بسم الله الرحمن الرحيم

يا “محمد”, هات كاتشب… !



بما أنني بعيد الآن عن القدس و عن شوارعها و أهلها, فما لي سوى أن أكتب عن أحوال شوارع البلد التي أعيش فيها حالياً… جدة. حقيقة قبل أن أبدأ فإن كثيراً من الناس أبدوا تحفظهم على كلامي الذي قلته في تدوينات سابقة من بيروقراطية للحكومة و تكاسل في إنجاز المعاملات, و قالوا بأن هذا الكلام قد يوصلني للسجن و الطرد من البلد. هذا فقط يعطيني مؤشر بسيط عن نوايا الحكومات العربية ككل بشأن التطور و الصعود إلى الأعلى. عندما أتحدث عن بيروقراطية حكومة فهذه ليست جريمة ولا حتى في مقاييس التخلف, و الأمر الآخر هو أنني أريد من الحكومة و موظفيها أن يتحسنوا و يتطوروا… أن يخدموا المواطن أولاً لا أن يسرقوا منه!

مقالتي اليوم سأكتبها عن أحوال شاهدتها كثيراً هنا, خاصة في المطاعم. أين أخلاقنا؟

سأسرد قصة قصيرة تكررت مشاهدها أمام ناظري عدة مرات, يدخل طفل صغير عمره ربما عشرة سنوات أو أكبر قليلاً إلى مطعم وجبات سريعة مثلاً. يبدأ الولد بإصدار الأوامر بكل فظاظة إلى الموظف, عمره قد يكون أضعاف عمر الولد الصغير, و يقف مكانه يتلقى الشتائم و الإهانات من الولد الوقح ليلبي له طلبه.

كنت جالساً على طاولة في زاوية من زوايا مطعم ما, و كان “الكاونتر” أمامي حيث تتقدم بطلبك و تدفع ثم تستلم, طلبت أنا ما أردت ثم جلست آكل. بعد فترة جاء ولد صغير طوله يكاد يصل الكاونتر, و سأله الموظف ماذا تريد فبدأ بإلقاء ما يريد عليه بشكل مزعج و بطريقة الأوامر العسكرية “هات واحد كذا و ثاني كذا, حط عليهم كذا و كذا”, و عندما يخبره بالحساب يناوله النقود “متفضلاً” عليه قائلاً “خذ”! و بعدما يجلس على الطاولة و يستلم طلبه يتذكر أنه يريد المزيد من الكاتشب أو الصلصة فيصرخ بأعلى صوته “يا محمد هات كاتشب!”. أي وقاحة هذه و أية قلة احترام للذات؟!

العديد من أصدقائي السعوديين اشتكوا لي سوء خدمة بعض موظفي المطاعم, و لكن المصادفة أنني أكلت في هذه المطاعم سابقاً و لا سوء في تعاملهم فاتفقنا أن نذهب كلنا و “نختبرهم”. تقدمت أولاً و طلبت ما أريد و رد علي الموظف بكل أريحية و ترحاب و لبى طلبي و لم أشعر أنه تضايق أو أساء معاملتي, عندما جاء دور أصدقائي عاملهم كما يعامل أي سعودي موظفاً مسكيناً مثله! ما هو السبب؟ قبل أن أتقدم بطلبي سلمت عليه و لم أناده بـ “محمد” بل “أخي” و بكل هدوء تفاهمنا على المتوفر على القائمة و الأسعار و دفعت ثمنها و شكرته عندما مد يده لي بباقي النقود. أما أصحابي فلم يسلموا بل بدأوا بإصدار الأوامر مباشرة و لم يشكروه و لو مرة واحدة أو يظهروا له أي لطافة أو طيبة.

بصراحة “محمد” هذه تزعجني أكثر من أي شيء آخر في الموضوع, هذا اسم نبينا صلى الله عليه و سلم, و مع ذلك قد ينادون به الموظف النصراني أو الهندوسي أو أياً كان ما دام وافداً. السعودي أو المقيم هنا لا ينادي أخاه الذي لا يعرف اسمه بـ “محمد” بل بألفاظ مثل “يا طيب, يا بوي, يا خوي…”, لماذا لا ننادى العامل بمثل هذا؟! هل نحن أعلى منهم طبقة مثلاً؟ هل تجرح “كرامتنا” جداً أن ننادي الموظف بـ “أخي”؟! أليس أخاك؟؟! أليس يشهد بأن لا إله إلا الله؟! و لربما علاقته مع ربه أفضل من علاقتك به, و صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم حينما قال: “كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه”… كم منهم يقوم الليل و يصوم النهار يظلم و يسكت, لو سل سيف الدعاء علينا ما سلم من الظالمين واحد. اتقوا الله فيهم, فإن الرزق على الله و إن الأرض أرض الله يورثها من يشاء من عباده.

“يا محمد هات و تعال” ليست مجرد مشكلة عابرة على لسان مجموعة أطفال عابثين, إنها ظاهرة اجتماعية تأصلت فيهم نتيجة تراكمات على المدى الطويل. تأصلت عندما يفعل الولد فعلته و والديه يجلسون على نفس الطاولة يسمعون ولدهم يصب الإهانات على العامل المسكين الذي يقف صامتاً, و الأهل صامتون طبعاً لا ينبسون ببنت شفة. لو فعلت أنا مثل هذه الفعلة النكراء أمام والدي لوبخني و أجبرني على الاعتذار للعامل. أين أخلاقنا؟ أين ديننا الذي يأمرنا بخفض الجناح للمؤمنين؟ أين دور الوالدين في كل هذه الفوضى الأخلاقية و الأزمة المتأصلة في نفوس كثير من سكان هذا البلد؟

علينا أن نفهم أن هذا العامل هو أولاً و أخيراً أجير يحاول كسب رزقه و وظيفته هي خدمة العملاء لا أن يستعبد. عندما يحمل هذا الموظف صينية الطعام إلى طاولتك و هو مطعم “خدمة ذاتية” علينا أن نشكره بحرارة على هذه الخدمة, لأنها ليست ضمن مهماته. و كذلك عندما نترك بكل إهمال و قذارة بقايا ما أكلناه على الطاولة و نغادر المطعم ثم يأتي الموظف لينظف ما تركناه. نفس الشيء, الخدمة ذاتية, عليك أن تحمل بقايا طعامك إلى سلة القمامة و تعيد الصينية مكانها. ترك البقايا هكذا هو من أعمال البهائم و ليس من أعمال البشر أصحاب العقول التي تفكر, و هذا ليس مطعماً من الدرجة الراقية إنه مجرد مطعم وجبات سريعة رخيصة!

يمكنني أن أقول أننا سنرى التطور و النهضة عندما أرى الولد الصغير يحترم الموظف كأنه أخوه الكبير أو عمه (على المقياس الصحيح للأخلاق لا على المقياس المنحرف). عندما نعامل العامل باحترام و تواضع سنتلقى خدمة أفضل منهم و هم سيشعرون بالراحة في عملهم و بالتالي سينعكس هذا على مستوى الخدمات و سرعتها. عندما نبدأ بتحمل نتائج اختياراتنا حتى النهاية سيبدأ مؤشر التطور و النهضة يصعد, و يصعد متسارعاً إلى أعلى نقطة, عندما نربي أبنائنا على الإحترام و الأخلاق, على الإنضباط و احترام القانون مهما كان, عندها بإذن الله سنكون نحن الغالبين و نحن أصحاب القيادة.

لا أريد أن نجلس “ننتظر” هذه اللحظة, الوصول إلى قمة الجبل لا يكون بالتخيل أو الجلوس على صخرة بانتظار أن تحمل “الطبيعة” هذه الصخرة إلى أعلى القمة. الوصول إلى الأعلى يحتاج إلى بذل المجهود في الصعود, يحتاج إلى العمل و ليس فقط الأقوال و الكلام و النظريات.
دمتم متواضعين.
________________________

الموضوع نشرته في مدونتي بتاريخ 15 مايو 2010-