كلما تطورت المدن الذكية كلما أصبحت الحياة فيها أكثر رفاهية وأكثر كفاءة، الآن نحن نرى مجرد نظرة عامة لما يمكن أن تحدثه الطفرات التكنولوجية الهائلة في عالم الاتصالات الإلكترونية وعلوم الحاسب في حياتنا اليومية، وتأثير ذلك على شكل البيئة العمرانية في المستقبل.

حتى وقت قريب كانت التكنولوجيا الذكية يُنظر إليها كأدوات لتحسين الكفاءة والانتاجية، ولكن اليوم أصبحت التكنولوجيا تصب بشكل مباشر في حياة السكان في أي مكان. فقد أصبحت الهواتف الذكية بمثابة المفاتيح الموجودة في أيدي الجميع، فهي حاليًا توفر للجميع معلومات بخصوص المواصلات وحالة المرور والخدمات الصحية وتحذيرات الأمان بالإضافة إلى الأخبار المحلية على مدار اليوم.

الآن قد تغير وضع التكنولوجيا بشكل كامل، فقد أصبح استخدام البيانات والتقنيات الرقمية عنصرًا أساسيًا في اتخاذ القرارات التي تعني السكان وتؤثر على حياتهم بشكل مباشر. بعد سنوات طويلة من المحاولة والفشل ثم المحاولة مرة أخرى، أدرك القادة والمعماريون المحليون أن استراتيجيات المدن الذكية تبدأ من السكان وليس التقنيات، فالأمر لا يتعلق بمجرد تثبيت واجهات رقمية في البنية التحتية والمرافق التقليدية، ولكن في الأساس الأمر يتعلق باستخدام التكنولوجيا والبيانات بشكل هادف واحترافي بغرض اتخاذ قرارات أفضل وتحسين جودة الحياة.

تعتمد جودة الحياة على الكثير من العوامل، بداية من الهواء الذي يتنفسه السكان، مرورًا بجودة الخدمات المقدمة من تعليم ورعاية صحية ووسائل مواصلات، انتهاء باحساس السكان بالأمان أثناء سيرهم في الشوارع، وبالفعل تمتلك التقنيات الحديثة القدرة على تحسين جودة العوامل المذكورة وغيرها. في هذا السياق نشر مركز ماكنسي العالمي للأبحاث تقريرًا بعنوان المدن الذكية : حلول رقمية من أجل حياة أفضل في المستقبل، أشار التقرير إلى كيفية تأثير التطبيقات التقنية المختلفة على كافة مناحي الحياة بالنسبة لسكان المدن، ووجد التقرير أن الاستعانة ببعض التقنيات الذكية يمكن أن يساهم في تحسين بعض مؤشرات جودة الحياة بنسبة تتراوح بين 10% إلى 30%، يمكن ترجمة هذه الأرقام في كثير من الجوانب مثل إنقاذ حياة العديد من الناس وانخفاض معدلات الجريمة وتقليل الأعباء الصحية بالإضافة إلى التحكم ومراقبة انبعاثات الكربون التي تؤثر في تلوث الهواء والبيئة.

ما الذي يجعل المدينة ذكية؟

تتمتع تقنيات المدن الذكية بقدرات هائلة على تحسين الجودة المعمارية للمدن عن طريق التخطيط المناسب وتوزيع المساحات بشكل يتناسب مع الكثافة السكانية وتوّفر الخدمات والمرافق في كل مكان. يتم ذلك عن طريق استخدام التكنولوجيا الرقمية وعلوم البيانات لاتخاذ القرارات بكفاءة أعلى طبقًا لأنماط العرض والطلب المتغيرة بشكل دائم وقدرة علوم تحليل البيانات على التكيف بشكل سريع مع هذه التغيرات واتخاذ القرارات المناسبة والأقل في التكلفة.

تعمل ثلاثة طبقات معًا بشكل متزامن لتأسيس المدن الذكية، أولًا القاعدة التقنية التي تضم كمية كبيرة من الهواتف الذكية والمستشعرات المتصلة معًا عن طريق شبكة اتصالات فائقة السرعة، وبالطبع ستسهل شبكات الجيل الخامس من هذه الخطوة بشكل كبير.

الطبقة الثانية تتكون من تطبيقات محددة، تقوم هذه التطبيقات بترجمة البيانات إلى إنذارات واتخاذ رد الفعل المناسب باستخدام الأدوات المناسبة، وهنا يأتي دور الشركات المصنعة للتقنيات المختلفة والمطورين.

الطبقة الثالثة مخصصة للإستخدام العام بواسطة المدن و الشركات والعامة، تساعد هذه التطبيقات المستخدمين على استخدام الطرق المناسبة أثناء ساعات الذروة وترشيد استهلاك الطاقة والمياه، وكذلك تقليل الضغط على منظومة الرعاية الصحية عن طريق التعليمات الوقائية.

محاربة الجريمة وحماية الأرواح

يمكن لهذه التطبيقات مساعدة المدن على محاربة الجريمة وتحسين بقية العوامل المرتبطة بالأمن العام. يمكن توظيف هذه التطبيقات لتقليل معدلات الوفيات الناتجة عن القتل وحوادث الطرق والوفيات بنسبة تتراوح بين 8 إلى 10%، قد يساهم ذلك في الحفاظ على حياة 300 شخص كل عام في مدينة يتخطى عدد سكانها حاجز 5 مليون نسمة مع معدلات جريمة مرتفعة. كذلك يمكن تقليل معدلات جرائم الاعتداء والسرقة والسطو وسرقة السيارات بنسبة تتراوح بين 30 إلى 40% ما سيعطي السكان حرية التنقل والإحساس بالأمان والسلام النفسي.

التكنولوجيا ليست حلًا مباشرًا وسريعًا للجريمة، ولكن بوسع أجهزة الأمن الاستعانة بالبيانات لعمل نظام مراقبة للجريمة على مدار الساعة، على سبيل المثال استخدام التحليلات الإحصائية للتعرف على أنماط الجريمة قد يساعد في التنبؤ بالجرائم قبل حدوثها، بالإضافة إلى الاستجابة السريعة عند وقوع الجريمة والتعامل السريع معها عن طريق إرسال التحذيرات بواسطة أنظمة اكتشاف إطلاق النار وأنظمة المراقبة الذكية وأنظمة الأمن المنزلي. ولكن استخدام تلك التقنيات المعتمدة على البيانات يتطلب الحذر الشديد من الشرطة بخصوص حماية الحريات المدنية والحياة الشخصية للسكان.

يمكن لثوانٍ قليلة أن تنقذ حياة شخص ما، لذلك يعتبر زمن استجابة الطوارئ من العوامل الهامة للغاية التي قد تشهد تطورًا ملحوظًا في المدن الذكية. حيث يتم الربط بين مراكز الاتصال الخاصة بالاسعاف والطوارئ واشارات المرور عن طريق أنظمة ذكية، يمكن لهذه الأنظمة إعطاء الضوء الأخضر لتسمح بمرور سيارات الاسعاف أو المطافئ أثناء إغلاق إشارات المرور، ما قد يساهم في تقليل زمن استجابة الطوارئ بنسبة تتراوح بين 20 و 35%. بترجمة ذلك إلى الأوقات الحقيقية لاستجابة الطوارئ في مدينة ذات زمن استجابة كبير يصل إلى 50 دقيقة، يمكننا تقليل زمن الاستجابة حتى 33 دقيقة عن طريق توظيف الأنظمة الذكية.

تحسين حالة المرور

يذهب مئات الملايين من الموظفين إلى أعمالهم ويعودون منها في نفس التوقيت في العديد من المدن حول العالم، مضطرين إلى التزاحم داخل الحافلات والقطارات والانتظار لساعات طويلة في الزحام المروري. ولكن تقنيات المدن الذكية بالطبع ستركز بشكل كبير على تحسين الحالة المرورية بصفتها واحدة من أهم مؤشرات جودة الحياة. بحلول عام 2025 ستنجح المدن التي بدأت في تطبيق أنظمة التنقل الذكية في تقليل أوقات التنقل بنسبة تتراوح بين 15 إلى 20% في المتوسط، بينما سيتمتع سكان بعض المدن الأخرى بنسب أعلى من ذلك اعتمادًاعلى التطبيقات المختلفة المستخدمة من مكان إلى آخر.

باختلاف الكثافة السكانية الخاصة بكل مدينة والبنية التحتية الموجودة بالفعل في كل مدينة وأنماط التنقل المختلفة المعتمدة على أوقات ذهاب وعودة الموظفين من أعمالهم، يمكن لتقنيات المدن الذكية في المدن ذات الكثافة السكانية المرتفعة أن تساهم في توفير 15 دقيقة يوميًا لكل راكب، بينما يتمتع السكان في المدن التي تمتاز بانسيابية أعلى في المرور بتقليل أوقات التنقل بحوالي 20 إلى 30 دقيقة يوميًا.

بشكل عام ستستفيد المدن التي تعتمد بشكل أكبر على المواصلات العامة مثل الحافلات من هذه التطبيقات أكثر من غيرها عن طريق المزامنة الذكية لإشارات المرور والتي يمكنها تقليل أوقات الانتظار بمعدل 5% ، كما تساعد تطبيقات الهواتف الذكية ومستشعرات إنترنت الأشياء المتصلة بشبكات الجيل الخامس على توفير المعلومات الحية للسائقين بشأن الطرق الأقل ازدحامًا واتخاذ الطرق الأكثر توفيرًا للوقت.

رعاية صحية أفضل

تمثل الكثافة السكانية المرتفعة للمدن الحديثة عائقًا كبيرًا في وجه أنظمة الرعاية الصحية لتوفير الرعاية اللازمة لتلك الأعداد الكبيرة من السكان بالإضافة إلى صعوبة توفير قاعدة بيانات شاملة لسكان المدينة بشأن برامج الرعاية الصحية اللازمة والتاريخ المرضي لكل سكان المدينة، ولكن اليوم توفر تقنيات البيانات الضخمة Big Data نقلة كبيرة في هذا الاتجاه، حيث توفر الفرصة للتعامل مع الملفات الصحية للأعداد الهائلة للسكان بالإضافة إلى القدرة على تحليل البيانات من أجل الاكتشاف المبكر للأمراض والأوبئة المتفشية.

يمكن للتطبيقات التي تساعد على علاج واكتشاف ومراقبة الأمراض المزمنة مثل السكري أن تحقق تطورًا كبيرًا في مستوى الرعاية الصحية خاصة في الدول النامية. بالإضافة إلى ذلك يمكن لأنظمة مراقبة المرضى عن بعد أن تساهم في تقليل الأعباء الصحية بنسبة 4%، هذه الأنظمة تستخدم أجهزة رقمية لأخذ قراءات من المرضى وإرسالها للطبيب المعالج في أي مكان للمساهمة في تقييم الحالة المرضية واتخاذ الإجراءات اللازمة.

كما يمكن للمدن الذكية استخدام البيانات وتحليلها للتعرف على المجموعات السكانية الأكثر عرضة لمخاطر صحية معينة، والتعامل مع ذلك عن طريق ارسال رسائل توعية بخصوص التطعيمات والتعليمات الخاصة بالنظافة العامة وضرورة الالتزام بالبرامج العلاجية ومتابعة المرضى الذين يخضعون لهذه البرامج. يمكن أيضًا عمل قاعدة بيانات في المدن الفقيرة التي ترتفع فيها معدلات وفاة الأطفال حديثي الولادة ومعرفة أسباب الوفاة والتعامل معها عن طريق توفير التطعيمات اللازمة، وهو ما قد يساهم في تخفيض معدلات وفاة الأطفال حديثي الولادة بنسبة 5%. ستساهم أيضًا أنظمة الوقاية السريعة من الأوبئة والأمراض في التنبؤ المبكر بأي حالة مرضية تنتشر في أحد المدن. يمكن الاعتماد على الخدمات الطبية التليفونية في توفير استشارات طبية عن طريق المحادثات عبر الفيديو videoconference لتعويض العجز في المدن التي تعاني من نقص عدد الأطباء.

حلول بيئية أفضل

متابعة استهلاك المياه عن طريق الدمج بين طرق القياس الرقمية ورسائل المراجعة يمكن أم ينبه السكان لضرورة الحفاظ على الموارد وتقليل الاستهلاك بنسبة تصل إلى 15% في المدن التي يرتفع فيها استهلاك المياه.

في العديد من المناطق حول العالم خاصة في الدول النامية، يعتبر السبب الأساسي لفقدان المياه هو التسريبات في خطوط الأنابيب، لذلك يمكن تقليل هذا الفقد بنسبة تصل إلى 25% عن طريق تركيب مستشعرات لاكتشاف التسريبات خلال خطوط الأنابيب.

تساهم تطبيقات الدفع بواسطة المخلفات في تقليل المخلفات الصلبة بنسبة تتراوح بين 10 إلى 20% للفرد، مثال على ذلك هو خدمة الدفع بواسطة الزجاجات البلاستيكية الموجودة في شبكة قطارات روما. لا تقتصر فائدة مستشعرات جودة الهواء على تحديد سبب التلوث فقط، بل تقوم بتحديد مصدر التلوث ما يساعد في اتخاذ الإجراءات اللازمة بشكل عاجل.

نجحت العاصمة الصينية بكين في تقليل الانبعاثات الضارة في الهواء بنسبة 20% في أقل من عام عن طريق تتبع مصادر التلوث وتنظيم حركة المرور والانشاءات في نفس السياق.

مشاركة السكان بالمعلومات الحية بشأن جودة الهواء يمكنها أن تساعد السكان باتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لتقليل الآثار الصحية بنسبة تتراوح بين 3 إلى 15% وفقًا لاختلاف مستوى تلوث الهواء.

وفقًا لهذه الاحصائيات هل يمكن للتقنيات الحديثة أن تساهم في تحسين جودة حياة البشر في المدن بشكل فعلي في المستقبل وما الذي يمكنه للتكنولوجيا أن تضيفه في المستقبل؟ شاركونا آرائكم في التعليقات.

اقرأ أيضًأ: طفرات تكنولوجية هائلة بفضل الـ 5G .. الجزء الأول