من الغريب أن يندهش بعض الناس لما حدث في غزة، ولاستيلاء حماس على مقرَّات المخابرات والأمن الوقائي التي طالما أذاقت الفلسطينيين سوء العذاب، وكانت أوكارًا لتدبير المؤامرات ضد الشعب الفلسطيني، وضد المندِّدين بالاحتلال الصهيوني، وضد من يقف أمام تعاون هذه الأجهزة وقادتها مع الاحتلال، ثم ضد حكومة حماس التي انتخبها الشعب الفلسطيني بأغلبية كاسحة، إيمانًا منه بمشروعها الإسلامي، واحترامًا لتاريخها الجهادي، ورغبةً في التخلص من الفساد والفاسدين عملاء الاحتلال.
أقول: إنَّ من الغريب أن يندهش بعض الناس لكل ما حدث، ذلك لأنَّ اندهاشهم هذا دليل على عدم استطاعتهم قراءة الواقع الدولي والإقليمي والمحلي على حدٍّ سواء.
فالواقع أنه لم يكن من المتوقَّع أن تقبل حركة (فتح) بنتائج الانتخابات التشريعية النزيهة التي جاءت بحركة حماس للوزارة، والمجلس النيابي، لأن حركة فتح ـ التي كانت حركة وطنية تحريرية ـ قد تحوَّلت إلى وكرٍ عميقٍ من أوكار الفساد: المالي والسلطوي، فضلاً عن تغلغل العمالة للعدو وسط عدد غير قليل من كوادرها، ومصالح هؤلاء العملاء، وغيرهم من الفاسدين ماليًًا والذين اتخذوا السلطة في فلسطين المحتلة مغنمًا، تقتضي الانقلاب على الشرعية، ونشر الإرهاب بالسلاح بين أفراد الشعب الفلسطيني، حتى يستطيعوا استعادة نفوذهم، واستئناف نهب أموال الشعب الفلسطيني بالإتاوات، والاستيلاء على أموال الإعانات الخارجية، وحتى يستأنفوا طريق تعاونهم المخابراتي مع العدو الصهيوني ضد الحركات التحريرية الإسلامية والوطنية.
ولا شك أنَّ في حركة (فتح) بعض المخلصين لوطنهم، ولكنهم بالتأكيد ـ وحسبما أكدت الأحداث ـ قلَّة غير ذات قوة أو نفوذ، بينما السيطرة والنفوذ والمال في أيدي العملاء المسيطرين على الحركة.
إذن كان الطبيعي أن يتحوَّل أولئك العملاء في حركة فتح إلى شوكة في حلق الشعب الفلسطيني عامَّة، وحركة حماس خاصَّة؛ فبدأت تلك العناصر في إثارة القلاقل داخل الأرض المحتلة؛ ما عُرِف بحالة الفلتان الأمني، كما استمرَّت حالة عدم الخضوع لسلطة وزير الداخلية في حكومة حماس، ثم المستقل في حكومة الوحدة الوطنية؛ مما دفعه إلى الاستقالة، كما قام نفرٌ من القادة العملاء بإثارة جموع شباب فتح، وتهيئتهم لحرب أهلية مستعينين فيها بملايين الدولارات التي جاءتهم من الولايات المتحدة؛ وشحنات الأسلحة التي وصلتهم عبر إسرائيل – العدو المستمر للمسلمين عامة، وللشعب الفلسطيني خاصة - ليستطيعوا الانقلاب على حماس.
وفوق ذلك كان التعاون المخابراتي غير المسبوق بين فتح وكل من إسرائيل وأمريكا في أوجه؛ بغية القضاء على حماس، وسائر حركات المقاومة؛ ليخلو الجو للعملاء من حركة فتح ليتولوا بأنفسهم تصفية القضية الفلسطينية.
ولم يكن من المتوقع أن تقبل الأنظمة العربية بأن تستقر حركة (حماس) في قيادة النظام السياسي الفلسطيني، ولا عجب؛ فهذه الأنظمة - من جهٍة - في صراعٍ مرير مع الحركات الإسلامية بها، وترفض أن تسمح لها بحرية الحركة والدعوة، فضلاً عن حرية العمل السياسي، كما ترفض أي دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في بلادها، ومن جهة أخرى فقد جاءت حركة (حماس) عن طريق انتخابات حرة لا تقبل هذه الأنظمة بتنظيم مثلها منذ عشرات السنين، ومن ثَمَّ فإنها تخشى نجاح نموذج (حماس) في حكم فلسطين المحتلة، فتتطلع الشعوب العربية إلى تكرار ذلك النموذج، وتطالب به حكامها؛ لذا كان من الطبيعي أن تتحرك تلك النظم لإسقاط (حماس) وتجربتها، وذلك بدعم متمردي وعملاء فتح، وبالتعاون مع العدو الصهيوني، وبفرض الحظر الاقتصادي الشامل على فلسطين المحتلة، كي تتفاقم حاجات الناس، فينقلبوا على حماس وقادتها، بل وصل الأمر إلى قيام تلك النظم بتدريب قوات فتح لكي تواجه قوات حماس في صراع دموي مباغت تقضي به عليها.
كذا لم يكن من المتوقع أن تصمت إسرائيل على وصول حركة حماس للسلطة في الأرض المحتلة، وكيف لا؟! وهي (حركة حماس) قد أذاقت إسرائيل مرارة الصواريخ والعمليات الاستشهادية، وقذف الله عزَّ وجلَّ في قلوب مواطنيها الرعب من هذه الحركة، حتى صاروا على يقين من قرب زوال دولتهم على أيدي حماس، وحركات المقاومة الإسلامية الأخرى.
لم تكن إسرائيل تحتمل حركة حماس، وهي في صفوف المعارضة، على عكس (فتح) التي استطاعت إسرائيل استقطاب عددٍ كبيرٍ من قادتها، فصاروا هم نوابها داخل الأراضي الفلسطينية، والقائمين على تنفيذ سائر خططها، فكيف وقد فاجأها زلزال الانتخابات التشريعية التي جاءت بحماس؟!
إزاء ذلك الزلزال تحرَّكت إسرائيل، وكان تحركها على عِدَّة محاور، فعلى حين أوعزت إلى عملائها بإثارة القلاقل داخل الأراضي الفلسطينية، وترويع المواطنين وإثارة الفلتان الأمني؛ قامت هي بالاجتياحات الوحشية للأراضي الفلسطينية، والاغتيالات المتتالية لقادة المقاومة، كما قامت بفرض حصار اقتصادي طويل الأمد على الضفة الغربية وقطاع غزة، وقامت كذلك بإمداد عملائها من فتح بكميات ضخمة من الأسلحة، ليستطيعوا – كما تظنُّ- مواجهة حركة حماس، هذا فضلاً عن التعاون الأمني والمخابراتي في سبيل التخلص من قادة المقاومة.
وبطبيعة الحال لم يكن من المتوقع أن تقبل أمريكا والدول الغربية المعادية للإسلام ولحريات الشعوب الإسلامية بهذا الانتصار الكاسح لحماس في الانتخابات الحرة؛ لذا فقد قامت بفرض حصارٍ اقتصادي شامل من أول يوم بعد الانتخابات، كما قامت - في إجراء ظالم باغٍ - بتجميد الأرصدة الفلسطينية لدى بنوك الغرب، كما تولَّت دعم الفصيل العميل في حركة فتح.
لم يكن من المتوقع أن تقبل كل هذه الأطراف بوجود فصيل إسلامي مقاوم نزيه في السلطة؛ وذلك ليس غريبًا أو عجيبًا، لأن ذلك هو السُّنة الإلهية في مثل هذه الأحوال: أن أعداء الإسلام والعملاء والخونة لا يقبلون أبدًا بوجود نموذج إسلامي للحكم لا يستطيعون أن يستميلوه إلى صفهم، وليس موقف مساومة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم منَّا ببعيد، وقد ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل المساومة، فكانت النتيجة تكذيب قريش له، وإيذاءه، والتشنيع عليه، وتعذيب أصحابه، ثم الحصار الاقتصادي، وهذا ما حدث مع حركة حماس بالضبط..
إذن لم يكن ما حدث في غزة صراعًا بين الأشقاء كما يتصور البعض، بل هو صراع بين قوة الحق وقوى الباطل الممثلة لجهات عديدة يشارك أغلبها في القتال من وراء الستار أحيانًا، ومن أمامه غالبًا.
إننا في نهاية هذا المقال ندعو لحماس بالتأييد والنصر والثبات على الحق، كما ندعو لفتح بالرجوع إلى الحق، والمثوبة إلى الرشد في اختيار سبيلهم؛ فممّا يحزن المسلمين جميعًا أن تتحوَّل تلك الحركة من حركة نضالية تسعى لتحرير وطنها إلى كيانٍ يحرِّكه العملاء، ندعو لهم بالعودة إلى طريق الجهاد، وإلاّ فليحذروا ... فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يترك المتخاذلين العملاء دون عقاب، والتاريخ شاهد على ذلك. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينصر الحقَّ نصرًا عزيزًا مؤزرًا، وأن يخذل الباطل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.