حينما أقول الولايات المتحدة فأنا أعني الغرب إجمالا، هذا الغرب الذي يمثل حضارات متتالية، اليونانية ثم الرومانية، ثم الامبراطوريات، الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والهولندية والبرتغالية والألمانية و النمساوية، ثم ظهور القوة العظمى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

إن أحداث التاريخ منذ ظهور الدب الروسي في العالم المتمثل في الشيوعية البلشفية بُنيت على العداء المفتوح ما بين النظرية الشيوعية الاشتراكية وبين الديموقراطية الفردية الرأسمالية، وعلى الرغم من العداء التاريخي بين الإسلام والغرب، إلا أن الغرب وجد أن الضخامة الروسية في العالم تحتاج منها إلى إدخال عناصر أخرى في حربها مع روسيا، فكانت تبحث عن حليف قوي في الشرق الأوسط، والعجيب الذي لم يكن يعرفه كثير من الناس، أن مصر كانت على رأس قائمة الدول المرشحة لصدارة هذا المركز، فالولايات المتحدة لم تهتم بإسرائيل ونشأتها، بل كان كل الدعم يأتي من إنجلترا وفرنسا، ولذلك خاضت الدول الثلاث العدوان الثلاثي سنة 1958 بدون أي وجود لأمريكا، ولكن التهديد الروسي لبريطانيا وفرسنا باستخدام السلاح النووي جعل انتهاء العدوان أسرع، وجعل مصر حليفة لروسيا وانضوت تحت مظلتها، وفي المقابل انضوت إسرائيل تحت المظلة الأمريكية مباشرة.

ومنذ ذلك التاريخ والولايات المتحدة تدعم إسرائيل، حيث كان أول فيتو أمريكي ضد العرب، وضد مصر بالذات، في سنة 1967، وكان ضد قرار الأمم المتحدة القاضي بوقف أطلاق النار، والذي يعني تثبيت كل على موقعه، حيث رفضت أمريكا هذا الإجراء، لأنها ستتخدل لدعم إسرائيل لمعاودة السيطرة على بعض المناطق ولإثبات أن اللحظة الحاسمة كانت لصالح إسرائيل.

بعد مرور هذه العقود، تعلم الولايات المتحدة الأمريكية علم اليقين أن كلفة حماية إسرائيل كلفتها بليونات الدولارات، لذلك كان سعيها الدؤوب لحالة الاستقرار في الشرق الأوسط حتى لا تتكبد أمريكا سمعتها وأموالها لدعم طفلها المدلل، حتى جاء حكم الرئيس بوش الأب الذي الزم إسرائيل بالسعي الجدي للمفاوضات، وجاءت منظمة التحرير طواعية.

من شاهد أحداث مصر يتعجب، القيادة الأمريكية لأول مرة تكون مترددة وغير حازمة، هل تقف مع الشعب أو تقف مع الرئيس، ماذا يعني هذا؟
ماذا يعني أن يصدر بيان يؤيد حق المتظاهرين في التظاهر حينما يسح المتظاهرون من تصدى لهم؟ وحينما تعود سيطرة النظام السابق على الوضع يصدر بيان بأن بقاء مصر مهم جدا للمرحلة الانتقالية؟ ثم يصدر بيان آخر بأنه يجب خروج الرئيس؟ ودواليك!

ليست المشكلة في عدم وضوح الصورة للولايات المتحدة لمن تكون التبعة بعد ذلك، المشكلة في عدم قدرة الولايات المتحدة على ممارسة ضغط حقيقي على الرئيس المصري السابق، وعدم قدرتها في نفس الوقت على تأييده، هذا يعني أن قبضة الولايات المتحدة ليست بالقوة التي كانت عليها.

السؤال المهم.
هل يجب على النظام المصري القادم أن يكون ثوريا في العلاقات السياسية؟ أم ثوريا في الإصلاح الداخلي؟
إن معرفتك لقدرات خصومك في العالم و تعاملك مع هذه القدرات بحكمة هو عين الصواب.
الولايات المتحدة تخشى من أمرين فقط:
1- نشوء نظام مناوئ لها في مصر، ونشوء هذا النظام يعني منظومة عربية كاملة من العداء.
2- نشوء نظام معادي لإسرائيل.
بروز أحد هذين الأمرين سيؤدي إلى تقويض منجزات الثورة، وستعود مصر تعيش في دوامة الأنظمة الدكتاتورية.

لن تمانع الولايات المتحدة من نشوء نظام مشابه للنظام التركي، ليس من حيث كونه علمانيا، ولكن من حيث كونه يركز على تقوية العلاقات لا على تقويضها، فنشوء نظام جديد في مصر، ويكون ثوريا من الداخل، بحيث يصحح أوضاع الناس، ويلغي تهميش دور المجتمع، ويقيم عمود العلاقة الاجتماعية والعقد الاجتماعي، وينشء جيلا جديدا لم يتربى على الذل والسكوت، ينشئ جيلا يتحمل المسؤولية، هم شباب هذا اليوم، وفي مقابل ذلك تسود الحكمة العلاقة بالمحيط العالمي، فليست بحاجة لإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل جذريا، فمصر في حالتها هذه غير مهيئة للإصلاح الجذري الخارجي، فتبدأ بتصحيح علاقاتها، وذلك بأن تتعامل مع الدول الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا و أمريكا الند بالند، لا تبعية ولا عداوة.

الشعب المصري يريد أن يتنفس هواء الحرية، يريد أن يرى ثمرة ذلك، وهذه الثمرة لن تأتي ببناء العداوات وروح الانتقام، يجب التمهل في العلاقات الخارجية، وبنائها على روح الندية، لا روح العداء ولا روح التبعية.

نحن لا نستجدي الغرب بهذا الطرح، لكننا كذلك لا نود أن نبني عداوة بيننا وبينهم، حتى لو هم أرادوا صنع العداوة فبالإمكان تجاوزها بطرق عديدة، المهم تجنب البحث عن العداوة.