سألني أحد الأخوة قبل بضعة أشهر حول معنى هذه العبارة، وكنت على يقين بأن سؤاله جاء بحسن نية، فلم اشرح المعنى له، لكني ردتت ضمن السياق الذي طُرحت فيه، فاكتفى الأخ بردي


أولاً من هو ابن عساكر ؟
قال الإمام الذهبي رحمه الله :
الإمام العلامة الحافظ الكبير المجود، محدث الشام، ثقة الدين، أبو القاسم الدمشقي الشافعي، صاحب " تاريخ دمشق" .

قال ابن عساكر (وتنسب إلى غيره):
اعلم بارك الله فيك أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة ربك في هتك استار

منتقصيهم معلومة، ومن ابتلاهم بالسب والثلث ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.

وفي هذا النص ثلاثة نقاط واضحة:
1- لحوم العلماء مسمومة.
2- ان من ينتقصهم يهتك الله ستره.
3- أن من يقع فيهم سبا وثلبا يبتليه الله بموت القلب قبل موت الجسد.

من وافق ابن عساكر رحمه الله في هذه المقولة ؟
إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل رحمه الله قال: (لحوم العلماء مسمومة ومن شمَّها مرض، ومن أكلها مات)
الإمام المحدث صاحب التصانيف في علوم الحديث، الخطيب البغدادي قال: (لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في منتقصيها معلومة).
وقال النووي -نقلاً عن أبي حنيفة والشافعي- : (إن لم يكن العلماء أولياء الله، فليس له ولي)
شيخ الإسلام ابن تيمية استدل بها.
الإمام السيوطي استدل بها.
وأما في هذا الزمان فمئات الكتب تعجّ بهذه المقولة.
الشيخ يوسف القرضاوي.
الشيخ علي جمعة.

ما معنى هذه المقولة ؟
قبل أن أشرع في شرح المقولة أحب أن أنبه إلى نقاط سريعة:
1- أن هذه المقولة لا تشمل من يبين خطأ العالم في فتاوه بقصد تصحيح الخطأ لا بقصد التصيد.
2- أن العلماء بشر يصيبون ويخطؤون و أن خطأهم لا يخلو أن يكون من أمرين، خطأ في أمور الدنيا، أو خطأ في أمور الدين ، وأما الخطأ في أمور الدنيا فهو زلة في اللسان أو اتخاذ قرار أو فعل اتاه مما يقع فيه كافة الناس، فهذا مما يُستر وجوباً لأن الله تبارك وتعالى يأمرنا بالستر ، وهو في حق العلماء أهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) أي تجاوزوا عن أهل الخصال الحميدة والصفات الحسنة ممن يُحسن الناس الظن بهم ، وهذا الحديث يشمل حتى معصيتهم فيما هو دون الحد ، وأما الخطأ في أمور الدين في المعتقد والتشريع والتفسير فهذا يُظهر ويبين للناس مع الاعتذار له ، أن يُعذر في خطئه إن كان مما يُقبل، حتى لو أصر على فتواه في مسائل يُقبل الاجتهاد بها يُرد عليه بالأدب والتلطف، و أما المسائل التي لا يُعذر فيها فهذه يبينها أهل العلم ويصححونها ويصدرون الأحكام عليه ، ويُرد عليه .
3- أنه لا قداسة لعالم ، لكن هل يعني نفي القداسة أن نفتح الباب على مصراعيه لنقدهم ؟
4- إذا وجدت من شخص نقداً لأهل العلم يتجاوز نقده لأهل المعصية فاعلم أن في قلبه مرض .


[لحوم العلماء مسمومة]
فأما قول ابن عساكر: "لحوم العلماء مسمومة"
فإن من الجهل أن يظن ظان أن المقصود أنها مسمومة حقاً ، إذا فعلام الاعتراض ؟
كعادة من يضع أشرطة الفيديو ويفتري ، حتى إذا راجعت الشريط ظهر لك عوار ما استدل به واضع الشريط، أو ينقل نصاً لعالم ثم يثبت لك جهله في النقل عن العالم وتفسيره لكلامه بطريقة باطلة ، كذلك هذه المقولة ، من لا تقوى لغته العربية على نقدها فلا يتكلمْ عنها ويسكت ، أما إرسال النقد للعبارة دون تفنيد لكلماتها فمرفوض وله دلالاته السلبية على طبع من يوجه النقد .

قال تعالى (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) الحجرات .
إذا سمى الله تبارك وتعالى الغيبة "أكل لحم الأخ ميتا"...
وقال تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) الأحزاب .

فإذا كانت غيبة المؤمنين والطعن فيهم كأكل لحمهم امواتاً، فكيف بالطعن في علماء المسلمين ؟
إن الطعن في علماء المسلمين مدعاة لترك الأخذ عنهم ، وهو وسيلة من يريد الطعن في الإسلام ، فعلى سبيل المثال تجد كثيراً من الصحفيين ومقدمي البرامج الفاسدين لا يستطيع أن يوجه طعنه للإسلام مباشرة فينتقص الدين، فماذا بقي إذا ؟
عن من يؤخذ الدين ؟
القرآن والسنة لا تؤخذ من الكتب ، فمهما كانت آلات الكشف عن الأحكام الشرعية التي يمتلكها العالم فإن اتصاله بالسند إلى أهل العلم ممن سبقه ، حتى يتصل بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعول الرئيسي عليه في هذه المسائل ، وليس مجرد قراءة القرآن والسنة النبوية! .

فلماذا سميت مسمومة ؟
إن طعن المسلم في أخيه المسلم مدعاة لمرضه ، فإن الله تبارك وتعالى لم يشبهها اعتباطاً ، فإن أكل الميتة ممرض ، بينما الطعن في العلماء مساس بالدين ، شاء من شاء و أبى من أبى ، فإن الطاعن في أهل العلم سواء علم بخطرها أم لم يعلم فهو محاسب على هذا ، فإنه يمس الدين ، والحيثيات اللحاقة سنذكرها.

[وعادة ربك في هتك أستار منتقصيهم معلومة]
إن كان من كلمة تحتاج مراجعة في كل هذه المقولة فهي كلمة [عادة] والصحيح أن ننسب لله ما نسبه لنفسه فنقول [وسنة ربك].
هتك الأستار بمعنى الفضح ، أي أن لله سنة في فضح من ينتقص العلماء وأن هذه السنة معلومة .
كيف عرفنا أنها معلومة ؟
عُرفت من خلال المصائب التي أصابت أقواماً تجرؤوا على العلماء وطعنوا فيهم .

[ومن ابتلاهم بالسب والثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب]
أي من تسلط عليهم بالسب والثلب ، ابتلاه الله بموت قلبه قبل أن يموت حقيقة .
وكل هذا ثابت من خلال القصص التي مرت عبر التاريخ ، ولأن الله لا يهدي كيد الخائنين ، ولأن الله قال (إن الله يدافع عن الذين آمنوا...) الحج . وأرفع المؤمنين إيماناً بعد الرسل وأتباع الرسل وأحقهم بدفاع الله عنهم هم نقلة هذا الدين.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله) فلا يحمله المتردية ولا النطيحة ولا يحمله من يطعن في العلماء ، بل يحمله العدول ، الثقات .

لذلك نعلم الفرق بين طعن العالم وطعن غيره من الناس ، ومن يقول أنه لا فرق بين عالم وجاهل فقد اأعظم الفرية على الله ، فقد قال تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة ، وهذا الرفع ليس فقط رفعاً لمقامهم ، مجرد مقامات ، بل يرفعهم الله ويختصهم بالدفاع أكثر من غيرهم ، ودلائل التاريخ تشير إلى ذلك ، لكن عتبنا على من لا يقرأ .

وسنسرد بعض هذه القصص لاحقاً بإذن المولى عز وجل .