خلال العقود الأخيرة اشتغل علينا أقوامنا لإقناعنا بزخم الحضارة الغربية، ونعتوها بأجمل الصفات، وأسبغوا عليها ألفاظ التبجيل، بل وآمن بعضهم بنظرية نهاية التاريخ القائمة على أن نهاية الديكتاتورية سيكون على يد الديموقراطية والتي ستكون هي الحد الإنساني الأعلى الذي ستصل له الإنسانية، ولكون صاحب هذه النظرية يتبع اليمين المحافظ فحتما سينظر للشعوب الأخرى نظرية احتقار وازدراء بل وسيتبع الفكر الستاليني القائم على القضاء على كل ما لا نفع منه، فلم يتردد في أن يكون (فوكوياما) من أوائل من طالب بالقضاء على النظام العراقي، فكان من نتيجة ذلك مئات الألوف من القتلى العراقيين الذين لا علاقة لهم بهذه الأزمة سوى أنهم كانوا تحت سلطة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
كان غزو العراق واحتلاله في نظر هؤلاء الفلاسفة الغربيين هو الدرس الأول الذي يجب أن تتلقاه الشعوب والمجتمعات الشرقية وعلى رأسها الإسلامية بأن النظام الغربي هو الذي يجب أن يسود، ذلك النظام الذي ينادى بإقامة نظام ديموقراطي في كافة المجتمعات العالمية، ويستخدمون القوة القهرية ولو أدى ذلك للقضاء على مئات الألوف من الأرواح البريئة، المهم أن يتم تطبيق الديموقراطية، لذلك تولدت لدي قناعة تامة بأن الديموقراطية أشد سفكا للدماء من الدكتاتورية، وشواهد التاريخ تثبت ذلك، الديموقراطية لم يكن مخاضها الحرب العالمية الأولى، بل ما يزيد على قرنين، فبريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة عبارة عن ديموقراطيات نشأت خلال آخر ثلاثة قرون، فماذا فعلت بريطانيا الديموقراطية ابان احتلالها للهند ومصر والعراق وفلسطين وغيرها من البلدان؟ ماذا فعلت اسبانيا في امريكا الجنوبية؟ ماذا فعلت فرنسا في موريتانيا والمغرب والسنغال وسوريا؟ ماذا فعلت الولايات المتحدة في فيتنام وكوريا وأفغانستان وأمريكا الجنوبية والعراق؟ لقد رسخت هذه الدول كافة مفهوم حضارة القوة التي تتصادم مع الحقائق الإنسانية، فإذا كانت الدكتاتوريات القديمة والحديثة قائمة على استعباد البشر واسترقاقهم لأجل الحزب أو القائد المظفر أصبحت الديموقراطية تستعبد الأقلية لعيون الأكثرية، بل وتلزم الشعوب الأخرى بنفس النظام وبأسلوب قسري، وهذا مشاهد الآن في دول كثيرة.
لكن لأي مدى تُطبق الديموقراطية بحقيقتها الغربية في العالم؟ خاصة الأسلوب الغربي القسري القائم على التهديد والوعيد، لم يستطيعوا حتى اللحظة برغم قوة النار والحديد المصبوب على أفغانستان والعراق الوصول إلى النظام الذي يدعون تطبيقه، وتصادمت ديموقراطيتهم الزائفة مع الديموقراطية التي حدثت في الأرض المحتلة والتي جاءت بمصداقية أكبر من مصداقية الانتخابات الأمريكية نفسها والتي تمارس باسلوب إرهابي اعلامي ما بين المتنافسين، بالاضافة إلى تقبيل اقدام وأنوف وأحذية اللوبي الصهيوني المسمى آيباك للحصول على موافقته وكأنه هو المرشد الأعلى للثورة الديموقراطية!.
وفي خضم الأحداث المتلاحقة على أرض فلسطين يظهر عوار الديموقراطية، حيث اصبح ثوبها أكثر شفافية عن ذي قبل، إذ استطاع المجتمع الدولي أن يفهم هذه الديموقراطية والليبرالية على حقيقتها، فهي لا تعدو أن تكون ثوب زور تلبسه القيادات الغربية، ويثبت هذا من خلال الرئيس الامريكي أوباما الذي اعتبره كثير من العرب انه المخلص، ولو رجعنا لوعوده التي أطلقها لم نجد أي جديد، كل ما استجد هو تغير صبغة اللون ولسان أكثر تهذيبا من سلفه، نعم، الرئيس الأمريكي لا يمثل وجهة نظر الشعب الأمريكي، بل يمثل وجهة نظر اللوبيات في في الولايت المتحدة، اللوبي الصهيوني، لوبي رجال الشركات العابرة للقارات، لوبي أصحاب المصالح الشخصية ذوي النفوذ، لوبي الجماعات اليمينية المتطرفة، لوبي شركات الحرب، وهذا ليس حكرا على الولايات المتحدة، فلدينا بلير بريطانيا الذي خبرناه جميعا، وأزنار اسبانيا الذي صرح قبل أيام بأنه إذا سقطت إسرائيل سقط الغرب، وسيلفيو برلسكوني الإيطالي، وهؤلاء الذين شاركوا الرئيس السابق للولايات المتحدة غزو أفغانسات والعراق والمساهمة في ارتكاب المذابح والتنكيل بالشعب العراقي والأفغاني، ثم انظم إليهم بعد ذلك المسمى ساركوزي المعروف بعنصريته تجاه الجاليات غير الفرنسية، وكافة هؤلاء لا يقدموا للعالم سوى أكاذيب وأراجيف، فيما يرى بعض (العرب) عفى الله عنا وعنهم أن مصافحتهم مفخرة.
لا استطيع أن أرى في الحضارة الغربية الآن سوى دبابة أبرامز وطائرة F-22 ورشاش M16 وقنابل توزن بالطن، هذا الذي نراه من المجتمع الغربي، هذه ليست حضارة إنسانية، هذه حضارة قوة، حضارة سطوة وتدمير، حضارة قتل وسفك دماء لكل من يخالفهم، اعلامنا الزائف يترنم دوما بهذه الحضارة التي تتمثل في الثالوث الدولي، فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الذين قال الله فيهم وفي أمثالهم (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، آية يحفظها مئات الملايين من المسلمين، هذه الدول التي تعتبر أكبر الدول بيعا للسلاح وتمويلا للحروب والعداوات، هذه حضارة القوة التي نهضت الإنسانية لتعاندها، نهضت الإنسانية ممثلة في أحاسيس الشعوب حتى في تلك الدول، ففي ظل كافة الممارسات الصهيونية على الأرض المحتلة لم ينصفنا ولو حتى بمجاملة بسيطة، بينما أصبح سيف السامية مسلطا على كل تحرك سياسي أو إعلامي أو أدبي أو فكري.
لقد انبرت الانسانية متمثلة في المنظمات الحقوقية وكل ذي مسؤولية للوقوف في وجه حضارة القوة التي كشرت بأنيابها في وجوه الضعفاء، وأصبح هذا التيار الإنساني واسعا، ومن شدة اتساعه ضم في جنباته متضامنين يهود يعلمون بصراحة أن اليهود زُرعوا على أرض فلسطين ليكونوا خط دفاع أول للغرب، وأنهم كبش فداء سيتم التضحية به إن آجلا أو عاجلا، وتصريحات رئيس الوزراء الاسباني الأسبق – ازنار- تثبت ذلك، لقد انبرت الانسانية متمثلة في شخص رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان للدفاع عن حقوق البشرية في التمتع بحياة هانئة على أرض فلسطين، وانبرت الانسانية متمثلة في شخصيات أدبية وعلمية وسياسية وشعراء وفلاسفة وأكادميين وحقوقيين لتنبري قرائحهم وأقلامهم وألسنتهم للحديث عن هذا الصدام بين حضارة القوة والإنسانية.
المجتمع الغربي حاله كغيره، فيه الخير والشر، لكن غلب شره على خيره، والشر يركن للقوة، والخير يركن للمنطق، والقوة مهلكة والمنطق منجي، والعالم الإنساني الحر سيواجه حضارة القوة، إن آجلا أو عاجلا، ولن يهنئ اتباع اللوبيات بتحقيق أهدافهم ففي النهاية العبرة بما تريده الإنسانية لا بما تريده القوة، إن حضارة القوة لا تساوي شيئا بدون الإنسان، لذلك اعتمادنا بعد الله على الإنسانية التي يجب أن نوصل لها الرسالة، نحن مقصرون بشكل كبير مع هذه الإنسانية، لأن رسالتنا رسالة حق، رسالة لم تقتنع بها حضارة القوة، لكنها مقنعة جدا للإنسانية.
المفضلات