نتيجة لشعور الكثير من المفكرين والأكاديميين والكتاب العرب في الخارج بالقلق إزاء الأوضاع الحالية للإنسانيات ومدى قدرتها على الصمود في المستقبل أمام التقدم العلمي الجارف الذي لن يتوقف كما يبدو عند أي حد.
وفي ضوء التحولات التي تحدث في العالم اليوم نتيجة غياب القيم والمبادئ التي تعتبر الركيزة الصلبة لبناء المجتمع الإنساني ، إضافة إلى التفكير بما يستجد من ابتكارات قابلة للظهور، ذهب العديد من المفكرين العرب في بلاد الاغتراب إلى أخذ دورهم في صياغة وتشكيل الثقافة والقوانين التي يمكن أن تعيد التوازن بين الإنسان والطبيعة.

فلم يقف العديد منهم عند حد معين في أبحاثهم العلمية، بل ذهبوا إلى أكثر من اختصاص في سبيل خدمة الإنسانية ومواكبة عصر العولمة، ومنهم الدكتور نديم سراج الذي توسعت اهتماماته من تخصص طب العيون إلى دراسة الهندسة ثم الفلسفة، ليتوصل بالتعاون مع مهندس ألماني وآخر فنان إلى ما أسماه بنظرية الفن الفرضي وعلم الجمال العملي.

وأوضح الدكتور نديم سراج، وهو من الأطباء العرب السوريين المغتربين في ألمانيا، أن علاقة الفن بالفلسفة، كانت ولا تزال متوترة وإن لم تخل من إيجابية، فالتنافس بينهما يأتي من ناحية الأولوية في تقويم ما هو تركيب العقل والمصير الإنساني.

وأكد هذا الأخصائي الذي يجمع في حياته بين حيوية الطب، ودقة الهندسة، وعمق الفلسفة، أن العلم لا يجلب ثقافة ، بل على العكس، الثقافة هي التي تجلب العلم، خصوصا بعد أن أظهرت التجارب العملية أن تقارب الشعوب لا يأتي إلا من خلال فهم القيم الإنسانية في المجتمعات الأخرى، مشيرا إلى أن الثقافة تحتوي على الفكرة وأساسها المنطق، والقيمة وأساسها محتواها.

وبما أن كتاب حرب الثقافات لا يزال موضوعا قائما ومثيرا للجدل، كانت النظرية الجديدة للدكتور نديم سراج هي تحليل عناصر الثقافة وتعريف مفاهيمها وتحديد تطورها واستمراريتها، وتؤكد أن من واجب الفلسفة أن تصوغ زمانها أو عصرها في مفاهيم أو تعاريف دقيقة ومتميزة.

وأوضح أن الثقافة هي الوعي، وعمود الوعي هو عنصرا المكان والزمان، لذا تعتمد نظرية الفن الفرضي بالنسبة لعنصر المكان، على كسر حدود فراغية معترف بها بناء على نظرية أقليدس، وذلك لفتح آفاق ومجالات جديدة، منبها إلى أن الإنسان اليوم يعيش في عالم محدود ومغلق قياسيا، وهو ما يشكل القاعدة التكنولوجية الموضوعية.

أما بالنسبة لعنصر الزمان، فسّر الدكتور سراج، أن الزمان المعروف هو الوقت الخارجي ويعتمد على الساعة التي تحتوي على محور واحد ومستوى واحد وعقربين يتحركان يمينا ويسارا، وهو ما يدل على أن التركيب النوعي للمستقبل هو نفسه التركيب النوعي للماضي، فيما يعتمد المفهوم الثاني للوقت على تغيير أو تبديل أو قلب أو ثورة في الوضع العام، وبالتالي يمكن تقسيم الوقت إلى نوعين: خارجي عددي ونوع داخلي حركي متغير.

ولفت إلى أن نظريته تتمثل في اعتبار الزمان كحركة عددية، بحيث يمكن ثني الوقت والتحكم فيه بإمداده أو تقليصه، فعلى سبيل المثال، يشعر الشخص المصاب بالملل بأن الساعة الواحدة تعادل 10 ساعات في حين لا يشعر الشخص المستمتع بالوقت وتمر الساعة عليه كأنها ثانية.

وقال إن النظرية تعتمد على كسر الساعة أي عودة محور أو اثنين أو عدة محاور أو إدخال عدد من العقارب، أو زيادة عدد المستويات، فتصبح الساعة في هذه الحالة متعددة المحاور، وبالتالي يمكن إنتاج صورة جديدة للوقت وتصميم جديد وفريد للشكل، مشيرا إلى أهمية العناصر المرتبطة بالمكان والزمان لبناء قاعدة فكرية تعرّف منشآت الوعي الإنساني.

وأشار إلى أن تعريف الوقت في الدين يعتمد على أن المستقبل بيد الله، في حين يؤكد التفكير الغربي إمكانية تحكمه بالوقت، الأمر الذي يسبب التصادم مع الثقافات الأخرى، لذا فإن التحليل الموضوعي للزمان يكشف إمكانية تقارب الفكر بين الشرق والغرب، ذلك أن الوعي بالزمان يحدد تصرف الأشخاص في المجتمعات الغريبة.

وتذهب النظرية الفرضية إلى تعريف علاقة الإنسان بالعالم ليس عن طريق حصر ماذا حدث في التاريخ، أو رصد ما الذي تغير في العالم من أنظمة وموازين، وإنما عن طريق فهم العالم كطبيعة باعتبار أن الطبيعة وحدها هي الباقية، أما الإنسان فزائل.

وتتعمق نظرية الدكتور سراج في فهم الفراغات وتتمحور حول فكرة المثلث بالذات، الذي أثبت قدرته في حل مشكلة التنافر بين الفن والفلسفة والعلوم، لأن الإنسان في نظرها ليس إلا أبعاداً يحددها المكان والفراغ المحيط به.

وباعتبار أن العصر الحديث قد جعل كل شيء قياسياً، أكد الباحث العربي إمكانية إخضاعه لتفكير نظرية مثلثات أقليدس التي تمتاز بالبساطة والبديهية والمباشرة والنقاء، بحيث يتم التحكم بأرقام مجموع زوايا المثلث والتغلب على محدوديات الخط المستقيم بتحويله إلى الخط المنحني إلى الخارج أو الداخل أي بصورة محدبة أو مقعرة، للحصول على تصاميم وأشكال جديدة وفريدة من نوعها.

وكشف البروفيسور سراج عن مجموعة من الرسوم والأشكال التي استعان بها ومنها رسم شهير لكنيسة ريغنسبورغ في ألمانيا وقلعة حلب التي تم التلاعب في تصميمها المعماري وتجريد شكلها الهندسي من زخارفه في إطار عقلاني ومدروس، لخلق صور جديدة غير متوقعة منها، مؤكدا أن هذه الطريقة التي تتم ضمن قواعد معينة، تعمل على اتساع الأفق الفكري، وترفع الحدود المصطنعة للأشكال.

وحول إمكانية تطبيق هذه النظرية في طب العيون، أوضح الطبيب العربي أن هناك قضايا علمية غير قابلة للقياس، ولكن يمكن معالجتها بطريقة أخرى تستند على فهم الإحساس والنفس التي تعاني من هذه المشكلات مثل أمراض الشبكية التي تعتمد على المعالجة المحلية للعين وأوعيتها الدموية ومعالجة العصب والإحساس وكيفية النظر من الناحية النفسية.

وقال إن دراسة تغيير الحس البصري في مرض شبكية العين بينت وجود أشكال وعلامات لا يتصورها الإنسان العادي عند المرضى المصابين، مشيرا إلى أن هذه الانطباعات غير المألوفة، مثل ازدواج العيون (مثل عينين بدل أربع عيون، دفعنا إلى مراجعة وتنقيح مبادئ الرؤية العادية والمرضية).

وأفاد أن النظرية الجديدة في طب العيون فتحت أمام هذا المفهوم أبوابا جديدة، والتفكير بالساعات (مثل وحدة قياس الزمن) من نوع جديد مع توسيع أبعاد الوقت من أعداد إلى مادة، فكانت نتائج هذا التعريف أن معنى الوقت يكمن في التغيير أو التحول النوعي للمادة، فأدى تطبيق هذه الفكرة إلى خلق صور جديدة تظهر تعدد أشكال الساعات مع محاور ومستويات متعددة كذلك توسيع مستويات سطوح الساعات، وبناء على هذا المبدأ تم الانتقال من النوعية إلى الوصفية والتغلب على المركزية واللجوء إلى اللامركزية للوقت وبهذا أصبح المركز فارغاً.

وأشار الدكتور سراج إلى أن النظرية العلمية الجديدة تشير إلى حرية حركة الوقت إلى الجهات المختلفة، بمعنى أن الوقت لا يمكن أن يعود إلى الوراء بل هو يتقدم دائماً إلى الأمام، بناء على أن الوقت يتحرك بخط مستقيم ولجهة واحدة من الماضي إلى المستقبل، وهو ما يتناسب مع التفكير الفني المبدع، موضحا أن هذا التعريف للوقت يعترض عودة التاريخ أو بعبارة أخرى التاريخ لا يعيد نفسه.

وأكد أن التأثير النفسي لفهم الوقت حساس جداً ومهم للحياة، وقد يؤدي إلى نتائج صارمة ومؤثرة كعدم احترام الوعد، لذا تلعب نظرية الوقت دوراً كبيراً في العلاقات الإنسانية، مشيرا إلى أن تداخل العلم مع فن الرسم من خلال تحليل الرياضيات المعاصرة والفراغيات المكسورة وتعداد أبعاد الزمن، فتح آفاقا جديدة ساعدت في التغلب على حدود قائمة وخلقت أشكالا جديدة مبتكرة، فاجتازت الصور الجديدة لقياس الوقت انطواء الساعات المعروفة من الرسام دالي DALI.

وأوضح الدكتور نديم سراج، في معرضه الذي أقامه على هامش مؤتمر اتحاد الأطباء العرب في أوروبا الذي انعقد في شبكة جامعة عجمان مؤخرا، تحت عنوان "الإدراك العادي والمرضي كقاعدة لبناء الوعي"، أن نقطة الانطلاق تعتمد على تغير الشكل الفني المبدع للتغلب على المقاييس المفروضة والقواعد السارية، أو ما يعرف بصورة تحويل المثلث في الرأس، وصورة ما يراه الإنسان المريض بشبكية العيون والتي لا يتصورها الإنسان العادي، وهو ما دفع إلى التساؤل عن عملية البصر وعلاقتها بالزمان والمكان.

أما أشكال الفراغ، فتتركز على توسيع فراغيات أقليدس وغير أقليدس إلى الفراغية الهندسية المكسورة، فأساس القياسات هو مثلث أقليدس، بينما تتركز أشكال الزمان، على الحركة أو الانتقال المسمى بالوقت الخارجي كساعة اليد، ثم التغيير المسمى بالوقت الداخلي، أو انقلاب أو تحويل الوقت وتوسيع أبعاده فيما يعرف بالوقت المتمدد أو المتقلص أو المكسور.

وعن أهداف ومعاني العمل، قال الدكتور سراج إنها تكمن في فرض أسئلة الوعي التي تجزم بتحديد محور الزمان والمكان حسب شخصية الإنسان المفردة وبغض النظر عن البيئة والمحيط، والتوجيه وعدم التوجيه لكيفية تحكم الإنسان بزمنه إيجابياً أو سلبياً، وكيفية تعامله مع وقته اقتصادياً وتوفيرياً أم مسرفا به، وتحديد قيمة الوقت، موضحا أن الإدراك غير الطبيعي يمكن اعتباره مرضياً أو مصدر العبقرية عند الإنسان المبدع، لأن أصل الإبداع هو الشذوذ في الشخصية كما رآها العالم الإيطالي "لومبروزو" ، ويؤكده المثل القائل "الجنون فنون"، بمعنى أن كل إنسان فنان على طريقته الخاصة.

وأكد الطبيب الفنان سراج، أن بالإمكان معالجة قضايا العصر الحديث والقضايا الاجتماعية الساخنة التي يعانيها الإنسان في حياته اليومية كالفقر والبطالة على أساس الوعي لعنصري المكان والزمان وفهمهما بطريقة صحيحة، لإيجاد طرق سليمة لحلها، مؤكدا ضرورة تجنيد العلم لحل القضايا الاجتماعية والمشكلات الطبية من خلال الطرق التكنولوجية الحديثة.

وأشار إلى أن الطريقة التكنولوجية القياسية غالبا ما تفشل في حالات الأمراض المزمنة، لأنها قاصرة وذات سببية واحدة، موضحا إمكانية تطبيق مبدأ النظرية الجديدة كطريقة جديدة للتصميم الهندسي للأبنية والهام فكري للمصممين والفنانين.

وقد أنشأ الدكتور نديم سراج مجموعات من الرسامين والمصورين والمهندسين أطلق عليها اسم "مؤسسات التواصل"، بهدف ابتكار طرق جديدة للتصميم باستخدام نظريته التي أسماها أيضا بعلم الجمال العملي: Operational Esthetics التي يمكن استخدامها أيضا في فن الأزياء والماكياج والإكسسوارات لابتكار تصميمات جديدة.

ويعلق الدكتور موفق غادري، وهو طبيب جلدية من الأطباء المغتربين في ألمانيا، على هذه النظرية بأنها القاعدة الأساسية لبناء العلم الحديث وتطور المجتمع العربي الذي يتخلف ثقافياً مع المجتمعات الأخرى.