في هذا الوقت الذي تعيش فيه الأمة مخاضا عسيرا، مخاضا نشاهد فيه آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين والمكلومين، ونسمع الأنين ونشاهد الدموع، في هذا الوقت الذي عرفت فيه الأمة حقيقة الطريقة واستوعبته، وعلمت أن العبودية نهايتها وخيمة، وأنها نفق مظلم لا نهاية له، وأن التهاون مع الاستعباد لا خير يرجى منه، وأن المجاملات والصبر على العبودية لا نتيجة له سوى المزيد من الظلمة، ولما علمت الأمة أن الحرية تُنتزع انتزاعا ولو كانت بين فكي أسد، انطلقت لا تسمع لبيانات وخطب لا تُقدم ولا تؤخر، ونهض الشعب المسلم والشعب العربي وهو يردد:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أراها ... تنال إلا على جسر من التعب
فضحوا بالغالي والنفيس، فكان شهداء الثورة ينيرون الطريق لمن خلفهم بدمائهم، ويقولون لإخوانهم "إما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيض العدا"، فلا خير في حياة تحت قيد الذل، ولا خسارة في موتة نحتسبها في سبيل الله.
إن مصر تنهض من ركام الجاهلية، وركام الظلم والتعسف، وركام الفساد المالي والإداري والاخلاقي، من ركام الروتين والمحسوبية، فأي دعوة تتجاوز دعوات البناء من (الصفر) بحجة مهاجمة الغرب فهي دعوة عاطفية لا تصدر من عاقل، إن صلاح الدين الأيوبي لم ينطلق لتحرير المسجد الأقصى إلا بعد ان دانت له مصر، ثم لم يزحف نحو بيت المقدس، بل قوى نفسه في مصر، ومد نفوذه إلى المغرب العربي، "كان صلاح الدين قد تراجع في مناسبتين عن غزو مملكة بيت المقدس، وذلك في عامي 1170 و1172 حيث كان يسعى للإبقاء على امن بلاد مصر والنوبة" ... تخيلوا، لو قرأ واحد من أصحاب البيانات العمياء هذه العبارة لكذبها ولما راقت له، لأنها في فكره بمثابة الخيانة لبيت المقدس، كيف يتراجع؟؟
إنها الحكمة، البناء، شعب ضعيف، شعب دمره العبيديون لقرون، يحتاج لإعادة بناء.
بسط نفوذه جهة الشام، في دمشق ثم الموصل.
ينما كان صلاح الدين يعمل على بسط نفوذه على عمق سورية فقد كان غالبا يترك الصليبيين لحالهم مرجئا المواجهة معهم وإن كانت غالبا لم تغب عنه حتميتها، إلا أنه كان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم، وكان الاستثناء هو موقعة مونتجيسارد يوم 25 نوفمبر 1177 حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في خطأ ترك الجنود تسعى وراء الغنائم وتتشتت، فهاجمته قوات بولدوين السادس ملك أورشليم وأرناط وفرسان المعبد وهزمته.
وحتما اتعظ بهذا الموقف الذي حصل، فهو عادة لا يُهزم، لكن هذا التسرع لم يكن بحاجة إليه، على الرغم من شدة تأمينة للأمور، إلا أنه تورط هنا، بل وقد أرسى هدنة مع الصليبيين في سنة 1180م، وبعد هذه الهدنة بسبعة أعوام، تقابل مع الصليبيين في حطين ليهزمهم شر هزيمة، وينتقل بعدا لالتهام الإمارات الصليبية الواحدة تلو الآخرى، وبعدها بثلاثة أشهر فقط يحرر بيت المقدس من براثن الصليبيين.
إن المهاوييس الذين يريدون أن يحققوا للأمة عزة ونصرا ولكنهم يستعجلون يدعون بهذه الدعوات للتصادم مع الغرب، فإياكم والإنجرار خلف هذه الدعوات، فهي دعوات متهورة، إذا لم نكن مهيئين اقتصاديا ولا اجتماعيا ولم تستقر الأوضاع بعد في بلاد المسلمين، فمن الاولى أن نلتفت لأوضاعنا، أن نصلح ذات بيننا، أن نيلف فيما بين قلوبنا، أن نعيش بالإثار لا الأثرة، أن نبني الصرح العظيم الذي نتمنى بناءه منذ زمن، ذلك الصرح الذي يسود فيه الحب والعدل والمساواة بين الراعي والرعية، بعد ذلك ننطلق بحسب ظروفنا وقدرتنا إلى استرداد حقوقنا، فإما نستردها بالحوار، وفي ذلك الوقت سنحاور ونحن أوقى اقتصاديا وسكانيا واستراتيجيا، فإن لم ينفع الحوار فبعد ذلك لن نسترد الحقوق إلا بالقوة.
والحمد لله رب العالمين
المفضلات