى المهاجمة هو أن تتجه من إسرائيل شمالا إلى البحر الأبيض، ثم غربا بعرض البحر على ارتفاعات شديدة الانخفاض، ثم تنحرف جنوبا نحو أهدافها داخل مصر، وكل هذا يتم فى صمت لاسيلكى كامل وبتوجيه الكترونى مستمر، ومن البداية، من السفينة " ليبرتى " فضلا عن التشويش المسبق على أجهزة الرادار والاتصالات المصرية .
فى الموجة الأولى ركزت الطائرات الإسرائيلية على ضرب أجهزة الرادار وضرب الممرات فى المطارات العسكرية المصرية بقنابل شديدة الانفجار تم تصميمها خصيصا بحيث تترك فى الممر حفرة عميقة بقطر سبعة أمتار ويحتاج إصلاحها إلى عدة ساعات، وخلال ذلك تظل الطائرات المصرية عاجزة عن التحليق إلى أن تأتى الموجة الثانية من الهجوم الاسرائيلى فيتم ضرب الطائرات المصرية المتراصة على الأرض واحدة بعد الأخرى، وكان كل هذا يسبقه ويوازيه استطلاع وتصوير جوى اليكترونى تقوم به الطائرات الأميركية المنطلقة من القاعدة السرية فى صحراء النقب بحيث أن أى نطور جديد يتم نقله فورا إلى الطيارين الإسرائيليين وهم داخل طائراتهم، وقد حدث فعلا أن سربا من القاذفات المصرية تم توجيهه ليهبط فى مطار عسكرى فى جنوب مصر .. وبعد لحظات من هبوطه كانت الطائرات الإسرائيلية فوق المطار لتضرب هذا السرب الوحيد الموجود به.
المفضلات