معركة أخرى تجري على قدم وساق منذ عقود ، لم ينتبه اليها الكثيرون ، ولم يتكلم عنها الا قلة قليله ، معركة يقودها بعض الكتاب والاعلاميون لغزو العقول وتحريف معاني الكلمات والشعارات ، وقلة هم من بشعرون بخطورتها ووقفوا بوجه من يقودها !!!
معركة قد أحالت الجهاد والمقاومه الى ارهاب ، والاستسلام الى سلام ، والخنوع والذل الى حكمه ، والدفاع عن الكرامه وتحرير الارض الى مغامرات غير محسوبه !!
تحت عنوان معركة المعاني كتب الدكتور وليد سيف في رسالته الى الجزيره :

إنه صراع المعاني، أو الصراع على استملاك أنظمة المعاني التي تشكل الوعي العام، وتوجه فهمنا للواقع وتأويلاتنا لما يجري فيه، وتعريفاتنا لوقائعه، وهذه بدورها تحدد أنماط استجاباتنا لمؤثرات الواقع وتحدياته. بل هي حملة منهجية منظمة ما زالت تجري منذ كامب ديفد المصريّة وازدادت استعارا ووقاحة منذ أوائل التسعينيات، وهدفها اغتيال نظم المعاني التحرريّة وتلويث مفرداتها وتبخيسها وتدنيسها وازدراؤها وتحريف معانيها وتلبيسها بمعان مرذولة، وكل ذلك بدعوى العقلانية والواقعية السياسية.

فإن لم يؤدّ ذلك إلى تخلّي الناس عن تلك المعاني التحررية بإطلاق وتبني نظام المعاني البديل الذي يروّجون له، فعلى الأقل يدفعون بعض الناس إلى موقف دفاعي اعتذاريّ، يترددون معه في استعمال تلك المعاني التحررية أو يتحفظون في استعمالها، تخوّفا من التباساتها المفروضة قصدا، وخشية أن يتهموا بأنهم ما زالوا أسرى للخطاب القومي الانفعالي القديم أو الاشتراكي الغارب أو الإسلامي المتطرف، أو الإرهابي القائم.

حسب هذا الخطاب الذي يصف نفسه بالواقعية السياسية والعقلانية والاعتدال:
-
لا تقل "العدوان الإسرائيلي" و"المشروع الصهيوني" الإحلالي الاستيطاني الاستعماري التوسعي، ولا تتحدث في المقابل عن اغتصاب الوطن الفلسطيني عام 1948، وعن حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه، ولو من الناحية المبدئية، لأن هذا كله يحيل إلى الخطاب العاطفي الانفعالي "القومجيّ" البائد الذي عفا عليه الزمن وتجاوزته الظروف، ولكن قل "إسرائيل" وحسب، ودون مزدوجتين.

-
لا تقل "عرب" و"عروبة" و"وطن عربي"، وأقبح من ذلك أن تقول: قوميّة. فإن هذا كله يحيل إلى التجارب "القومجيّة" (لاحظوا الجيم المقحمة هنا للتبخيس والتدنيس)، الفاشلة، وخطابها العاطفي الغرائزي الفجّ، ونظمها البوليسية القمعية التي انتهت بنا إلى الهزائم والكوارث. ولكن قل منطقة الشرق الأوسط وحسب، التي تشمل أقطارا ناطقة بالعربية (ولكنها لا تشكل أمة) وأقطارا أخرى غير عربية، وفي مركزها إسرائيل.

-
لا تقل "إسلاميّ"، إلا لتحيل إلى التطرف والإرهاب والتخلف، وتوظيف الدين لأغراض سياسية. والمفردة الأصوب: "إسلامويّ"، تبخيسا وازدراء. ولن يمنع هذا إعلاميي العار من أن يتناسوا هذا التوجيه الذي يدين توظيف الدين لأغراض سياسية، ليستدعوا بأنفسهم فتاوى تحرم الجهاد ضد الاحتلال بغير إذن ولي الأمر (!!)، وتحرم استعمال صفة الشهيد لضحايا الاحتلال، وتحرم صور الاحتجاج الشعبي بدعوى أنها تصرف عن ذكر الله وتفضي إلى الفتنة، وتحرم العمليات الاستشهادية بدعوى أنها عين الانتحار المحرّم. لا بأس في صحوة تقوى مفاجئة مؤقتة يوظف بها إعلاميو العار الدين لخدمة سياسات الاعتدال (الخنوع والتواطؤ). إنما المنهيّ عنه توظيف الدين لإذكاء روح المقاومة والجهاد ضد المحتل.

-
وفي إطار تلويث معاني العروبة والإسلام، لا تقل: مقاومة وجهاد وعمليات استشهادية. فهذه مفاهيم ملوثة بالإرهاب والتطرف ومجافاة الواقعّية السياسية التي يفرضها الظرف. وهي ضد "الاعتدال".
(أما تعريف الاعتدال هنا فيوضحه السياق، إذ ليس أكثر من الانصياع للبرنامج الأميركي الصهيوني في المنطقة).

-
لا تقل "إمبرياليّة" في وصف الولايات المتحدة فإن هذا يحيل إلى الخطاب اليساريّ الذي يفترض أنه انقضى مع انقضاء الاتحاد السوفياتي والثورة العالمية. (وكأنّ إمبريالية الولايات المتحدة مجرّد أسطورة متخيّلة صنعها الاتحاد السوفياتي في سياق الحرب الباردة. أما هذه الهيمنة الأميركية الدولية التي بدأت قبل نشوء الاتحاد السوفياتي، وأثناء وجوده وازدادت توحشا بعد انهياره، فلا تكفي لاستعمال صفة الإمبريالية).
-
لا تقل عدالة اجتماعيّة ولا دولة رعاية اجتماعية، فإن هذا يحيل من جديد إلى "الاشتراكية" المدنّسة، في مقابل الاقتصاد الحرّ المقدّس (الذي يوشك الآن أن يودي بالاقتصاد العالمي إلى الهاوية).
-
لا تفسّر ظاهرة الإرهاب والتطرّف تفسيرا يحيلها إلى المظالم الفاحشة التي اقترفتها وتقترفها الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الكبرى، فإن هذا التفسير يعني التبرير. ولكن اكتف بالتفسير الذي يردّ هذه الظاهرة إلى عوامل ذاتية ثقافية تتعلق بالنظم التربوية الدينيّة والخطاب الإسلاميّ بعامة، وإلى غياب مفاهيم التعدديّة وقبول الآخر. ولذا فإن معالجة ظاهرة التطرف والإرهاب تتمثل فقط في إشاعة ثقافة التعددية. فالصراع ليس أكثر من صراع ثقافي حضاريّ خالص. وإذ هو كذلك، فإن الذي يتحمل مسؤوليته الكاملة، ليس الغرب الليبرالي الديمقراطي التعدّدي، وإنما هو الثقافة العربية الإسلامية السائدة التي تحتكر "صناعة الموت".

ويفضل كذلك ألاّ تكثر الحديث عن الاحتلال بوصفه أصل الداء وأسّ البلاء. (فهذا يستدعي في المقابل تسويغ المقاومة، ويصرف التهمة عن حماس ودورها في تنفيذ أجندة إيرانية سورية ضد محور الاعتدال العربي، لا ضد الاحتلال!). وفي المحصّلة يجب أن يصور الصراع، لا بكونه صراعا بين قوة الاحتلال والاغتصاب، والشعب المنكوب المقاوم، وإنما هو أقرب إلى أن يكون نزاعا سياسيا على حقوق مختلف عليها، بين شعبين اتفاقا على أنهما يعيشان على نفس الأرض!
-
نعم هذه بعض عناوين المعجم السياسي الليبرالي الأميركي الصهيوني الجديد في قلب الفضاء السياسي العربي، توظف له منابر إعلامية معروفة لا تسيء إلى الأمة العربية بأكثر من إساءتها لحكوماتها. فإن كانت بعض تلك الحكومات تتبرأ من هذه المعاني حقا، فإن عليها أن تتبرأ من هذه المنابر الإعلامية الصهيونية الناطقة بلسان عربي!
ونعم.. لقد كشفت حرب غزة عن هذا الصراع الأخطر بين نظم المعاني التحرريّة ونظم المعاني الأميركية الصهيونية المتقنّعة بدعاوى الواقعية والاعتدال.
وإذا كانت حرب غزة -في أحد وجوهها الأساسية– تعبيرا عن هذا الصراع، فإن الخاسر فيها –لا ريب- هو نظام المعاني الصهيونية الذي لم يحقق إلا الفضيحة والعار ولعنات الشعوب العربية التي خرجت إلى الشوارع لتجسّد إحياء المعاني التحررية التي تعرّضت لحملات التلويث والتدنيس والتبخيس عبر عقود.
على أن سكوت المدافع الإسرائيلية –مؤقتا– لا يعني سكوت أبواق الإعلام الصهيوني الناطق بالعربية، ولا حسم معركة المعاني المستمرة.

ولذا يتوجب على قوى التحرر العربي بكل أطيافها السياسية الإسلامية والقومية واليساريّة أن تستثمر هذا الظرف التاريخي لمحاصرة نظام المعاني الصهيوني الإمبريالي في خانة الدفاع والتبرير والاعتذار والتصاغر والتخفي والتخاجل الذي يليق بخطاب العار والتخاذل.

لتتمة الموضوع اضغط على الرابط التالي
https://www.aljazeera.net/NR/exeres/...B200B37A38.htm

وإقرا إن شئت الموضوع التالي
اعلاميو العار العرب