كان محمود غنيم ـ رحمه الله تعالى ـ من ذلك الرعيل الذي أشرب حب الشعر العربي الجزل، بديباجته الرائعة، وصوره الدافئة، ومعانيه المتألقة، وأخيلته المجنحة، وهو إلى ذلك شاعر مصري أصيل، عذب البيان، سلس العبارة، موسيقي اللفظ.
ولد الشاعر محمود غنيم (1902 ـ1972 م) في الريف المصري، وبالضبط في قرية "مليج" وهي إحدى قرى محافظة المنوفية بمصر، وقد عاش وسط أسرة تتمتَّع بسمعة طيبة، وتحترف الزراعة والتجارة.
وقد عاش الشاعر سبعين عاماً قضاها كلها في كفاح طويل: فقد عاش أليفاً للمحن وخطوب الأيام التي هيأته ليكون في طليعة شعراء العربية وأدبائها فحولة وأصالة وصدقاً والتزاماً.
النشأة الثقافية
الشاعر الاسلامى محمود غنيم
بدأ الشاعر غنيم حياته العلمية بدخوله الكتَّاب لحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ "على عيسي" في قريته "مليج". وفي الثالثة عشرة من عمره التحق بمعهد طنطا الأزهري، ومكث فيها أربع سنوات ثم التحق بمدرسة القضاء حيث مكث فيها ثلاث سنوات (1919 ـ 1923) . وقبل أن ينهي دراسته فيها تم إلغاؤها، فالتحق بالمعاهد الدينية (1923ـ1924) ونال منها الشهادة الثانوية، وعين مدرساً في المدارس الأولية في بعض القرى.
وفي عام 1925 م التحق بدار العلوم وتخرج منها سنة 1929 م، فعين مدرساً حيث مارس هذه المهنة تسع سنوات نظم خلالها أعذب قصائده وأجملها.
وفي سنة 1938 م انتقل إلى القاهرة، وفيها وجد الفرصة للاتصال بالشعراء والأدباء ودور النشر والصحف والمجلات الأدبية، ونظراً لمجهوده الثقافي عُين مفتشاً أول للغة العربية، ثم عميد اللغة العربية.
'ويشير الشاعر إلى حياته الأولى في قصيدته "حنين إلى الماضي"، وهي إحدى قصائد ديوانه المخطوط، فيقول:
سلام عليها في "مليج" مثـابة
حفظت بها السبع القصار المثانيا
سلامٌ على طنطا ومعهدها الذي
نظمــتُ به قـــبل البلوغ القوافــيا
سلامٌ على دار القضــاء وأهلها
ورَبعٍ من العرفان أصــبح خــاويا
سلامٌ عـلى دار العلوم وعهـدها
وهيهات هذا العهـــد يرجـــع ثانيا
لم تهدأ قريحة محمود غنيم في البحث والاطلاع؛ لذلك تختلط نشأته الثقافية بظروف عمله، فقد كان يدرس ويثقف وهو يعمل، وكان يعمل وهو يدرس وينمي معارفه.
فعندما عاش الشاعر في "كوم حمادة" تسع سنوات عمل مدرساً في مدرستها الإبتدائية، وفي أوائل عهده بالوظيفة تزوج من أسرة كريمة في بلدته، واستقبل أول مولود له بقصيدته "تحية مولود".
وفي هذه الفترة نظم أحلى قصائده، منها: لا تخدعوني بالمنى، الأمل الطائح، فجيعة في ساعة، العيد والأزمة، راتبي، والأسد السجين؛ التي يرمز فيها لنفسه ولحياته في هذه القرية الريفية المتواضعة.
شعره في الإسلام وحضارته ومجده
حين نرصد المظاهر الإسلامية في شعر "محمود غنيم" ندرك أنَّه يخصص جانباً من دواوينه ويجعله تحت هذا المسمى "إسلاميات"، وكما سبق؛ فقد كانت البيئة التي عاش فيها لها أثرها العميق في توجه الشاعر إلى هذا الغرض، وفي اتساع آفاق الرؤية الإسلامية وتأثيرها في شاعريته. ورؤية الشاعر الشعرية الدائرة في فلك التصور الإسلامي يمكن أن نحدد بعض معالمها في الظواهر الآتية:
1 ـ الرؤية الحضارية للمد الإسلامي:
وهذه الرؤية الحضارية للوجود الإسلامي في بعض تجاربه الشعرية يبثها من وحي زيارته للأراضي المقدَّسة، حين قام بأداء فريضة الحج.. فهو يبثُّ المكان أشجانه، ويشتاق إلى المشاعر المقدَّسة، وفي الوقت ذاته: لا ينسى واقع المسلمين، فيدعوهم أن يكونوا على قلب رجل واحد.. فيقول:
دار النبـــــوة ذنبي عـــنك أبعــــدني
وحســـن ظــــني بربي مــنك أدناني
قد كـنت ألقاك في لوحي وفي كتــبي
وفي سطــــــور أحـــــاديثي وقرآني
ثم يشيد الشاعر بفضل رسالة الإسلام التي انطلقت من مكَّة المكرَّمة ومن المدينة المنوَّرة.. وتمتزج هذه الرؤية الحضارية لدور الإسلام الفاعل والمؤثر في حركة الحياة بمشاعر التضرع والمناجاة.. ففي نهاية قصيدة: "في أرض النبوة" يتأثر الشاعر بمعاني القرآن الكريم.. في أسلوب مشرق واضح.. يقول:
يا ربّ قد عشت في دنياي مغتربا
ويلاه إن أغترب في العالم الثاني
أستغفر الله من كفـــران نعمـــــته
بل فوق ما أستحق.. الله أعطاني
ألم يجــــــدني أخا غي فأرشـــدني
وهائماً غير ذي مـــــأوى فآواني
2 ـ الأحداث والمواقف الإسلامية:
كان غنيم عامر القلب بالإيمان بحضارة بلاده وتراثها وعقيدتها السماوية الخالدة. وقد أعلن ثورته على الحضارة الغربية في قصيدته "ثورة على الحضارة". وكتب يمجِّد حضارة الإسلام ، ويأسى لغزو الحضارة الغربية لها، ولاحتلال الغرب مكانة حضارتنا الخالدة، وذلك في قصيدته المشهورة "وقفة على طلل".
وحينما نتأمل هذا المعلم نجد أنَّه لم يعن بتسجيل الأحداث التاريخية الإسلامية عناية كبيرة، حيث لم يسجل المناسبات الإسلامية التي ألف الشعراء أن ينظموا في ظرفها الزمني قصائدهم كلما حان موعد المناسبة. وكأنَّ الشاعر يعلن بهذا المسلك الفني أنَّ التاريخ الإسلامي ليس أحداثاً تروى، وله تصوير رائع في قصيدته (الركب المقدَّس) وهو يتابع الهجرة المباركة من مكة إلى المدينة ويرصد آثار ذلك الحدث الإسلامي.
3 ـ التأملية في ظلال الرؤية الإسلامية:
إنَّ التأمل في شعر غنيم لا يمثل تياراً رئيسياً، فشعره ينزع إلى تجسيد العاطفية وإذكاء المشاعر الإسلامية، ولا يقحم تجربته في شعاب الفكر.. بحيث تخبو العاطفة، ويعلو صوت الذهن، وإيقاع الفكر.. وشاعريته لم تبتعد كثيراً عن آفاق التجربة التأملية، ولكن التأمل في شعره ممتزج بالعواطف الحارة والمشاعر الإنسانية الدافئة، ولا يلقيه التأمل بعيداً عن ظلال الرؤية الإسلامية.
وفاته
في عام 1938 م صدر قرار بنقل الشاعر إلى القاهرة مدرساً للغة العربية، بمساع كريمة من بعض محبي الأدب والشعر، ومن بينهم "أنطون الجميل" رئيس تحرير الأهرام آنذاك. وقد شكره الشاعر بقصيدة عندما أتى إلى القاهرة، واختير لمدرسة "الأورمان" المشهورة.
وهناك عاش مع الشعراء والأدباء ودور النشر والصحف والمجلات، وفي مقدمة هذه المجلات "مجلة الرسالة" التي كانت تنشر له آنذاك شعره باحتفاء كبير.
وقد رقي إلى منصب "مفتش" للغة العربية، وأخيراً وصلت بالشاعر خطاه إلى منصب: "عميد اللغة العربية" بوزارة التربية والتعليم، وكان ذلك آخر عهده بالمناصب.
واختير عضواً بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وقويت علاقاته بالأدباء والمفكرين وبالصحف ودور النشر؛ حتى ذاع صيته ولمع نجمه وبات من المرموقين في عالم الأدب بوجه عام والشعر بوجه خاص، كما نال كثيراً من الجوائز على أعماله الشعرية التي كان من أجلها ديوانه (صرخة في واد) الذي كان أساس صرح مجده الشعري.
ذهب غنيم إلى الديار المقدَّسة لأداء فريضة الحج، وقال في ذلك قصيدتيه (في أرض النبوة) و (حمائم الحرم).. بعدها توالت الأحداث ووهنت صحته ، وقد صوَّر ضعف حالته في قصيدته (حنين إلى الماضي) وهي إحدى قصائد ديوانه المخطوط.
وفي عام 1972 م ودع الشاعر الحياة بعد أن خلَّف لنا ثروة شعرية عظيمة، وشيعه أحبابه وتلاميذه بدموع غزار، وطوى الموت خليفة "حافظ"، بعد أن سجَّل في التاريخ صفحات جليلة في خدمة أمته ووطنه وعروبته.. وإسلامه ولغة القرآن الكريم وآدابها وتراثها الخالد.
وقد صدق الشاعر "مصطفى بهجت بدوي" في رثاء غنيم، حين قال:
أنت بالشعـــــــــر ترجمــان لواديـ ـك، رســــــول محـــــذر متفــــائل
كم نظمت القصيد "صرخة واد" ودواوينُ عــــبقـــــري مناضــــــل
رحم الله "محمود غنيم" الذي كان من بقية جيل من الشعراء لم يبق منهم إلا أفراد قلائل!
================
من روائعه
مالي ولنجم يرعاني وارعاه - امسى كلانا يخاف الغمض جفناه
لي فيك ياليل اهات ارددها - أواه لوأجبت المحزون أواه
لا تحسبني محبا يشتكي وصبا - أهون مافي سبيل الحب القاه
اني تذكرت والذكري مؤرقة - مجدا تليدا بأ يدينا اضعناه
أني اتجهت الى الاسلام في بلدا - تجده كالطير مقصوص جناحاه
ويح العروبة كان الكون مسرحها - فأصبحت تتواري في زواياه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها - وبات يملكنا شعب ملكناه
كم بالعراق وكم بالهندمن شجن - شكا فرددت الاهرام شكواه
بني العروبه ان القرح مسكم - ومسنا نحن في الاسلام أشباه
لسنا نمد لكم ايماننا صلة - لكنما هو د ين ماقضيناه
هل كان دين ابن عدنان سوى فلـق - شق الوجود وليـل الجهـل يغشـاه
سل الحضارة ماضيهـا وحاضرهـا - هل كـان يتصـل العهـدان لـولاه
هـي الحنيفـة عيـن الله تكلؤهـا - فكلما حاولـوا تشويههـا شاهـوا
هل تطلبون مـن المختـار معجـزة - يكفيه شعب مـن الأجـداث أحيـاه
من وحّد العرب حتى صار واترهـم - إذا رأى ولـد المـوتـور آخــاه
وكيف كانوا يدا في الحرب واحـدة - من خاضهـا بـاع دنيـاه بأخـراه
وكيف ساس رعـاة الإبـل مملكـة - ما ساسها قيصر من قبـل أو شـاه
سنوا المساواة لا عـرب ولا عجـم - مـا لامـرىء شـرف إلا بتقـواه
ورحب الناس بالإسـلام حيـن رأوا - أن الإخـاء وأن الـعـدل مـغـزاه
يا من رأى عمـرا تكسـوه بردتـه - والزيـت أدم لـه والكـوخ مـأواه
يهتز كسرى علـى كرسيـه فرقـا - من بأسه وملـوك الـروم تخشـاه
سـل المعالـي عنـا إننـا عـرب - شعارنـا المجـد يهوانـا ونهـواه
هي العروبة لفـظ إن نطقـت بـه - فالشرق والضاد والإسـلام معنـاه
استرشد الغرب بالماضـي فأرشـده - ونحن كـان لنـا مـاض نسينـاه
إنا مشينا وراء الغرب نقبـس مـن - ضيـائـه فأصابتـنـا شظـايـاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب - فالأمس كانوا هنا ما بالهـم تاهـوا
فإن تراءت لك الحمراء عـن كثـب - فسائل الصرح أيـن العـز والجـاه
وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها - عمّن بنـاه لعـل الصخـر ينعـاه
وطُفْ ببغداد وابحث فـي مقابرهـا - علّ امرءاً من بني العبـاس تلقـاه
هذي معالـم خـرسٌ كـل واحـدة - منهن قامـت خطيبـا فاغـرا فـاه
الله يشهـد مـا قلبـت سيرتـهـم - يوما وأخطأ دمـع العيـن مجـراه
أين الرشيد وقد طـاف الغمـام بـه - فحيـن جـاوز بـغـداد تـحـداه
ماض تعيش علـى أنقاضـه أمـم - وتستمد القوى مـن وحـي ذكـراه
لا در در امـرىء يطـري أوائلـه - فخراً ويطـرق إن ساءلتـه مـا ه
اللهمَّ قد أصبحـت أهواؤنـا شيعـا - فامنن علينا بـراع أنـت ترضـاه
راع يعيـد إلـى الإسـلام سيرتـه - يرعـى بنيـه وعيـن الله ترعـاه
كم من شباب مصر يعرف الشاعر محمود غنيم؟ أم أن صلته بالإسلام غيبته؟
المفضلات