في عصر التَّمسُّك بكل ناقصٍ وباطلٍ ورذيلةٍ ......


وفي عصر الانفتاحِ والانسلاخِ من كل حقِ وفضيلةِ ......

وفي عصر يَعلو فيه صوت الباطل على الحق ويُجهِزُ عليه ......

وفي عصر يُنكر فيه الناس ما يَعرفون ، ويَعرفون ما يُنكرون ......

وحين يتهمك النـاس بالانحـراف في التفكير ، والغلط فـي التعبير ......

وحين يرون أنهم مؤمنون صالحون مصلحون ؛ وهم الفاسدون المفسدون ؛ ولكن لا يشعرون .....

وحين يُوحي بعضهم إلى بعض زُخرف القول غُرورا ...! ، هنا تسأل وتتساءل : " أتواصوا به ؟ أم – وإن شئتَ قلتَ : بل – هم قوم طاغون ....؟

وحين ترى الرجل الدَّين الصالح المُتدين ؛ وقد اشتدّ عليه أهله فخالفوه ، وأصحابه قد مقتوه واستثقلوه ،وأحباؤه قد أظهروا له العيوب وهجروه ....

وحين تَشعر – كما أشعر أنا الآن بالضبط – بِغُصةٍ في حَلْقك ، وقيودٍ في غُصْنك وعَضُدك ، ورأيتَ - وسمعتَ - ما يَشيب له الوليد الصغير ، ولا تستطيع أن تنطق ....

وحين تحتاج لصديق صدوق ، أو خِلٍ وَفِيٍ ودود ؛ تشكو له همك ، وترمي عليه حِملك ،وغمك ، وترتمي بين أحضانه ، وتبكي بين يديه ويبكي هو لبكاءك ؛ ولا تجد .....

وحين تتلمس من يشاركك هذا الطريق اللاحِب الوَعِر ، المَلِيءُ بالمتاعب ،والصِّعاب ،والشبهات والشهوات ، ويُساندك فيه ؛ فإذا تعبتَ شدَّ من أزْرِك وواساك ،وإذا مَلِلتَ مال عليك وحاباك ،

تستأنس به ؛ ويستأنس بك ، وإذا ظمئتَ ؛ شربتم من معين واحد ؛ ذلك المعين الذي لم تكدِّرْه دِلاء ،ولم يرع فيه ذئاب ، وآكلي لحوم البشر .....


وإذا رأيت شُحا مُطاعا ، وهوى مُتبعا ، ودنيا مؤثره ،وإعجابَ كل ذي رأي برأيه ، و رأيت أمرا لا يد لك به .....

فحين إذن – وحين إذن فقط – فاعرف أنك كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود أو – إن شئت ؛ فقل – كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض ، وحين إذن فاعرف – أيضا - أنك غريب وسط هؤلاء ،

وأنك لستَ منهم وهم ليسوا منك ، فهم من يريد ذلك ؛ وليس أنت .


فيا شدة الحسرة ؛ عندما تُعاين هذا وتلتمسه وتجده أمامك أينما ذهبت فهو لا يفارقك ...!

فهؤلاء أشخاص من جنس آخر غير البشر ،فهم لا يسمعون ، ولا يعقلون ، ولا يبصرون ، ولا يشعرون ، ولا يتدينون ، ولا يتوبون ، ويستغفرون ، ولا يَؤبُون .

بل هم مُخذلون مثبطون ، مُنحلون ، أشباه بني الإنس لكنهم ليسوا منهم !

واعجبا ! لهم ولزمانهم .

وأُفٍ وسحقا لهم وعليهم وعلى زمانهم ( هذا لا يعتبر سبا للدهر ، وليس هذا محل التفصيل )

أفلئن سلك المرء سبيل الحق والرشاد وترك الهوى والفسق والعناد ؛ يتهم في تفكيره وتعبيره !!!!!!؟

مع الأخذ في الحسبان أنه لم يُحرِّم ، ولم يُجرِّم ، ولم يُكفِّر أحدا !!!!

أفلئن عَبَدَ المرءُ ربَّه وغار له ، وعليه ؛ يتهم بأنه شاذ !!!!!!؟

كل هذا وذاك لأنه يقول معبودي الله ، ومنهجي شِرْعة الله ، ومتبعوي رسول الله !!!

آهِ من هذا الزمان ، وآه من أهله ! لقد غَبَّروا علينا الحياة ، وعَكَّروا لنا مياة النبع الصافي ، فلا ندري أيهما أصفى وأنقى !

ولقد صدق الحسن البصري : (المؤمن في الدنيا كالغريب ؛ لايجزع من ذُلها ، ولا ينافس في عِزها ، للناس حال وله حال)

فهذه إذن أيام الصبر .....! ؟

نعم إنها كذلك ، واعلم أيضا أن طلب الحق غربة !

والله لقد عشت خمسة وعشرون ربيعا ، منها سبعة على العروة الوثقى والطريقة المثلى ( إلا ما كان من اقتراف لبعض المعاصي والأثام )

ما شعرتُ بهذه الغربة إلا بالأمس فقط ! قبل كتابة هذا الكلام بيوم واحد ، حين رجعت لبيتي بعد ما سمعتُ :

" يا بني انت شخص محترم ، ومثلك لا يُرد ، ونتشرف بزواج بنتنا منك ، لكن انت صعبان علينا علشان تفكيرك غلط !!!!! "


فهل تعرفون لماذا تفكير غلط ؟

لأنه وجد في وجهي لحية جميلة قد زينتني وزادتني جمالا وبهاء ، فلهذا أنا متشدد ومتعصب !

ولأني قلتُ له زوجتي ستَحْتجِب عن الرجال !

وأني أصلي الصلوات الخمس في المسجد !

سبحان الله ، وهل هذا يَعيب الرجل الحر ؛ فضلا عن المسلم ؟

تلك – وايم الله - شكاة ظاهر عني عارها .

الذي أحزنني ليس لعدم ارتباطي بالفتاة ؛ فأنا أصلا لا أعرفها ، لكن كلامه الذي نزل عليَّ كالسياط ، فشجني وهزني وحرك دمع عيني وتذكرت النداء والحداء:

" بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا ، فطوبى للغرباء "


ثم تسمع من يقول ( لا تحزن ) و(لا تجزع ) و ( لاتبكي ) لا والله ، سأبكي وأبكي وأبكي ...

لكني والله ما أدري علامَ أبكي ؟

أعلى قلة الأصدقاء والإخوان ؟

أم على الغربة في الأهل والصَّحْب والأوطان ؟

أم على غلبة الباطل للحق ( أحيانا ) ، وعدم قدرة البعض على الصدع به ؟

أنا ما كنت أود الكتابة ، لكن وجدتني أكتب بعد أن ركبني الهم الشديد والكرب والغم العنيد ، الذي أبى عني الرحيل على الأقل لفترة من الزمن .

فكتبتُ لكم لعلي أجد من يشاركني همومي وأحزاني وزفراتي وأنّـاتي .

وما أحسن أبو فِراس الحَمَداني إذ يقول :

أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ *** أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى *** وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ *** عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا *** تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي
تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً *** تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ
أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ *** وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ
لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً *** وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ

والله من وراء القصد .