السلام عليكم ورحمة الله

قرات مقالة للدكتور أحمد خالد توفيق اردت مشاركتكم بها فقد عجبتني بساطتها
ما دامت مصر ولاده ..

وفيها الطلق والعاده

حتفضل شمسها طالعه..برغم القلعه والزنازين

أحمد فؤاد نجم


***
عند ذلك التقاطع بين شارعين، كانت الإشارة حمراء لكن شرطي المرور الريفي البسيط سمح بالمرور لسيارتين تقلان بعض السادة الذين يعتبرون أنهم أكبر من القانون ، وهكذا تعالت احتجاجات راكبي السيارات الذين يذكرون الشرطي بأن الإشارة حمراء، فقال بطريقة متساهلة شبه أنثوية:

ـ"يا سنة سوخة .. أهو احنا كده يا مصريين .. عمرنا ما نشيل بعضنا !"

ثم أتبعها بالعبارة الشهيرة:

ـ"يعني هيا خصلة ؟"

بالطبع فاق هذا احتمال الجميع، فتصاعدت من عشرين سيارة تقريبًا عبارة (جاتك ستين نيلة) و(جاتك خيبة).. هناك كلام في غير موضعه، وليس هذا الحديث المائع عن التكافل الاجتماعي والتسامح بصالح عندما نتكلم عن إشارة مرور. هذه أشياء غير مطروحة للنقاش ومعنى تجاهلها تدمير المجتمع ذاته. أحيانًا يجب أن يكون المجتمع صارمًا قاسيًا، وهذا أقرب للرحمة والتماسك..

تذكرت هذه القصة بقوة هذه الأيام مع تزايد الكلام عن صحة الرئيس مبارك. تضارب إعلامي رهيب بين من يزعم أنه مريض ومن يزعم أنه في غيبوبة، ثم يأتي من يؤكد أنه بصحة ممتازة ويأكل الكافيار والشيكولاته. لكن النغمة السائدة هي: أيها الأوغاد الملاعين .. لقد آذيتم الأب بعقوقكم .. فلو كان فيكم خير لهرعتم زاحفين إلى شرم الشيخ تلثمون يديه وتطلبون الصفح ...

صوت شرطي المرور يتردد في ميوعة، حتى ليوشك هؤلاء على إنهاء كلامهم بـ (هيا خصلة ؟).

حتى قبل أن يتنحى مبارك انتشر البلطجية الرقميون عبر الإنترنت .. بعض هؤلاء صادقون ويفكرون بطريقة (هيا خصلة)، وبعضهم بالتأكيد يعملون لدى الأمن، وبعضهم بلا نقاش من المستفيدين من النظام السابق أو أنفقوا الملايين من أجل مجلس الشعب كي ينالوا أكثر، ثم فوجئوا بالجموع تحاول حرمانهم من هذا .. هكذا بدأت الحرب القذرة .. هناك فنان شهير قال إنه ينوي تمثيل دور مبارك في فيلم سينمائي فردت عليه قارئة مهذبة: "إزاي تمثل أسيادك يا حقييييييييير يا واطي ؟". شراسة لا يمكن تبريرها بالإخلاص وحده. هذه ذئاب كادت تفقد فريستها.

أسلحة هذه الحرب صارت معروفة للجميع، وهناك مقال جميل ظهر مؤخرًا وصار لدى كل واحد تقريبًا عن تقنيات الثورة المضادة التي تدور الآن. من ضمن هذه الأسلحة سلاح (خربتوها وقعدتوا على تلها ؟) وسلاح (وائل غنيم ماسوني) وسلاح (عندما يحكم البرادعي سيسيل الخمر أنهارًا من الحنفيات).. هناك سلاح لا يخيب هو (فلان المعارض الشريف راتبه كذا مليون) .. وهذا السلاح جربه أنس الفقي مع محمود سعد، كما جربوه مع إبراهيم عيسى في الماضي، وبالفعل نسى الناس القضية ليتحسروا على حالهم.. سلاح (النفسنة) لا يفشل أبدًا، لكن لم يسأل أحد هؤلاء نفسه كم يقبض أنس الفقي نفسه ؟... دعك من أن محمود سعد لم يسرق شيئًا .. هذا أجره وتم برضا الطرف الآخر، وعلى الأرجح يسدد ما عليه من ضرائب كاملاً.. إذن ما المشكلة ؟. هناك سلاح آخر هو سلاح (مبارك مريض وأخلاقنا تقضي بأن نصمت)..

الموقف يتلخص في التالي: "الرجل مريض وقلبه كسير .. دعوه ينعم بالنقود التي سلبها منا". فإذا تكلم أحد عن إعادة المال قالوا له: "ش ش ش !".. فإذا تكلم أحد عن المحاكمة قالوا له : "هذه ليست أخلاق الشعب المصري". وهو ذات منطق عمر سليمان عندما قال إن خلع الرئيس عبارة ليست من ثقافة الشعب المصري .. لعل لها أصولاً في اللغة الفارسية إذن ..

وعلى طريقة شرطي المرور تنتشر عبر النت التعليقات على غرار: "آه يا بلد .. آه يا شعب واطي .. من أسبوع كنتوا بتبوسوا جزمته ودلوقت بتقولوا رئيس سابق .. ". وهذا المنطق يقضي بأنه حتى لو حكمنا هتلر أو نيرون فعلينا أن نطيعه ونخلص له، ولا نزيحه أبدًا .. فإذا أزحناه فعلينا ألا نحاسبه أبدًا وإلا فنحن شعب واطي بلا أصل.

هذا العقد الاجتماعي الأبوي العجيب ظهر بوضوح في عصر السادات مع مفهوم (كبير العيلة). الحاكم هو أبونا الذي يعتبر الاعتراض عليه قلة أدب .. وأبناء جيلي يذكرون الطالب الجريء (عبد المنعم أبو الفتوح) عندما وقف يقول كلمة حق أمام السادات، فانفجر هذا غاضبًا: "تقول لي كده أنا رئيس العيلة .. رئيس البلد ؟!". وإن كنا لن ننسى للسادات أن هذا الطالب لم يختف أو يذوب في الأحماض. العقد الاجتماعي الذي يجب أن يسود تفكيرنا هو أن الرئيس موظف لدى الشعب .. راتبه يتقاضاه من الشعب .. الشعب يحاسبه فإن لم يرض عنه يستبدل به رئيسًا آخر. الشعوب التي فهمت هذا تقدمت والتي لم تفهم هذا صارت مثلنا. ولنا مثال عظيم في تشرشل بطل الحرب العالمية الثانية .. بعد الحرب جاءوا برئيس وزراء آخر يصلح لبناء البلاد .. شكرًا لما قدمته لإنجلترا يا أخ تشرشل وإن كان هذا واجبك.. ابق في بيتك.. بينما لو كان مفهوم الأب و(بطل التحرير) مسيطرًا عليهم لظل تشرشل رئيس وزراء حتى اليوم ..

أحببت (مبارك) فعلاً في فترة الثمانينيات حين كان وجهًا مشرقًا ذكيًا يحمل شرف البطولة في الحرب، ولديه استعداد هائل للسماع والديمقراطية. يبدأ عصره بلقاء المثقفين الذين زج بهم السادات في السجن. تشكو جريدة الشعب لسان وزير الداخلية زكي بدر البذيء الذي اتهم كل المعارضين في جلسة واحدة بالعمالة والكفر والشذوذ الجنسي، فيقوم بإقالته في اليوم الثاني. هناك قصة شهيرة عن كلمات قاسية وجهها له الشيخ الغزالي، والقصة تقول إنه حاول الاعتذار وتقبل النقد بصدر رحب. قرأت فيما بعد للدكتور ميلاد حنا أنه يحب مبارك الثمانينيات ويكره مبارك التسعينيات وما بعدها. مع الوقت والسلطة المطلقة وشلة المنتفعين والقرف من الشعب تضاءل رصيد الرجل من الحب، حتى توقف المرء ونظر حوله فأدرك أنه حاكم فاشل جدًا وفاسد ومفسد معًا .. كلما ارتفع جزء صغير من غطاء البالوعة شممت رائحة عطن لا مثيل لها، مع تشابك علاقات يستحيل فك خيوطه .. فلانة كانت زوجة فلان وهي الآن زوجة فلان، وشركتها سرقت الأراضي بمساعدة فلان، وفلان هذا هو المسئول عن صفقة كذا الفاسدة التي مولها فلان، وفلان الأخير هو الذي سهل قرضًا لعلان .. الخ .. لا علاج لهذا كله سوى الحرق ..

عندما قامت الثورة أدركنا المدى الذي يمكن أن يبلغه مبارك في عناده ورغبته في البقاء يومًا آخر، والغرض طبعًا هو إخفاء كل ملفات الفساد التي تتضمن اسمه، ورأينا كيف أنه حول مصر إلى أرض خراب وقطع عنها الهاتف الجوال والإنترنت والقطارات، وأطلق ذئاب الداخلية تطلق الرصاص الحي وتدوس الشباب في الشوارع. من أجل يوم آخر فليحترق المتحف المصري ولينهب، وليرش المصلون بسيول الماء ، ولتجب العصابات شوارع مصر تروع الآمنين. كان عبد الحليم قنديل يطالب دومًا بمظاهرة المئة ألف مصري على أساس أنها ستسقط النظام !... رأينا كيف أن النظام مصر على البقاء برغم أن هناك نحو ثمانية مليون مصري في شوارع مصر (حسب تقدير ألماني) !. لم أعد حسن الظن بمبارك على الإطلاق، وأعتقد أنه طلب أو كان سيطلب من الجيش إطلاق مدافع المدرعات على المتظاهرين، فهو قد برهن على مدى حبه وحنوه على الشعب المصري. وبالطبع رفض الجيش .

ومن جديد صاح عسكري المرور: "ما تسيبوه ست شهور ... هي خصلة ؟"

وماذا يفعله في ستة أشهر مما لم يفعله طيلة ثلاثين عامًا ؟..

لقد رحل مبارك .. لكن لابد من محاسبته بدقة وفك خيوط الفساد العفنة هذه، وهي مهمة عسيرة فعلاً لأنه بينما يدور هذا الجدل يتم حرق ملفات الفساد بانتظام في كل الوزارات.. أكبر دليل على أن النظام لم يتفكك هو الفتى الذي خرج يوم المولد النبوي الشريف من أقبية أمن الدولة، وقد أعلن على شاشة الجزيرة أنه كان سجينًا ويعذب بالكهرباء 3 مرات يوميًا حتى بعد تنحي مبارك بأربعة أيام !.. ولم يكن وحده..

الوطن عند تقاطع طرق مصيري. ربما رأى البعض أننا (ما لناش أصل) .. لكن هؤلاء السادة قد برهنوا منذ زمن على أنهم بلا أصل وأوطى مننا بمراحل. أما التعامل مع المستقبل بطريقة (هيا خصلة) فمعناه أننا لم نتعلم شيئًا.