محنة العلماء في زمن نطق الرويبضة
إلي من رمي بالتصنيف ظلماً:

اتل ما أوحي إلى نبيك -صلي الله عليه وسلم-:{ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} (فصلت:43).

والقرآن العظيم قد حوى قصص أنبياء الله ورسله مع أممهم وما ينالهم من الأذايا والبلايا في سبيل الدعوة؛ ولهذا فقد وفق من أفراد قصصهم وشرحها، وأحسن كل الإحسان من ألف باسم: "دعوة الرسل".

وهذه سنة من الله ماضية لكل من سلك سبيلهم، واقتفي أثرهم.

ألم تر سير الصحابة والتابعين وأتباعهم في كل عصر ومصر إلى عصرنا الحزين، كيف يقاومهم المبطلون، ويشنع عليهم المبطلون.

وفي هذا مواقف لا تحصى، وقصص لا تنسى، وإذا قرأت كتاب: "من أخلاق العلماء" رأيت من ذلك عجباً.

فكم في سيرهم الشريفة من إمام ضرب بل قتل، وإمام سجن، وإمام نفي، وإمام عزل وأهين، بل فيهم الملبسون، وأرجف به المرجفون، وهم منها براء، والمرجفون في قرارة أنفسهم عليها شهداء.

وخذ أمثلة على هذا فيمن رمي بشناعة وهو منها برئ:

فرمي جماعة من فحول العلماء بالتشيع، وآخرون بالنصب، وآخرون بالتجهم، وغير ذلك، وهم من هذه النحل الفاسدة براء.

ومنهم -أجزل الله مثوبتهم- من حكي ما وقع له على سبيل ما من الله به عليه من لزوم السنة، ونصرتها، والدعوة إليها، ورجاء مضاعفة الأجر بما يصنعه الأضداد البؤساء.

وفي حياة الأمام أحمد -رحمه الله تعالى- وهو يعيش بين محنة الدنيا والدين، وعبرة للمعتبرين.

وخذ على سبيل المثال: ابن العربي المالكي المتوفي سنة 543هـ -رحمة الله تعالى- إذ يقول في فاتحة كتابه: "عارضة الأحوذي".

"فإن طائفة من الطلبة عرضوا على رغبة صادقة في صرف الهمة إلى شرح كتاب أبي عيس الترمذي، فصادف مني تبعاداً عن أمثال ذي، وفي علم علام الغيوب أني أحرص الناس على أن تكون أوقاتي مستغرقة في باب العلم، إلا أني منيت بحسدة لا يفتنون؟ ومبتدعة لا يفهمون، قد قعدوا مني مزجر الكلب يبصبصون، والله أعلم بما يتربصون:{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون} (التوبة:52).

بيد أن الامتناع عن التصريح بفوائد الملة، والتبرع بفوائد الرحلة لعدم المنصف، أو مخافة المتعسف، ليس من شأن العالمين، أو لم يسمعن قول رب العالمين لنبيه الكريم: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين} (الانعام:89)." انتهى.

وحياة بطل الإصلاح الديني بالمشرق شيخ الإسـلام ابن تيمية المتوفي سنة 728هـ -رحمه الله تعالى- مثل أعلى للعلماء العاملين، والدعاة المصلحين من أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين -صلي الله عليه وسلم-.

وهذا عصريه بالمغرب الإمام الشاطبي المتوفي سنة 790هـ -رحمة الله تعالى- يحكي حاله لما قام بنصرة السنة، فجن عليه الليل والنهار بقالة السوء المظلمة، فيقول -رحمة الله تعالى- (الاعتصام (1/20-22)): (فتردد النظر بين -أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل- وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فادخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤلفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في أتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت على القيامة، وتواثرت علي الملامة، وفوق إلى العتاب سهامة، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً لوجدت، غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقي صعباً، وضيق علي مجالا رحباً، وهو كلام يشير بظاهرة إلى أن اتباع المتشابهات، لموافقة العادات، أولي من اتباع الواضحات، وإن خالفت السلف الأول.

وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة.

فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزي إلى بعض الناس، بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة. وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.

وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة -رضي الله عنهم-، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب.

وقد سئل "أصبغ" عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين (إن كان يقصد الخلفاء الراشدين: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنهم- فلا، ومن نظر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مواضع من "منهاج السنة" رأى أن الترضي عن الخلفاء الأربعة الراشدين في خطبة الجمعة، من حسنات أهل السنة في مواجهة أهل الهوى والبدعة، الذين أنبتوا في وسط المسلمين مقالات الرفض، والنصب، فصار في الترضي عنهم على منابر المسلمين، وشهود عامتهم وخاصتهم، تلقين الناس للمعتقد الحق، ومنابذة ما سواه. فليعلم. وأما الدعاء مطلقاً لولي أمر المسلمين منهم فهو من سنن الهدى. انظر: "شرح الطحاوية": (379)، و "التأصيل": (1/67-77) لراقمه، وأما في خطبة الجمعة، وداخل الصلاة، ففيه بحث حررته في كتاب: "تصحيح الدعاء".) فقال: هو بدعة ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما أرى به بأساً عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئاً يصمد له في خطبته دائماً فإني أكره ذلك.

ونص أيضاً عز الدين بن عبد السلام: "على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة".

وتارة أضيف إلىًّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكرى لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.

وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أو في غيره. وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب "الموافقات".

وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين -بزعمهم- لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.

وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها -وهي الناجية- ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وَهَمُوا، والحمد لله على كل حال.

فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه؛ إذ حكى عن نفسه فقال: "عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين، والمنكرين فإني وجدت بمكة، وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أو مخالفاً، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك -كما يفعله أهل هذا الزمان- سماني موافقاً.

وإن وقفت في حرف من قوله أو في شئ من فعله -سماني مخالفاً-.

وأن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجياً.

وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبهاً.

وإن كان في الرؤية سماني سالمياً.

وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً.

وإن كان في الأعمال، سماني قدرياً.

وإن كان في المعرفة سماني كرامياً.

وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبياً.

وإن كان في فضائل أهل البيت ن سماني رافضياً.

وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما، سماني ظاهرياً.

وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنياً.

وإن أجبت بتأويل؛ سماني أشعرياً.

وإن جحدتهما، سماني معتزلياً.

وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني شافعياً.

وإن كان في القنوت، سماني حنفياً.

وإن كان في القرآن، سماني حنبلياً.

وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار -إذ ليس في الحكم والحديث محاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.

ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون علي من أحاديث رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي؛ ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً. وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم.

هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تعالى تكلم على لسان الجميع. فقلما تجد عالماً مشهوراً أو فاضلاً مذكوراً، إلا وقد نبز بهذه الأمور أو بعضها؛ لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة: الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة، أنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب.

وقد نقل عن سيد العبًّاد بعد الصحابة أويس القرني أنه قال: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقاً، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون في ذلك أعواناً من الفاسقين، حتى -والله- لقد رموني بالعظائم، وايم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه". انتهى.

وعليه فألق سمعك للنصائح الآتية:

1- استمسك بما أنت عليه من الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسلوك جادة السلف الصالحين، ولا يحركك تهيج المرجفين، وتباين أقوالهم فيك عن موقعك فتضل.

وخذ هذه الشذرة عن الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- (جامع بيان العلم وفضله (2/439): "قال أبو عمر: الذين رووا عن أبي حنيفة، ووثقوه، وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه.

والذين تكلموا فيه من أهل الحديث، أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي، والقياس، والإرجاء.

وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه.

قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، أنه هلك فيه فتيان: محب أفرط، ومبغض أفرط، وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مطر، ومبغض مفتر.

وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والله أعلم" انتهى.

2- لا تبتئس بما يقولون، ولا تحزن بما يفعلون، وخذ بوصية الله سبحانه لعبده ونبيه نوح -عليه السلام- {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} (هود:36).

ومن بعد أوصى بها يوسف -عليه السلام-: {قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعلمون} (يوسف:69).

3- ولا يثنك هذا "الإرجاف" عن موقفك الحق، وأنت داع إلى الله على بصيرة فالثبات الثبات متوكلاً على مولاك -والله يتولى الصالحين- قال الله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل} (هود:12).

4- ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء، والصفاء، والشفقة على الخلق، ما يحملك على استيعاب الآخرين، وكظم الغيظ، والإعراض عن عرض من وقع فيك، ولا تشغل نفسك بذكره، واستعمل: "العزلة الشعورية".

فهذا غاية في نبل النفس، وصفاء المعدن، وخلق المسلم.

وأنت بهذا كأنما تسف الظالم المل.

والأمور مرهونة بحقائقها، أما الزبد فيذهب جفاء.انتهى.


نقلا عن الكتاب الرائع "تصنيف الناس بين الظن واليقين" للعلامة "بكر بن عبد الله أبو زيد" وجزء منه في مقدمة الجزء الثالث من فتاوى معاصرة للشيخ القرضاوي -حفظهما الله تعالى
-.