مقال مفيد ، أحببت ان اشارككم به .
وصلني عبر الايميل .

...........................................

نهضة مجهضة أم حمل كاذب آخر؟
https://www.quran4nahda.com/?p=546
د.أحمد خيري العمري
ماذا نتوقع من أمة لديها أسوأ معدل لتقدير الذات على الإطلاق؟ ماذا نتوقع من شعب تتأسس نظرته لنفسه من مجموعة آراء سلبية في ذاته وأدائه؟
لن نتوقع الكثير حتماً، ولا يجب أن نتفاجأ أن تكون هذه الأمة في قعر السلم الحضاري أو دون السلم أصلاً، ففي النهاية لا يمكنك أن تنجز حقا على كافة المستويات إن لم تقتنع حقا بقدراتك وإن لم تؤمن بنفسك وبإمكاناتك..
ولتوضيح مفهوم" تقدير الذات " المتداول في علم النفس فهو يعرف باعتباره" التقييم العام للفرد عن ذاته" ويشمل ذلك معتقداته عن نفسه وعواطفه تجاهها، كما أنه يعدّ صفة ثابتة من صفات الفرد رغم أن بعض التغيرات الطارئة قد تحدث في الأزمات.
إن مفهوم تقدير الذات ليس شائعا في الإعلام وبرامج الحوار وعلم النفس الشعبي فحسب بل هو واحد من أكثر ثلاث مفردات تداولا في الدراسات الأكاديمية المتخصصة في علم النفس .
نعود إذن لتلك الأمة التي حازت على أدنى معدل لتقدير الذات والتي قلنا إننا لن نتفاجأ أنها ستكون الأدنى أيضا في الإنجاز، ودعونا نقول بوضوح إننا لا يجب أن نتفاجأ إن كانت أمتنا هي تلك الأمة تحديدا لأسباب كثيرة لا تخفى و لا مجال لتعدادها.. فمستوى إنجازاتنا في القرون الأخيرة منذ أن تركنا دورنا الحضاري لا يُسِرُّ إلا العدو ولعل ذلك ينتج أو يرتبط (أو على الأقل يصاحب) هذا التقدير المتدني للذات الذي يجب ألا نتفاجأ إن كنا في قعره أو على الأقل من بين الأمم المتنافسة على قعره..
لكن ثمة مفاجأة كبيرة في قعر السلم هذا، فمن بين 53 دولة أجري فيها استفتاء عالمي موحد لتقدير الذات كانت هناك أمة يجب أن نتوقعها من بين الأمم المتنافسة على المرتبة الأولى، فإذا بها في المرتبة الدنيا تماما.. وبفارق كبير..
إنها اليابان! اليابان هي الدولة التي كانت نتائج الاستطلاع على أفراد شعبها تشير إلى أنهم يملكون أدنى معدل لتقدير الذات.... اليابان ما غيرها! اليابان صاحبة الاقتصاد العملاق والمنجزات العلمية المذهلة، اليابان التي حققت تنمية استثنائية عرفت بالمعجزة اليابانية، والتي حققت كل ما حققته في ظل غياب أي موارد أو ثروات طبيعية (لا شيء سوى جزر وأراض غير صالحة للزراعة في معظمها وسمك).. هذه الأمة التي يفترض حسب مفهوم تقدير الذات أن تكون منافسة على "الرقم واحد".. هي في الحقيقة صاحبة المعدل الأدنى..
هل هناك خطأ ما في نتيجة الاستفتاء؟ هل هناك تحيز مثلا؟... لا هذا ولا ذاك. الأمر ببساطة يلفت نظرنا إلى أن المفهوم الغربي لتقدير الذات (الذي لا شك بارتباطه بالكثير من منجزات الحضارة الغربية ) هذا المفهوم ليس بالضرورة صالحا لكل زمان ومكان، وهو بالتالي ليس صالحا لكل حالة قد تملك سياقات حضارية مختلفة..
بعبارة أخرى فإن التقدير العالي للذات والذي يرتبط مباشرة بمفهوم الفردية ( الأمريكي) والذي قد يكون له أثر الداينمو- المحرك فعلا في هذه الحالة - قد لا يكون صالحاً للعمل في مجتمع آخر يمتلك قيما تقدم المجتمع على الفرد كما في قيم المجتمع الياباني.. من ناحية أخرى فإن التقدير المتدني للذات في الحالة اليابانية قد تكون ( دافعاً) للمزيد من تجويد العمل، بل قد تتجسد في هوس الرغبة في الإتقان المعروف عند اليابانيين..
ولكي نكون واضحين فإن هذا التقدير المتدني للذات عند اليابانيين بات حقيقة مسلمة عند أغلب العاملين في مجالات علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع وقد أثبتت في الكثير من الدراسات التي حاولت سبر أغوار "المعجزة اليابانية"... وهي حقيقة لا تخص اليابانيين فحسب بل عموم شعوب جنوب شرق آسيا ( كوريا الجنوبية أيضا التي حققت ما حققته من تنمية تحتل موقعا قريبا جدا من قعر السلم أيضا )...
ما يهمنا هنا أن التقدير المتدني للذات عند اليابانيين لم يعرقل نهضتهم بل ربما كان استثمارا أساسيا فيها.. النهضة التي لا علاقة لها حقا بالاحتلال الأمريكي لليابان كما يروج البعض بل التي ابتدأت فيما يعرف بعهد الميجي (1862-1912) و التي استندت أصلا على الموروث الياباني الذي يعتز اليابانيون فيه إلى حد التقديس كأساس للانفتاح المشروط على تقنيات الحضارة الغربية دون علومها الإنسانية..
بقية نتائج الاستفتاء لا تقل إثارة للاهتمام، فالدولة الأقوى في العالم التي أنتجت المفهوم وصدرته عبر وسائل إعلامها ونمط حياتها لم تحتل المركز الأول وإن احتلت مركزا متقدما بطبيعة الحال ( المركز السادس) بل احتلته دولة لا نعرف شيئا عن منجزاتها غير مذابحها التي اقترفتها ضد المسلمين في العقدين الماضيين ( صربيا!)، الدولة العبرية احتلت المركز الرابع ( لا غرابة!) هناك دولتان مسلمتان شاركتا في الاستفتاء واحدة احتلت مركزا متقدما (تركيا في المركز الثامن) و الأخرى جاءت في مركز متأخر (المغرب في المركز السادس والأربعين) ولا يمكن بصراحة الاستدلال بالمركزين للوصول الى أي نتيجة بناءاً على قمة السلم (صربيا) وقعره ( اليابان)..
الأمر المهم هنا هو الانتباه في هذا الاستفتاء و سواه – خاصة ونحن فيما نحن فيه اليوم – هو أن للنهضة طرقا متعددة وأشكالا مختلفة وأن النموذج الغربي للنهضة ليس هو النموذج الوحيد المكن بل هناك نهضات أخرى احتفظت إلى حد بعيد بموروثاتها ونجحت مع ذلك في منافسة الحضارة الغربية في منجزاتها العلمية والإنسانية.. لا يمكن الإنكار أن اليابان اليوم جزء من المنظومة الغربية، لكن لا يمكن إنكار أن نهضتها الأصل ابتدأت بالاستناد على إرث خالص خاص ، وأنها حتى اليوم لم تتبنَّ نظم التربية الغربية تماما، كما أنه لا يمكن إنكار أنها لم تتفاعل مع الغرب بمنطلق عقدة النقص الكفيلة لا بإجهاض أي مشروع نهضة فحسب بل بنفيه وإلغائه من أساسه: بجعله محض حمل كاذب.. حمل لم يحدث قط.. ولعل هذا هو الذي حدث مع الكثير من مشاريع النهضة في أمتنا، بل وبالذات مع المشروع الذي عرف بمشروع عصر النهضة، الذي كانت عقدة الانبهار والنقص شديدة الوضوح فيه لدرجة جعله مجرد حمل كاذب: يحمل بشارات الولادة دون حقيقتها الموضوعية..
أذكر بكل هذا الآن لأن عقيدة النقص التي يعاني منها البعض جعلت نتاجهم لا يكون أكثر من مجرد "أسلمة" ملفقة تضع شعارات إسلامية على نتاج غربي.. لا يمكن أن تظهر مقولة أو نظرية في التربية أو التعامل إلا وهبَّ البعض يبحثون عن الأدلة التي تؤيد تلك النظرية في بطون التراث: تتساوى في ذلك الآية القرآنية (التي قد تنتزع من سياقها) مع الحديث الصحيح أو الضعيف أو حتى القول المأثور.. والحقيقة أن التراث بتراكم القرون فيه سعة يمكن أن تسند النظرية ونقيضها.. ما دمنا نبحث لغرض إيجاد دليل على حكم مسبق أخذناه من الغرب..
و بعد أن تتم عملية الأسلمة تلك، يلتفت إلينا اولئك كما لو أنهم (أدوا قسطهم للعُلى ) ويقولون: أرأيتم؟ لقد نجحوا بفضل قيمنا نحن... كل ما علينا أن نرجع لقيمنا عبر إتباعهم..
لا أروج هنا للنموذج الياباني، ولا حتى للتقدير المتدني للذات، بل إني أؤمن أن الدين الذي انفرد من بين كل الأديان بكون الإنسان هو الخليفة، وبسجود الملائكة له، هذا الدين يبث في أعماق المؤمنين به تقديرا عاليا للذات لكنه تقدير مشروط بالطاعة، بالإيمان، بالعمل الصالح ، وبشكل جماعي- اجتماعي.. فالإنسان –عموما- في القرآن هو " في خُسر".. و لا يخرج من هذا الخسران إلا اللذين آمنوا و عملوا الصالحات ..( فلننتبه هنا إلى أن الخلاص جماعي )..
أروج هنا لنهضة تستمد قيمها من ذلك الكنز الذي لا ينضب، كنز علينا أن نقرأه بعدسة تستمد أبعادها البؤرية من الكنز نفسه، و لا تستوردها من حضارة إنسانية لها ما لها وعليها ما عليها..
أروج لنهضة تبدأ بالقرآن، ترى العالم وتقرأ تجارب الآخرين من خلاله، لا كما يحاول البعض أن يقرؤوا القرآن من خلال العالم، من خلال تجارب الآخرين.. تلك المحاولات التي لا تنتج إلا المزيد من التخبط والتبعية والاستمرار فيما لم يعد ممكنا الاستمرار فيه..


............
قمت باختصار جزء من مقدمة الموضوع .