ما يفعله أغنياء البترول العرب بثروة البترول من بطر وتبذير في بذخ أسطوري مبتذل لم يعد مقبولاً لا بمقاييس الأخلاق
ولا الذوق الرفيع ولا أحكام الــــدين. وهي أفعال تتساوى في مساوئها وسقوطها في سلُّم القيم الانسانية على
مستوى الأفراد والمسؤولين في مؤسسات الحكم المختلفة.
على مستوى الأفراد لا يحتاج المراقب لأكثر من التجوال في شوارع لندن التجارية ومناطق سكنها الفاحشة الأثمان
ليرى العجب العجاب. فأن يقود شباب خليجيون سيارات فارهة مطلية بالذهب وتصل أسعار بعضها الى أكثر من مليون
جنيه استرليني، أو أن يفاخر أحدهم بأنه اشترى رقم سيارته في مزاد علني في بلاده بتسعة ملايين جنيه، أو أن
يتبختر أحدهم بأنه نقل سيارته الأعجوبة من بلاده الى لندن بواسطة طائرته الخاصة، أو أن يزور أحدهم متجر مجوهرات
فلا يخرج منه الا وقد صرف عشرين مليون جنيه، أو أن يدفع بعضهم مئة مليون جنيه لشراء شقًّة فاخرة تطلُّ على
منتزه هايدبارك... فان يحدث كل ذلك من قبل أناس لم يمارسوا قط الانتاج أو الابداع أو العمل المضني فانه بطر مجنون
لابدًّ من طرح ألف سؤال وسؤال بشأنه كظاهرة فرضية تثير الغثيان ولابد أيضاً من مساءلة المجتمعات والأنظمة
السياسية التي فرخت تلك الظاهرة العبثيًّة.
على مستوى الحكومات تعبت الأقلام وجف حبرها وهي تكتب عن عبثية الصًّرف على شراء أسلحة لاتستعمل، على ا
علام يهبط بأذواق الناس ويكذب عليهم ويقودهم الى جحيم الصراعات المذهبية والقبلية والعرقية، على قصور ويخوت
وطائرات خاصة عزًّ نظيرها في قصص ألف ليلية وليلة، على اقتصاد ريعي لايبني تنمية انتاجية - معرفية مستدامة
وانما يلعب بالمال البترولي في ساحات القمار والمضاربات العقارية والأسهمية، ومن ثمًّ تذرف الحكومات الدمع على
تراجع خدماتها الأساسية الانسانية في حقول الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية للأطفال والمسنين والعجزة
والمهمشين والفقراء، وماذا تفيد دموع التماسيح وعجز الارادة.
لكن دعنا نورد لهؤلاء وأولئك ماحدث لدولة الأرجنتين، دولة السًّمن والعسل في القرن التاسع عشر فلعلنا نأخذ العبر
قبل فوات الأوان. يذكر الكاتب الانجليزي ألن بيتي في كتابه «الاقتصاد الكاذب» الذي يراجع تاريخ الاقتصاد في العالم،
أن الاقتصاد الأرجنتيني كان مشابهاً الى حد كبير وواعد بنفس المستوى للاقتصاد الأميركي. لقد كان كلاهما بلداً
زراعياً وغنياً. لكن مع مرور الوقت استعمل الأميركيون فائض ثروتهم الزراعية الهائلة لبناء اقتصاد صناعي من خلال
استيرادهم الفكر الصناعي الأوروبي. أما الأرجنتين فانها استعملت فوائض ثروتها الزراعية الكبيرة لاستيراد بضائع ا
لبذخ والرفاهية من أوروبا ولصرف جزء كبير من تلك الثروة على حياة البذخ والابتذال التي عاشتها الأقلية الفائقة الغنى
الأرجنتينية في مدن أوروبا. ونتيجة لذلك الفرق الهائل في الفهم والفعل بين البلدين انتهت أميركا بالتقدم الزراعي
والصناعي والتكنولوجي الهائل الذي نراه أمامنا، بينما انتهت الأرجنتين باعلان افلاسها المدوي منذ عشر سنوات
وهبوطها من عاشر اقتصاد في العالم في الخمسينيات من القرن الماضي الى البؤس الذي تعيشه الآن كدولة من
العالم الثالث الذي يكافح ويتعثًّر في نموه.
الأغنياء في الأرجنتين الذين ملكوا ثروة بلادهم الأساسية، ولكنهم ببلادة وطيش أضاعوها عبر العصور، يشبهون الى
أبعد الحدود أغنياء البترول في بلداننا، من الذين يتحكمون في ثروة هائلة وناضبة، ويمارسون نفس السًّفه : انهم
يكتفون باستيراد البذخ وعيش البذخ ويرفضون تنمية العلم والتكنولوجيا والانسان واستيراد الأفكار العظيمة القادرة
على الدفع الى الأمام. انهم سيدفعون بلداننا، عاجلاً وآجلاً، نحو نفس المصير الأرجنتيني: اضاعة فرصة تاريخية قد لا
تعود وانحدار تدريجي نحو الافلاس الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
عبر قرنين من الزمن عرفت عواصم الغرب سفهاً أرجنتينيا أضاع البلاد وأفقر العباد، وذلك من قبل أقلية معتوهة
جاهلة. اليوم تجول في عواصم الغرب لترى أقلية عربية معتوهة جاهلة تفعل الأمر نفسه وتقود نحو اضاعة البلاد
وافقار العباد.
منقول ,, بقلم د \ علي فخرو
المفضلات