فى أيام العصور الوسطى المظلمة فى أوروبا كانت السلطة السياسية المطلقة فى أيدى البابوات ، و كانت محاكم التفتيش تصدر الأحكام بالسجن والتعذيب والحرق لكل من يقول بشىء يخالف نصوص التوراة والعهد القديم




و بمقتضى تلك القوانين سجن جاليليو حينما قال : إن الأرض ليست مركز الكون وأنها كروية وأنها تدور مع باقى الكواكب حول الشمس .. و كانت تلك الأقوال هرطقة و إفك و إلحاد و مخالفة للنصوص المقدسة فى نظر رجال الدين تستوجب أشد العقاب

و قد ظلت أوروبا غارقة فى ظلمات الجهل والتخلف .. واحتاج الأمر إلى ثورة على هذا الطغيان البابوى ، و إلى تحجيم سلطة الكنيسة لينطلق العلم و ينطلق ركب التحرر الفكرى و ليأتى عصر النهضة

وانكمشت البابوية إلى رقعة صغيرة فى الفاتيكان و خضعت أوروبا لمنطق جديد هو .. لندع ما لقيصر لقيصر .. و ما لله لله

و تقلص دور الدين إلى نشاط هامشى لا يبرح الأديرة والكنائس ، واستولى العلم والعقل والدهاء على كل مواقع الدولة

و كان ذلك أول ميلاد لفكرة العلمانية .. و لمبدأ فض الإشتباك بين الدين والعلم و بين الدين والسياسة .. و لم يكن للدين المسيحى ذنب فيما حدث .. و إنما كان ذنب البابوات الذين أساءوا فهمه و تفسيره و إلى رجال الدين الذين أخضعوا الدين لأهوائهم و مصالحهم

و مع مولد عصر النهضة فى أوروبا جاء عصر الصناعة وغزو البحار واكتشاف أمريكا وجاءت الرأسمالية والعملقة العسكرية الأوروبية وجيوش الإستعمار التى انطلقت تغزو شرقا وغربا وجنوبا

وفى تلك الأثناء كان المد الإسلامى الذى وصل إلى بوابة أوروبا الغربية فى الأندلس وإلى بوابتها الشرقية القسطنطينية .. كان ذلك المد الهائل قد بدأ يستنفد طاقته .. وبدأت خمرة النصر و سوس الترف وأمراض الوفرة والرخاء تأكل أوصاله .. وبدأ يتمزق إلى دول ودويلات وطوائف تقاتل بعضها بعضا

وكانت المواجهة بين العسكرية الأوروبية الفتية وبين الخلافة الإسلامية المريضة المترهلة مواجهة غير متكافئة .. انتهت بسقوط الخلافة وتمزقها تحت أقدام الإستعمار

والباقى نعرفه فقد عاشه أكثرنا ، فنحن كدول شرق أوسطية لم نتحرر من الإستعمار إلا منذ سنوات قليلة

وقد خرج الإستعمار بعد أن خلف جحافل من الغزو الثقافى وجحافل من العملاء ونظما تعليمية متخلفة تخرج الموظفين ، واقتصادا تابعا متطفلا يعيش على القروض والمعونات

وضمن موجات ذلك الغزو الثقافى جاءتنا الوجودية والماركسية والإشتراكية والعرى والإنحلال والفن الهابط ، ومزقتنا الإشتراكية إلى يمين و يسار ، وإلى فرق وطوائف يحارب بعضها بعضا

ثم ماتت الشيوعية بالسكتة وانحسرت الموجة الماركسية عن كل العالم ما عدا بلادنا الإسلامية .. فقد بدل الماركسيون القدامى ثيابهم ولبسوا لنا ثوبا جديدا اسمه العلمانية .. و راحوا يروجون من منابرهم ان ما جرى علينا من تخلف كان بسبب الدين واننا نعيش فى محاكم تفتيش إسلامية جديدة سوف ترتد بنا إلى ما يشبه العصور الوسطى فى أوروبا .. وانه لا نجاة لنا إلا بثورة علمانية تخلصنا من هذه الرجعية الدينية وتضعنا على عتبة نهضة حقيقية مثلما حدث فى أوروبا أيام طغيان الكنيسة

و نقول لهم : لا مثلية هناك ولا تشابه فى الحالين ، فتخلفنا غير ما كان عليه تخلفهم .. فالإسلام عندنا لا يقف عقبة أمام التكنولوجيا أو الكمبيوتر أو علوم الكهرباء والذرة والإلكترونيات أو الفلك أو علوم الفضاء

ولم يحدث قديما ولا حديثا أن كان هناك تناقضا بين الإسلام والعلم ، ولم يحدث أن اضطهد الحكام المسلمون العلماء أو سجنوهم بسبب نظرية فى الفلك أو مقولة فى الكيمياء ، بل كان العكس هو القاعدة ، فقد شجع الحكام المسلمون العلماء وأمر القرآن فى صريح آياته بطلب العلم وبالتفكير وبالنظر فى علوم السماء والأرض

قُلِ انظُروا ماذا فِى السَّمٰوٰتِ وَالأَرضِ 101 - يونس



فَليَنظُرِ الإِنسٰنُ مِمَّ خُلِق 5 - الطارق

أَفَلا يَنظُرونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَت ﴿١٧﴾ وَإِلَى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَت ﴿١٨﴾ وَإِلَى الجِبالِ كَيفَ نُصِبَت ﴿١٩﴾ وَإِلَى الأَرضِ كَيفَ سُطِحَت ﴿٢٠﴾

الغاشية 17-20

قُل سيروا فِى الأَرضِ فَانظُروا كَيفَ بَدَأَ الخَلقَ العنكبوت - 20

وَقُل رَبِّ زِدنى عِلمًا طه - 114

و لم يكن فى الإسلام كهنوت ولا رجال دين ولا حاكم مقدس يقوم بالوساطة بين الله والناس ولا أحبار لهم سلطة أو ربانية على الخلق .. بل أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه و سلم بأن يقول العكس وأن يتبرأ من كل حول وطول

قُل لا أَملِكُ لِنَفسى نَفعًا وَلا ضَرًّا إِلّا ما شاءَ اللَّهُ 188 الأعراف

قُل لا أَملِكُ لِنَفسى ضَرًّا وَلا نَفعًا إِلّا ما شاءَ اللَّهُ 49 يونس

قُل ما كُنتُ بِدعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدرى ما يُفعَلُ بى وَلا بِكُم 9 الأحقاف

وهذا هو النبى المعصوم فكيف بمن هم أقل منه .. لا مكان لبابوية العصور الوسطى بيننا .. والذين يسعون إليها هم خوارج على الدين

ولا اشتباك ولا أثر اشتباك بين الدين والعلم ومن ثم لا مبرر ولا ضرورة لعلمانية تدعى فض هذا الاشتباك الذى لا وجود له

والعلمانية التى ظهرت فى البلاد الإسلامية بعد ذلك كانت لضرب الإسلام نفسه لا لنصرة العلم . واليهودى كمال أتاتورك الذى لبس ثوب الإسلام وحكم تركيا .. فرض عليها علمانية كانت فى حقيقتها استئصالا للدين من جذوره .. فقد عمد إلى إلغاء الحروف العربية واستبدل بها حروفا لاتينية ومصحفا لاتينيا وأمر بحلق اللحى وهتك الحجاب ، كما سجن الأئمة وعذبهم وقتلهم

والعلمانية التى يروجون لها الآن هى القناع الجديد الذى يتستر خلفه الشيوعيون القدامى الذين سقطت دولتهم وبارت تجارتهم وأصبحت أفكارهم رموزا للتخلف والجهل

وهم فى بحثهم عن راية جديدة يتجمعون حولها لم يجدوا غير راية العلمانية يضحكون بها على السذج والبسطاء الذين يأخذون كلمة العلمانية على أنها العلم .. وهى غير ذلك فهى مشتقة من العالم ( بفتح العين واللام ) .. العالم الظاهر بمعنى الدنيا .. فهم أهل الدنيا الذين لا يعملون إلا للدنيا ولا يرون وراء الدنيا شيئا يحسب له أى حساب .. فلا غيب .. ولا آخرة .. ولا شىء

يَعلَمونَ ظٰهِرًا مِنَ الحَيوٰةِ الدُّنيا وَهُم عَنِ الءاخِرَةِ هُم غٰفِلونَ 7 الروم

وأقول لهم : ماذا فعل الحكم العلمانى فى لبنان ، وقد قامت فى ظله حرب طائفية أبادت مئات الألوف ، وماذا فعل فى بنجلاديش بلاد الفقر والمجاعات ؟ وماذا فعل فى صومال ( سياد برى ) العلمانى الإشتراكى ؟ وماذا فعل فى مصر ( عبد الناصر ) العلمانية الإشتراكية التى سقطت مهزومة ومنهارة إقتصاديا فى حرب 67 ؟! . بل ماذا تقولون فى الحكم العلمانى فى الهند وفى ظله تهدم المساجد وتبنى مكانها المعابد الهندوسية وآخرها مسجد بابرى فى أيوجيا الذى هدمه الهندوس من أجل الإله رام وقتلوا فيه مئات المسلمين .. وماذا تقولون فى الحكومة العلمانية فى بورما التى قتلت وشردت ألوفا وملايين من المسلمين .. وماذا تقولون فى الحكم العلمانى الأوروبى فى صربيا الذى يمارس أبشع مجزرة عرفها التاريخ فى مسلمى البوسنة والهرسك

وهل كانت العلمانية إلا ذريعة جديدة لضرب الإسلام

ألم نقرأ لزميل علمانى فى مقال بالأهرام عن الحوادث الأخيرة .. انه لا يوجد إسلام معتدل وإسلام متطرف وإنما هو توزيع أدوار .. متهما بذلك كل ما هو إسلامى فى الحوادث الأخيرة ومقدما بلاغا للنيابة فى حق كل مسلم بلا إستثناء، فهم جميعا فى نظره مجرمون ولكنهم يوزعون بينهم الأدوار ، فالبعض يحمل أغصان الزيتون ويدعى السماحة والاعتدال والبعض الآخر يطلع على الناس بالمدافع الرشاشة

والموضة هذه الأيام هى ضرب المسلمين وقتلهم ومطاردتهم فى كل مكان .. من طاجيكستان إلى أذربيجان إلى البوسنة والهرسك إلى كوسوفو إلى ألبانيا إلى بورما إلى الهند وكشمير و سيريلانكا والفلبين و نيجيريا وليبيريا مرورا باللاجئين والفارين فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا من مسلمى المغاربة والجزائريين والأسيويين المساكين

ولا أحسبها إلا بداية .. وراءها ما وراءها ، ولا يفهم من هذه المقدمة الطويلة انى أختار الحكم الدينى والحكومة الدينية وأحبذ ولاية الفقيه ونظام الحزب الواحد وأرشح الجماعات الدينية الموجودة كبديل .. فإن كل هذا هو الآخر مرفوض تماما ولن يؤدى حتى إلى سيادة القيم الدينية التى نحرص عليها وإنما سيؤدى إلى العكس إلى ألوان أخرى من الديكتاتورية وحكم الفرد وإلى التفسير الإرهابى للنصوص ليصل الحاكم إلى مزيد من التحكم وإلى مزيد من السيطرة على العقول والرقاب

وهذا هو مولانا رسول لله يقول عن نفسه فى القرآن

قُل لا أَملِكُ لِنَفسى نَفعًا وَلا ضَرًّا إِلّا ما شاءَ اللَّهُ 188 الأعراف

وفى آية أخرى

وَما أَدرى ما يُفعَلُ بى وَلا بِكُم 9 الأحقاف

وبذلك ينفى عن نفسه أية ربانية .. وبالتالى ومن باب أولى ينفى عن أى حاكم مسلم دعوى الحكم بالحق الإلهى .. كما ينفى عنه العصمة

والإسلام بذلك قطع بأن الحكم فى الإسلام هو حكم بشر يخطئ ويصيب ويراجع ويحاسب وليس حكما دينيا معصوما

والإسلام السياسى كما أفهمه ليس انقلابا ولا اغتصابا للسلطة ، وإنما هو صناعة رأى عام إسلامى مستنير يكون بمثابة علامات طريق للحاكم الموجود .. والحاكم - أى حاكم - يحسب للرأى العام ألف حساب لأنه جاء بالتفويض والبيعة والوكالة عن هؤلاء الناس الذين يحكمهم

والهدف من الشريعة فى النهاية هو صلاح أمر الدنيا ، فالله أحل الطيبات وحرم الخبائث . فأهداف التحريم والحل هى مصالح العباد وليس النكال ولا التنكيل ولا التسلط على الناس ، وإنما قضاء مصالحهم على أحسن وجه .. والحكم المدنى المتمرس هو دائما أقدر على قضاء هذه المصالح من الحكم الدينى المتزمت المتجمد على حرفية النصوص . فما أكثر ما يلوى الحاكم هذه النصوص ويفسرها على هواه

وما أسهل ما يجد الفقهاء من يعينه على طغيانه .. وقد رأينا فى التاريخ الأموى والعباسى من هذه الأمثلة من الجور والظلم الكثير

والموقع الوسط بين العلمانية الرافضة العدوانية ( مثل علمانية كمال أتاتورك أو علمانية عبد الناصر ) وبين الحكومة الدينية المتشددة ( مثل حكومة الخومينى والملالى فى إيران ) .. هذا الموقع الوسط بين الإنحرافين هو الموقع الإسلامى الذى اختاره .. فالإسلام هو الوسط العدل بين جميع المزايدات يمينا ويسارا



والسياسة المصرية كانت دائما تتحرى هذه الوسطية منذ أيام سعد زغلول و حكم الوفد والأحزاب .. واجتهادات السنهورى القانونية فى استلهام الشريعة واجتهادات الشيخ محمد الغزالى والشيخ ياسين رشدى والدكتور أحمد كمال أبو المجد والدكتور محمد عمارة والدكتور يوسف القرضاوى وخالد محمد خالد كلها علامات مضيئة على طريق هذا الفهم الرحب المستنير لتطبيق الدين دون غلو أو مزايدة

وأكثر الأشكال السياسية المعبرة عن هذا الخط الإسلامى هو الديمقراطية البرلمانية والرياسة المنتخبة والتعددية الحزبية والمعارضة الواعية المستنيرة واستلهام الشريعة فى وضع القوانين

وهو نفس الخط الذى نجتهد فى تشكيله

وفى إطار هذه الوسطية سوف يسير نهر السياسة الحر يحكمه شاطئان من القيم الدينية الراسخة .. وفى حماية هذين الشاطئين لن تطغى تلك الحرية فتفيض وتتحول إلى ليبرالية إباحية منحلة كما حدث فى أمريكا وأوروبا .. كما أنها لن تتجمد فى داخل حزب واحد وفى يد ديكتاتور متأله أو قيادة دينية متحجرة تتعامى عن المتغيرات وتجور على مصالح الناس .. كما حدث فى حكم عبد الناصر والخومينى







هل نستطيع أن نصل إلى هذه الوسطية المثلى ؟ . أم أنّ تسارع الحوادث وتآمر الأطراف من حولنا واشتعال المزايدات التى تدفع فيها الأيدى الأجنبية ذوات الأعراض والنفوس المريضة ذوات الغل بمسيرتنا إلى مهلكها .. لن تدع لنا الفرصة

إن غليان العالم حولنا لا يطمئن

و لكن علينا أن نجتهد صادقين واثقين بالله وهذا كل ما نملك