كانت أول مرة أعود فيها إلي مصر بعد حصولي علي الجنسية الأمريكية منذ سنوات. وقفت أمام ضابط الجوازات بمطار القاهرة وأنا أحمل جوازي سفر: الأول، هو المصري الأخضر الطازج الذي يذكرني حجمه بالكتب، التي كانت تثني ظهورنا الغضة ونحن نحملها ذهابا وإيابا من مدرسة السلام الابتدائية بكفر الشيخ.
والثاني، جواز سفر أمريكاني (مفعوص) لا تكاد تشعر به في جيب القميص. ترددت للحظة وأنا أسأل نفسي: أي الجوازين أستخدم الآن؟! بالطبع هذا السؤال غير مطروح بالمرة في أي عاصمة أخري لسبب مفهوم، وهو أن الجواز المصري رغم حجمه المهيب، إلا أنه منظر علي الفاضي، لا يسمن ولا يغني من جوع، وليس اسما علي مسمي، فهو في الخارج لا يصبح «جوازا» من السماح بالشئ، ويتحول بقدرة قادر إلي ما يشبه فتاوي التحريم إياها.. لا يجوز.. لا يجوز.. لا يجوز!
لكني الآن في القاهرة، عاصمة المعز.. عيب أن أعمل خواجة، ومن فات قديمه تاه، ومصر هي أمي، حتي لو كان البعض يعتقد أنها مرات أبويا، فليكن، علي الأقل إكراما لذكري الوالد. وتوكلت علي الله وقدمت الباسبور المصري الذي أثبت معدنه الأصيل، الذي يظهر عند الشدائد، ومررت بحمد الله إلي مكان انتظار الحقائب التابع لأحد الخطوط الجوية الأجنبية.
كانت معي زوجتي وكل منا يحمل طفلة في يديه ، وطال الانتظار ولم تظهر الحقائب. ودلنا بعض العاملين علي مكتب الشركة الأجنبية للإبلاغ عن الحقائب المتأخرة. وقفت في الطابور الذي أوضح لي أنها مشكلة تخص كثيرا من المسافرين، وأغلبهم أجانب كما كان واضحا من ملامحهم، ومن عدم تخطيهم دورهم في الطابور.
وسمعت الموظف المصري يبلغهم بإنجليزية مكسرة بأنه سيتم إرسال الحقائب في اليوم التالي إلي المكان الذي حددوه في البلاغ المكتوب. وجاء دور العبد لله، وكتبت بيانات وشكل الحقائب، وكذلك عنواني الذي سيتم إرسالها إليه، لكن الموظف استوقفني بأن علي أن أعود في اليوم التالي إلي المطار لتسلم حقائبي. دهشت للطلب، وسألته (اشمعني)، خاصة أنني سمعته بنفسي يعد الآخرين بإرسال الحقائب إليهم، لكنه رد باستغراب كمن يفهمني غلطي: لأنهم أجانب!!
ولم أصدق ما أسمع.. إن هذا التصرف لو حدث ضد مصري في مطار أجنبي لكان من حقه أن يرفع قضية مضمونة ضد الشركة التي تميز ضده بسبب انتمائه لدولة ما، لكننا هنا في مصر، فكيف يسمح بمثل هذه الإهانة للمصريين علي أرض وطنهم؟! وإذا كان هذا هو الحال في مصر، فلماذا نشكو إهانة الآخرين لنا في بلادهم؟ فمن يهن يسهل الهوان عليه.
لم يطل بي التفكير كثيرا، قبل أن أرد عليه: لكنني أمريكي. قلتها هذه المرة بملء فمي دون تحرج أو استحياء. فأشار إلي أنني أحمل جواز سفر مصري. فأجبته بغيظ وتحد: إنها غلطة وسأصلحها فورا. وذهبت إلي مكتب مدير الجوازات، وطلبت منه تغيير تأشيرة الدخول إلي الجواز الأمريكي، وهو ما فعله بشكل مهذب ومتحضر بعد أن عاتب موظف الشركة علي تلك التفرقة، فرد عليه الموظف بأنه فقط ينفذ ما لديه من تعليمات. واستقبلت حقائبي في منزلي في اليوم التالي دون معاناة.
تذكرت هذه الواقعة منذ أيام، كما يحدث في كل مرة أفكر فيها في زيارة المحروسة، لكني أصارحكم القول بأنني لم أعد أفكر أو أتردد في أي الجوازين أستخدم عند دخولي مطار القاهرة. لقد فقد الجواز المصري صلاحيته منذ زمن بعيد، حتي لو كانت بيانات مصلحة الجوازات تؤكد أنه لايزال ساري المفعول، وهو عندما عومل بامتهان في بلاده، لم يكن متوقعا من الآخرين أن يرفعوا له القبعة.. المدهش أننا بعد كل ذلك، نتذمر لتفتيش البابا شنودة في مطار لندن.
.. وعفوا أيها (الجواز) الأخضر الحبيب، فأنا أشفق عليك من أهلك، بعد أن غلبوا عليك كل شيء، من الكارت الأخضر، إلي الدولار الأخضر، والكتاب الأخضر
المفضلات