بسم الله الرحمن الرحيم
لا تفكر, نحن نفكر عنك!
هذا هو الشعار الذي ترفعه الكثير من الحكومات و المنظمات و حتى الأفراد. ما عليك سوى أن تستريح و الحكومة أو المؤسسة تقرر ما يصلح لك و ما لا يجب عليك استخدامه دون تفسير أو إعطاء حجة المنع أو السماح.
ما يثير الموضوع في ذهني هو الحكومة السعودية تحديداً ضمن العديد من الأشياء. هيئة الإنترنت بالأخص. يحجبون المواقع التي يريدونها دون تفسير أو تبرير, أو حتى إعطاء المجال للناس للسؤال عن سبب المنع أو رفع الحجب فعلياً. أين ذهبت الأيام التي كان الناس يقررون فيها بأنفسهم ما يصلحهم وما يضرهم؟ ما يدور في ذهني فعلاً هو لماذا من دون كل بقاع الأرض فقط في السعودية الناس يرغبون و بشدة بدخول المواقع المحجوبة؟ لماذا الافتراض بأن الناس هنا "دائماً" همهم هو البحث عن موقع محجوب ليتصفحوه؟ لماذا مثلاً في بلدان أخرى الإنترنت مفتوح و مع ذلك فنسبة انتشار الفواحش أقل بكثير؟ لماذا؟!
الجواب هو لأنهم يعملون بالمثل القائل "أطعمه سمكة و لا تعلمه كيف يصطادها, و إلا فالنتيجة ستكون عدم الحاجة إلينا!". إنه لأمر مشين أن تقوم العديد من الحكومات بحجب المواقع الإلكترونية على اختلافها سواء سياسية أو إباحية أو غيرها, مثل الصين و السعودية و سورية, و تطبق سياسة تكميم الأفواه و "الصوت الواحد". لماذا يجب أن يكون رأي حكومتي هو الصواب ولا شيء آخر؟ لماذا لا يحق لي أن أطلع على وجهة نظر الطرف الآخر؟ أليس الحق مبني على الإقناع و الإقتناع؟ كيف تتوقع أية حكومة تحجب المواقع السياسية المعارضة أن تصحح من أخطاءها ما لم تستمع لمعارضيها؟ و كيف تتوقع أية منظمة (المنظمة كلمة واسعة تشمل الشركات و الحكومات... إلخ) أن تعرف كيف تتعامل مع الطرف الآخر ما دامت لا تعرف كيف يفكر, أو لا يعرف أفرادها كيف يفكر؟
الحكومة مقتنعة أن أفكارها و فقط أفكارها هي الصحيحة, لا مشكلة عندي في ذلك. هي تعرف وجهة النظر الأخرى و كيف يفكرون... إلخ. كيف يمكن للمواطنين أن يتقوا "شر" هذا الفكر "الدخيل الخاطئ"؟ هي مجرد تطبيق لسياسة لا تفكر و لا تتعب عقلك, نحن نفكر عنك و نوجهك كما نريد. ولى العصر الذي كان الناس يجلسون فيه في بيوتهم ولا يعرفون سوى أهل مدينتهم أو قريتهم, نحن الآن في عصر يمكننا فيه أن نحصل على أدق الأخبار في بقعة بعيدة في العالم في نفس اللحظة. و على فرض أن الناس في هذا البلد فكرهم سليم و يعيشون حياة سعيدة, هل تتوقع الحكومة الحكيمة أن أهل هذا البلد معزولون تماماً عن بقية العالم و لا تؤثر عليهم كل هذه "النزعات الشريرة الفاسدة"؟ هل تتوقع الحكومة الرزينة أن الناس لن يتطوروا و سيبقون كما هم فقط على معرفة بما حصل في بيت أبو محمد, و أخبار عائلة أبو العبد و غيرهم؟؟!
أن أفضل أنواع الدفاع هي التي تكون من النفس تلقائياً و ليست خارجية. المناعة التي ينتجها الجسم أفضل من التي يتلقاها و تتلاشى خلال فترة معينة, أما تلك التي يتعرض هو لها و يقاومها فإنه سيبقى مقاوماً لها لفترة طويلة. و التربية السليمة هي خير حماية ضد المؤثرات السيئة في الخارج, العائلة التي تربي أولادها على كيفية تقرير صلاحية هذا الخيار أو عدمه أولادها أكثر حصانة ضد الأمراض الاجتماعية و الأخلاقية خارج البيت. العائلة التي توجه أبناءها في الطريق الصحيح و في نفس الوقت تعلمهم كيف يختارون الوجهة الصحيحة في المستقبل هي أقوى العائلات و أفضلها. لأن هذا النوع من العائلات لم تحصن أولادها ضد مرض محدد بعينه, و بالتالي فإن لديهم القابلية و المقدرة على "غربلة" الأفكار و التصرفات التي تجوز و تلك الممنوعة و ذلك نابع من داخلهم و ليس بأوامر أو نهي من الوالدين. أما العائلة التي يقوم الوالدين فيها بعزل الأمراض عن أبنائهم و يوصلون لهم فقط ما يرونهم هم مناسباً لهم دون أن يبينوا لهم كيف اختاروا هذا الاختيار و ليس الآخر مثلاً فلن يقدروا على مقاومة نفس المرض متلبساً بشكل آخر, لأن الآلية لديهم غير موجود و كل ما يملكون هو "قاعدة بيانات" مخزن فيها أسماء الممنوعات و لا يعرفون غيرها.
و كذلك الحكومات التي لا تمنع عن مواطنيها الرأي الآخر, و لكن مواطنيها يرفضون من داخل أنفسهم الرأي الخاطئ هي من أنجح الحكومات و أقواها. لأنها قامت على العدل و حسن الاختيار. الحكومة التي تعلم مواطنيها كيف يعملون تفكيرهم يمكنها بكل سهولة مقاومة الرياح التي تهب ضدها, ببساطة لأن الناس حولها سيردون هذه الرياح إذا كانت خبيثة. و مثلها مقاومة المحتل, فإن المقاومة إن لم تكن نابعة من قلوب أهل البلد المحتل فإنها غير مجدية, المقاومة التي تأتي مدفوعة من جهات خارجية ليست مقاومة فعالة, لأن الدنيا مصالح و الجهة التي دفعتها تريد مقابلاً لما دفعت. إن نزع القناعات التي في الصدور أصعب من قلع صخور الجبال, لهذا فإن أول ما يدمر المحتل في أهل البلد قناعاتهم و أخلاقهم. لأن القناعة محرك قوي جداً ينبض في داخل الإنسان, لكن المحرك يلزمه وقود هو العمل و الجد. فلا قناعة من غير عمل, ولا عمل من غير قناعة.
الخطر الحقيقي هو تعطيل المناعة الذاتية للأفراد, فإذا ما خرجوا من البيئة النظيفة المعقمة من كل أنواع مسببات الأمراض إلى العالم القذر المليء بهذه الأمراض مرضوا سريعاً, بل سيكونون أول من يمرض عند وصول مرض جديد! لأن المناعة عندهم تساوي صفراً, و متى ما خرجوا من غطاء الأسرة الحامي (أو غطاء الحكومة) فإنهم سيتقبلون بسهولة أي تغيير يبعدهم عن جو الحرمان هذا (الذي هو برأيهم من غير مبرر, إذ أن أسباب الحماية والمناعة لم توضح لهم) حتى لو كان ضد مبادئ ثابتة (أو هكذا ظن أهلهم أو حكوماتهم) عندهم.
و لنتخذ رسولنا الأكرم صلى الله عليه و سلم قدوة, و لا أظن أن أحداً لا يعرف قصة الشاب الذي جاء يستأذن النبي بالزنا, لم ينهره الرسول صلى الله عليه و سلم, لم يقل له ما هذا العمل المشين الذي تريد ارتكابه؟! لم يقل له حرام ابتعد. حاوره و أقنعه, و امتنع الشاب عن فعل الزنا بقناعته الداخلية, لم يأته النهي من الخارج بل هو أمسك زمام نفسه و منعها الحرام. جاءت مناعته ذاتية عن قناعة عميقة بعدم مباشرة هذا الفعل, لم يتلق جرعة تخدير تكبته مؤقتاً ليعاود الإنفجار لاحقه. في كل مرة تحدثه نفسه بفعل الحرام فإنه سينهاها و يبتعد, لأن الوازع و المخدر موجود لديه ينتجه ذاتياً كلما احتاج إليه.
إن التغيير عملية ليست بالهينة, و في بداية الأمر فإنها ستعتبر كائناً غريباً سيقاومه الجسد, سيصاب بالحمى و سيلقى الأذى في سبيل منع التغيير. لكن التغيير الصحيح سيقاوم و ينجح؛ هل أنتم مستعدون لها؟ التغيير يبدأ بالأفراد قبل أن يبدأ بالرؤوس, و أساس هذا التغيير هو الأسرة لبنة المجتمع. لأن قاعدة الهرم تنتج رأسه, و متى كان أساس الإنتاج سوياً كان المنتج صحيحاً.
هدانا الله و إياكم الدرب الحق
________________________
هذه ملاحظة كتبتها في رد من الردود على الموضوع, و أرجو من الجميع اعتبارها قبل الخوض في النقاش
قبل البدأ في أي نقاش لا بد للأطراف من أن يتفقوا على نفس القواعد ليكونوا على نفس أرض الحوار و ليس كل واحد في واد مختلف
سأقوم بعرض المفاهيم التي بنيت عليها مقالتي, منعاً لأي سوء فهم:
الحرية: داخل حدود الشرع و القانون (باعتدال و تعقل) لك أن تفعل ما تشاء إلى أن تصل قريباً من الحد, و كثير من الناس يظنون أن الإسلام كأنه ساحة مغلقة (هي الحلال) و خارجها العالم بأكمله حرام حرام حرام. الإسلام هو كله حلال حلال حلال و هناك ساحة صغيرة هي الحرام.
المواقع المحجوبة: لا تعني بأي حال من الاحوال المواقع الإباحية أو التي تحض على الرذيلة, لكنها تلك المواقع التي تحجب تكميماً للأفواه أو انتقائياً طبقاً لمزاج الحكومة و هي ليس مشكل حقيقي و فعلي.
السياسة: مثل القول الرائج في بلادي "السياسة أخذ و عطا", و هو مثل يقال عند البيع و السوق, لكن السياسة و الحكم يعملان بنفس الشكل. لا يوجد شيء اسمه رأيي و بس! اختلفنا و اختلفت وجهات نظرنا و كلنا مصيب, وجهة النظر و الرأي لا ترد ما دامت بالحجة و البرهان. الأمور المحرمة قطعاً (فيها نص صريح لا يقبل التأويل) لا مجال للرأي فيها و لا يجوز تجاوزها و اعتبارها "حرية" (كما بعض الاخوة الذين يظنون أنني أدعو لفتح قنوات الاباحة و الخمارات!!).
البلد: عبارة عن معادلة تتكون من "شعب + أرض + حكومة" و هي ثوابت لا تتغير فالنتيجة دائماً واحدة, و متى ما اختل أحد أطراف هذه المعادلة كانت النتيجة مختلفة. أنا دائماً أحدد في كلامي من أقصد, هل أقصد الشعب (المجتمع) أم الحكومة أم الأرض. لا تخلطوا بين أقوالي و تفسروها بغير تأويلها.
النقاش: الإدلاء بالحجج الواضحة على صحة رأي معين بهدف الوصول إلى اتفاق أو فهم محدد و ليس فقط للمخالفة أو التغطية على الرأي الذي لا يوافق مزاجك. و من هذا المنطلق فإن النقاش يسير متسلسلاً, ننتهي من نقطة و تتوضح لدى الأطراف المتناقشة و لا يعاد إليها, ثم إلى غيرها.
عندما أقول أن البلد "س" لا مواصلات فيها, و لا صرف صحي ولا خطوط مياه صالحة للشرب لا يعني هذا أنني أشوه سمعة البلد. أنا أعرض حقائق موجودة في بلد محدد بعين ذاته و أي شخص يأتي إليه سيرى نفس ما رأيت و الشمس لا تغطى بغربال.
بدلاً من اتهام المتكلم بأنه يريد تشويه سمعة البلد و صورته أمام العالم علينا أن نعمل على تحسين هذا الوضع.
لو كان عندنا حائط متشقق و آيل للسقوط لا نقوم بتغطيته بورق جدران و ندعي أنه جديد, و عندما يأتي شخص يخبرنا أنه متشقق و سيسقط نتهمه بأنه يغار من جدارنا و يحسدنا عليه! بدلاً من تغطيته بورق الجدران الذي لا يغير من حقيقة الحال شيئاً علينا أن نصلح الجدار و نقيمه. إذا كنتم لا تريدون أن أتكلم عن ما هو موجود و رأيته بأم عيني في البلد "ص" اعملوا على تحسين الوضع بدلاً من اعلاء الصوت بالغناء لمنع صوتي من الوصول, هل تخجلون من أن يتكلم أحد هكذا عن البلد؟ إذاً لماذا أنتم ساكتون عن وضعه هكذا؟!
و بدلاً من أن نمجد الحاكم و الدولة, و نبدأ بإنشاد الأغاني الوطنية و الأعلام مرفوعة, لنتذكر كلنا ماذا قدمت لنا هذه الدولة؟ ماذا قدم لي الوطن؟ الوطن يريدني كلي له, ماذا أعطيتني يا وطن؟! كيف ساعدتني يا حاكم؟ كيف سهرت على مصالحي و احتياجاتي؟!
دعوا عنكم الانجازات الصغيرة التي يكبرونها كثيراً بمجهر الاعلام, انظروا إلى إنجازاتنا الفعلية. أين صرنا بين دول العالم؟
لا تكذبوا على أنفسكم بعظائم انجازات حكوماتكم, ما زالوا يمتصون دمكم و يسحبون عرق جبينكم من جيوبكم, و ما زالوا يمسكون أيديكم بورقة عليها اسم "فلان" ليضعونها في صندوق الاقتراع.
ما زالت بعض حكوماتنا تدعم المحتل الصهيوني أكثر من دعم أمريكا و أوروبا كلها له, ما زالت بعض الدول العربية تحاول التقرب منها. ثم يأتيني بعض الأغبياء يقنع نفسه بأكاذيب الحكومة و يقول لي بأن كل هذه الحركات ما هي إلا لخداع الصهاينة ثم الانقلاب عليهم و طعنهم من الخلف و يعدد لي كم عندهم من العدة و العتاد!!!
المفضلات