بقروا بطن جارتنا
نهاد أخت ماهر كانت في الخامسة عشرة من عمرها في ذلك الوقت. الآن هي متزوجة ولديها ستة أطفال، قالت إنها كانت تحمل أختها الصغيرة على يدها عندما بدأ المسلحون بإطلاق النار"لا أعرف كيف سقطت من يدي، أصيبت بطلقة في رأسها وأنا أيضا وقعت على الأرض. أخذت أختي تحبو - وتفرفر - باتجاه أمي وهي تصرخ ماما.. ماما.. أطلقوا الرصاص على رأسها فسكتت على الفور. جارتنا ليلى كانت حاملا. عندما أصيبت بدأ الماء يتدفق من بطنها، وماتت. تظاهرت بالموت، وبعد خروجهم بقليل - لا أدري بكم من الوقت - بدأت أتفقد الجميع. فهمست لي أمي : ارتمي وتظاهري بالموت قد يعودون.
أجبتها لا آبه، فليعودوا ! عندها خرج ماهر - وإسماعيل في ما بعد. كنت أظنهما ميتين. ما إن رأيت ماهر ارتميت على الأرض، فقال : لا تخافي أنا ماهر. عندها اطمأننت أنا ووالدتي، وقمنا لحمل أختي سعاد ومساعدتها على النهوض فلم نستطع. لقد كانت مشلولة. طلبت من ماهر وإسماعيل أن يهربا إلى خارج المخيم وأن يركضا بأقصى سرعة حتى لو أضعنا بعضنا. لم يكن معنا مال، إذ أخذوا كل مالنا. كان لدينا عشرون ألف ليرة خبأناها في "كيس حفاضات" أختي الصغيرة، رغم أني تظاهرت أنه مجرد كيس حفاضات ! كان المسلحون يتكلمون بالعربية، لكن البعض منهم لم يتكلم على الإطلاق، كانوا شقرا، وعينوهم زرقاء، عندما هربنا، أضعنا ماهر وإسماعيل وبقيت مع أمي على أمل أن نذهب إلى مستشفى غزة لإحضار إسعاف إلى سعاد. أخذنا نتنقل من بيت إلى آخر ونحن ننزف. كثيرون لم يصدقوا في البداية أن مجزرة تحدث في المخيم، إلا عندما رأونا مصابين والدم يغطينا. وصلنا إلى مستشفى غزة فوجدنا أخواي الكبيرين أحمد ومحمد هناك أمام المستشفى. كانت الناس تتجمع عند مدخل المستشفى. كانوا يصرخون والرعب يسيطر عليهم.
كان الصراخ رهيبا، كأنه يوم القيامة، تركنا المستشفى بعد أن نزعوا منا الرصاصات وهربنا إلى منطقة رمل الظريف. أمي تعبت كثيرا من انتفاخ صدرها بالحليب، فأختي الصغيرة كانت ما تزال ترضع قبل أن تقتل، ومع موتها بدأت أمي تعيش حالة الفطام ! كان فطاما نفسيا وجسديا لم تستطع تحمله فمرضت كثيرا". سألتها عن أختها سعاد التي بقيت في البيت، قالت إنهم عادوا إلى البيت وضربوها "بجالون المياه" وأطلقوا عليها النار مجددا ! "بعد الحادثة، لم نعد نتكلم مع بعضنا عما جرى. كنا نخاف على بعضنا من الكلام. لذا، لم أسأل سعاد شيئا ! ! ".
عندما أذهب أحيانا لأنام عند والدتي، أذهب إلى بيتها في الروشة - الذي تسكنه كمهجرة منذ المجزرة. لا أحب أن أنام في بيتها في المخيم، - حيث جرت المجزرة لأني عندما أذهب إلى هناك لا أنام أبدا. قليلا ما تأتي أمي إلى بيت المخيم. بل هي لا تهدأ في مكان منذ حادثة المجزرة، وتتنقل باستمرار بين بيوت الأقارب والأصدقاء. لم نعد كما كنا أبدا. تصوري أننا عدنا وفقدنا أخي إسماعيل في حرب إقليم التفاح".
نهاد التي نجت من المجزرة، لا تجد اليوم ما تطعم به أطفالها، رغم تردادها كلمتي "الحمد الله" زوجها عاطل عن العمل منذ سنوات، هو يعمل في البناء، لكن الأجور المتدنية التي يتقاضاها العمال الآخرون تقضي على إمكانية إيجاد أي عمل، حتى لو قبل أن يعمل بأجر زهيد، فإن ذلك الأجر لا يكفيه، بسبب الغلاء الفاحش في لبنان، وهو لا يستطيع إيجاد أي عمل آخر بسبب التقييدات المفروضة على عمل الفلسطينيين في لبنان.
الجرح ما زال ينزف
قالت لي أم غازي التي فقدت أحد عشر شخصا من أفراد عائلتها. "لا تقلقي يا ابنتي أنت لا تذكرينني بشيء. فأنا لم أنس كي أتذكر والجرح ما زال ينزف. عندما جاء المجرمون إلى بيتي كنا نقيم ذكرى أربعين ابنتي. كانت قد توفيت في المبنى الذي قصفه الصهاينة في منطقة الصنائع، وكان مقرا لأبو عمار. جاء أفراد عائلتنا من صور للمشاركة في ذكرى أربعين ابنتي وكانوا جميعا هنا - نساء ورجالا. لم نكن نسكن في هذا البيت بل في الحي الغربي المتاخم لشارع المخيم الرئيسي - كان يوم جمعة. قتل يومها أخوتي وأولادي وزوجي وأصهرتي".
عندما دخلوا علينا كانوا اثني عشر مسلحا، يحملون البنادق والبلطات والسكاكين، لم نكن نعرف بالمجزرة بعد. كان الباب مفتوحا والبيت مزدحما بالنساء والأطفال والرجال. فصلوا الرجال عن النساء والأطفال. كانوا سيأخذون ابني محمود وكان يومها في الثامنة من عمره. قلت لهم "هذه بنت" فتركوه. اقتاد أربعة منهم النساء والأطفال تجاه المدينة الرياضية وبقي الرجال في البيت تحت رحمة الآخرين. أخرجونا من المنزل حفاة. مشينا على الزجاج المحطم والشظايا. في الطريق تعثر ابني بالجثث المذبوحة والمرمية هنا وهناك وكان يحمل أخته الصغيرة. صرخت قائلة "باسم الله عليك"، فانتبه المسلح وقلت له وهو ينتزعه من بين يدي: "دخيلك. لم يبق لي غيره". طلبت منه أن يقتلني بدلا منه. أتوسل وأتوسل - لكنه يصر على قتله. قال إنه يريدني أن أعيش بالحسرة والحزن طيلة عمري. وبينما أنا أتوسله وأرتمي على بندقيته وأديرها عن ابني، وضع يده خطأ على صدري. كنت اخبأ في "عبي" اثني عشر ألف ليرة فانتبه وسألني ماذا أخبأ. قلت "إذا أعطيتك إياهم تعطيني ابني، فقال نعم. طلبت منه أن يقسم بشرفه، ففعل ! ! ! ! أعطيته المال وأخذت ابني الذي كان يرتجف من الخوف. منذ ذلك اليوم ظهرت خصلة بيضاء في شعره.
وصلنا إلى المدينة الرياضية فوجدنا الصهاينة هناك. أخبرناهم بما يحدث وطلبنا منهم أن يساعدونا ويذهبوا لإنقاذ أولادنا ورجالنا، قالوا: لا دخل لنا. هؤلاء لبنانيون منكم وفيكم. وحبسونا في المدينة الرياضية طيلة النهار. كانوا يتكلمون العربية. عند المغرب، أخرجونا قائلين: إياكم أن تعودوا إلى المخيم. إذهبوا إلى مكان آخر. ذهبنا إلى الجامعة العربية سيرا على الأقدام. وجدنا اثنين سوريين، ظننا في البداية أنهما صهيونيان فقد كان شعرهما أشقر وعيناهما زرقاوين. أخبرناهما بما حصل لنا، وقلنا لهما إننا نبحث عن مكان نبيت فيه. فتحوا لنا الجامعة، وأعطانا أحدهما بعضا من ثيابه مزقناها ولففنا الصغار بها، إذ لم يكونوا يلبسون ثيابا كافية عندما خرجنا، لم يكن لدينا قرش واحد. لا ندري إلى أين نذهب، ولا نعرف شيئا عن رجالنا وأولادنا. في أربعين ابنتي فقدت زوجي وأربعة أولاد وستة من أفراد عائلتي".
أم غازي لم تسكن في بيتها مجددا، إذ لم تحتمل ذلك، عندما عادت إلى المخيم استأجرت منزلا آخر. تهدم بيتها القديم في حرب المخيمات، وتعيش الآن في ظروف مادية سيئة للغاية، كانت تتكلم على مهل وترتجف طيلة الوقت. تعيش منعزلة عن محيطها في ألم لا ينتهي.
انقضوا على الرجال بالبلطات :
شهيرة أبو ردينة التي ترفض التكلم عن المجزرة عادة، تكلمت وأخبرتني ماذا حدث. قالت : " كنا في الغرفة الداخلية نختبئ من القصف لأنها أكثر أمانا وبعيدة عن الشارع - يقع بيتها في الشارع الرئيسي حيث جرت المجزرة الأساسية - كنا كثرا في المنزل - قالت : بقينا فيه حتى الصباح. كنا نسمع أثناء الليل صراخا وإطلاق رصاص. عرفنا حينها أنهم يقتلون الناس. كانوا يتراكضون في الأزقة القريبة من بيتنا، فلم نجرؤ على الخروج. عند الفجر، خرجت أختي لتتفقد الحي وترى ماذا يجري. ما إن أصبحت في الخارج حتى صرخت "بابا" بصوت مرعب ثم سمعنا إطلاق الرصاص . خرج والدي وراءها فقتل أيضا. (وجدت جثة أخت شهيرة في ما بعد - مربوطة إلى النافذة وكانت منتفخة جدا). كان عمر أختي 17 عاما، أخي كان في الرابعة والعشرين من عمره. وزوجي في الثالثة والعشرين وابن عمي في الأربعين، أما والدي فكان في الستين، جميعهم قتلوا، جاءوا صباحا وأخرجونا من البيت، وضعوا الرجال أمام الحائط وانقضوا عليهم بالبلطات.
وانهمر عليهم الرصاص كالمطر ثم اقتادونا إلى الشارع الرئيسي و كنا نساء وأطفالا فقط. وضعونا أمام الحائط، وما إن هموا بقتلنا حتى سمعنا صهيونيا يصرخ بالعبرية. لم نفهم ما يقول، لكنهم هم فهموا وتوقفوا عن قتلنا بعدما تحدثوا معه بالعبرية. عندها أخذونا إلى المدينة الرياضية وحبسونا عند الصهاينة في غرفة صغيرة، وكانوا طيلة الوقت جالسين معنا يشحذون البلطات والسكاكين، أخبرنا الصهاينة ماذا يفعلون بنا في المخيم فلم يهتموا.
بقينا هناك، إلى أن بدأت الانفجارات. بدأت الألغام المزروعة في المدينة الرياضية تنفجر، فهرب الصهاينة إلى ملالاتهم، وهربنا نحن باتجاه الكولا ".
حاولوا ذبحنا على الطريق
محمد أبو ردينة ابن عم شهيرة كان في الخامسة من عمره عندما حدثت المجزرة قتل يومها والده وأخته وصهره. أخبرني محمد كيف قتلوا أخته. قال:"كانت حاملا عندما قتلوها. بقروا بطنها وفتحوه بالسكاكين وأخرجوا الجنين منه ثم وضعوه على يدها. والدي قتل أمام بيت شهيرة ابنة عمه. كنا نختبئ تلك الليلة في بيت عمي. أنا وأمي وأختي اقتادونا مع الباقين من نساء والعائلة وأطفالها إلى المدينة الرياضية وحاولوا ذبحنا على الطريق. كنت صغيرا ولم أع ما يحدث لنا. لم أع، إلا أني كنت خائفا جدا، وعيت المجزرة عندما كبرت بسبب الظروف الصعبة التي عشناها بعد ذلك. تدمر بيتنا في حرب المخيمات وأصبحنا بلا مأوى نتنقل من مكان إلى آخر. دخلت في ضياع تام بعد مرض أمي. في عام 1992 جاء أحدهم وأحضر لها شريط فيديو عن المجزرة فرأيت والدي وأختي. عندها أصيبت بجلطة في الدماغ، تحولت بعدها إلى مجرد صورة. كانت تتوه في الطرقات فأذهب للبحث عنها. كنت في حوالي الرابعة عشرة من عمري وليس لي أحد. وجدت نفسي مضطرا للاهتمام بها بدل أن تهتم هي بي، إلى أن ماتت عام 1995. اضطررت للعمل وأنا صغير جدا. والدتي عملت لبعض الوقت في تنظيف مكتب علي أبو طوق أثناء حرب المخيمات. كان علي يعطف علينا وساعدنا في ترميم بيتنا. أنا الآن وحيد وليس لي أحد. المجزرة غيرت مجرى حياتي ودمرتني".
محمد الان - في العشرين من عمرة. ابيض شعره بعد المجزرة مباشرة وهو في الخامسة من عمره والمأساة حفرت عميقا في قسمات وجهه. يبدوا الان اكبر من عمره بعشر سنوات على الاقل. قال انه يسعى حاليا للهجرة. اذ لم يعد يحتمل الحياة هنا ! ".
القتل ذبحا أو بكواتم الصوت منع الفلسطينيين من معرفة ما يجري في المخيم. كثيرون لم يصدقوا أن مذبحة تجري في مخيمهم. روى العديد من أهالي المخيم كيف كانوا يتجمعون في بعض المساحات يتسامرون ويتناقشون ويشربون القهوة. بينما تجري على بعد أمتار منهم عمليات ذبح وقتل. في ساحة الجامع، أخبرنا بعض المسنين كيف لم يصدقوا أن مجزرة تحدث في المخيم إلا بعد قدوم نساء وأطفال تغطيهم الدماء. قال "أبو محمد" إنه كان ضمن وفد الرجال الذي تشكل لمقابلة الصهاينة وتسليم المخيم لهم كي تتوقف المجزرة. كان أبو محمد "الوحيد" الذي نجا من الوفد، إذ تخلف عنهم وذهب لإحضار بطاقة هويته من المنزل. سرعان ما قتل أعضاء الوفد رغم خروجهم حاملين شرشفا أبيضا.
أخبرني أحد الرجال الذي رفض ذكر اسمه أن المخيم كان محاصرا بجيش الاحتلال من جميع مداخله. "عندما علمنا بالمجزرة أردنا أن نخرج لكننا خفنا أن يقتلونا. عند ذلك قام أحد الشباب بإشعال قنينة غاز ورميها في مخزن للأسلحة في المخيم. بدأ المخزن يتفجر فهرب الصهاينة والكتائب بعيدا عن مكان الانفجار. عندها تمكنا من الخروج من طريق على مقربة من المخزن المنفجر ! ".
توقفت المجزرة السبت في 18 أيلول، مئات الجثث في الشوارع والأزقة ترقد تحت أطنان من الذباب. أطفال مرميون على الطرقات. نساء وفتيات تعرضن للاغتصاب منهن من بقين على قيد الحياة، ومنهن من قضين عاريات في أسرتهن أو على الطرقات أو مربوطات إلى أعمدة الكهرباء ! ! رجال قطعت أعضاؤهم الجنسية ووضعت في أفواههم، مسنون لم ترأف بهم شيخوختهم ولم يعطهم المجرمون فرصة أن يرحلوا عن هذا العالم بسلام، ومن لم يقض منهم في فلسطين عام 1948 قضى في المجزرة عام 1982، حوامل بقرت بطونهن وانتهكت أرحامهن وأطفال ولدوا قسرا قبل الأوان وذبحوا قبل أن ترى عيونهم النور.
المقبرة الجماعية التي دفن فيها الضحايا هي اليوم مكب للنفايات ومستنقع يغرق في مياه المجارير ولا يسع الموتى - حتى في موتهم - أن يرقدوا بسلام ! ! أما الناجون، فيعيشون في ظروف إنسانية وسياسية صعبة، أقل ما يقال فيها أنها موت بطيء يلاحقهم - منذ المجزرة - أينما حلوا !
كيف نقرأ المجزرة اليوم ؟ أنقرأها كمجرد ذكرى نستعيدها أم نقول "عفا الله عما مضى " ونمضي إلى حياتنا وكأن كل شيء على ما يرام ؟ هل نكرر المطالبة بمحاكمة الفاعلين، اليوم وقبل الغد، أم ننتظر تغير موازين القوى الدولية والمحلية ونقول للعدالة أن تنتظر؟ من يقرر العفو عن المجرمين وبأي حق يعفو؟ وإذا قبلنا أن نعفو عن جرائم الحرب في لبنان فكيف نربي أطفالنا بعد ذلك؟ أنربيهم أن الحق للقوي أم نربيهم على الخوف بحجة حمايتهم من القتلة، أم نطلب منهم التغاضي عن دم الأبرياء، فينشأون "بلا دم" وفاقدي الحس والعدالة؟ وإن أكملنا على هذا النحو- ونحن أكملنا - أنمنع الكيان الصهيوني من ارتكاب مجازر جديدة ؟ ! وهل نمنع المجرمين الذين يعيشون بين ظهرانينا من تكرار ما فعلوا؟ وهل تصدق توبة تائب منهم - لو تاب؟ - لا يضع نفسه طوعا أمام القضاء ؟ ! !
من مجلة فلسطين الاعلامية
__________________
بكت نفسي على وانا ارى موتي ****** يارب السماء انصفنا فانت العدل الهادي
______________________________________
من سكت على ظلم فهو ظالم
من سكت عن حقيقة فهو حق بالدنيا والاخرة حق للاخر
من سكت وهو ذو لسان لم يستحق ماكرمه الله به وهو الكلام
من سكت وهو لديه قلم ليس حق بالقلم الكاتب _______________
(((((((((((______________________
المفضلات