.‬قبل ان انقل مذكرات هذا الشخص اود ان اقول ان ترتكب جريمه حرب وتبيد قري ومدن شي حدث وسيحدث في العالم لكن الامر الغريب ان يكون النظام الحاكم يستخدم جيش الدوله في مواجهه مواطنين الدوله هذا اول مره اقراء عنه لم اري هذا من قبل فمن المعتاد ان يقوم جيش دوله بمهاجمه دوله اخري واباده قري داخلها مثل مذبحه نانجنغ التي قام بها الجيش الياباني تجاه مدينه نانجنع الصينيه او مذبحه درسدن تلك المدينه التي اختفت من علي وجه الارض او هجوم اسرئيل علي فلسطين في غزه والتاريخ به الكثير من المذابح ولكن مذبحه حماه الاغرب لم افهم ابداء سر موت قلب حافظ الاسد تجاه شعبه ستلاحظ ان القتل لا يكون بسرعه لكن هناك وسائل ستقرائها ستجعل جسمك يؤلمك مما يسرد ........






عشت لأروي ‬لكم طفولتي ‬في ‬مجزرة حماه (1)


لا اعرف ماذا اصابني ‬اليوم...‬؟

ما عدت ‬أريد التواري ‬وسوف اذهب الى مرسمي، ‬والى كل التظاهرات،. ‬لم اعد استطيع ان اخفي ‬هويتي ‬أنا الفنان الذي ‬تحول الى ثائر منذ وقفة ‬السفارة الليبية. ‬وتحولي ‬هذا ليس له علاقة بذاكرتي ‬البعيدة في ‬حماه عن مقتل أبي ‬ومقتل مدينة طفولتي ‬واغتصاب نسائنا وسجننا وقصفنا وقهرنا وتهجير من بقي ‬منا الى الريف ليتسنى لهم تغطية جرائمهم . ‬اقسم بالله انني ‬لست حاقداً ‬أو طالباً ‬للثأر ‬ولكني ‬مع القصاص العادل. ‬حزني ‬الآن له علاقة بمشاهداتي ‬اليومية لما ‬يحصل من حولي. ‬نتظاهر فيطلقون علينا الرصاص، ‬نشيع فيمطرونا بالرصاص، ‬نعود لنشيع ‬يردون بنفس الطريقة . ‬وهكذا. ‬نجلس في ‬بيوتنا، فيكسرون الابواب ليعتقلوننا ويخيفون امهاتنا ..‬

إذا لم اقتل انا فسوف ‬يقتل ‬غيري؛ اقسم بالله اني ‬احب الحياة ولكني ‬احب العدالة اكثر. ارجوكم، اخبروني ‬ماذا افعل. لا اعرف ماذا اصابني ‬اليوم ...‬؟ تذكرت اليوم، أكثر من أي ‬يوم، تذكرت أبي .‬

أبي ‬كان طبيب عيون في ‬حماه. لم ‬يكن من جماعة الاخوان المسلمين لكنه انحاز لاهل مدينته المستباحة .‬

صدقوني، ‬ونصف اهل حماة ‬يشهدون على ذلك، لقد قلعوا احدى عينيه وهو حي ‬ثم قتلوه ومثلوا بجثته أشد تمثيل.

‬لما دفناه وكنت صغيراً ‬أذكر أنه كان بلا عيون.

في ‬شباط ‬1982 ‬كان عمري ‬6سنوات وكنت في ‬الصف الأول ابتدائي ‬وقد انتهينا من الفصل الاول وكانت عطلة الربيع، ‬ويا لها من عطلة ..‬

ليلاً ‬ونحن نيام نسمع اصوات مدوية تكسر صمت المكان وتحول الطمأنية الى هلع قاتل، ‬فيما ارتباك كبير ‬يبدو على عمتي ‬التي ‬ربتني ‬وانا انام بقربها ‬لأملأ فراغ ‬الأمومة لأنها لم تتزوج ابداً، ‬وكانت تعيش معنا في ‬بيتنا الجميل المؤلف من طابقين كبيت عربي ‬تقليدي . ‬باقي ‬اسرتي ‬وابي ‬وامي ‬ينامون في ‬الطابق الثاني، ‬بعد هذا بلحظات أسمع اصوات اخوتي ‬وابي ‬وامي ‬تعلو وهم ‬ينزلون الدرج ويدخلون ‬غرفة عمتي، ‬فيما ‬يتصاعد اطلاق الرصاص أمي ‬تقول لأبي (‬الم اقل لك ان نبقى في ‬المزرعة )‬، ‬هذه الجملة لم تفارقني ‬لسنين ‬طويلة وانا افكر بها وتؤلمني ‬فكرة ان أبي ‬لم ‬يبق في ‬المزرعة، ‬بقي ‬الأمر حتى كبرت وسامحته وقلت إنه القدر .‬


صوت الرصاص بدأ ‬يملأ الحياة، ‬كنت أسمع أزيزه للمرة الأولى، ‬الصوت ‬يرتفع أكثر، ‬ثم ‬بدأ صوت الانفجارات ومرت الساعات وبعدها بدأنا نتعود على هذه الاصوات، ‬يمر الوقت ويبدأ بعض الجيران بالتوافد إلى بيتنا . ‬فوضى عارمة في ‬كل مكان، ‬اطفال ‬يبكون، ‬ونساء تقرأ القران وقلق كبير، ‬هذا الوضع استمر ثلاثة ايام، ‬وبعدها سمعنا صوت انفجار كبير، ‬قال أبي ‬إن قذيفة أصابت الطابق العلوي، ‬واهتز البيت كما ملأ الغبار رئتي ‬كمثل ما ملأ المكان وتعالى صوت النساء ‬يقرأن سورة ‬ياسين، ‬فيما ارتفعت وموجة بكاء حاد .‬

قال ابي، ‬يجب أن نغادر المنزل باقصى سرعة، ‬خرجنا وبدأ الناس بالتجمع والصراخ، . كان الذعر ‬يسيطر على كل شي، ‬دخلنا الى بيت احد الجيران ‬ومن ثم الى قبو مظلم اعتقد رجال الحي ‬انه اكثر امناً ‬من ‬غير أماكن، ‬وكان العدد اكبر من المكان . ‬وبقينا ثلاثة ايام والرصاص لايتوقف أبداً ‬بعدها تندفع قذيفة مدفعية تهز كل شي، ‬وسورة ‬ياسين ترتفع حتى السماء، ‬وقذيفة ثانية وثالثة المكان في ‬اهتزاز دائم، ‬فيما لم ‬يصب احد ‬من الذين كانوا في ‬القبو، ‬ولكن كثيرين من أهل الحي ‬ماتوا واصيب الكثيرون، ‬والطبيب الذي ‬يسكن الحي ‬انقذ من استطاع انقاذه .‬

بقينا في ‬القبو حتى هدوء القصف والرصاص، ‬اخرجونا وقالوا ‬يجب المغادرة ‬باتجاه احياء اكثر أمناً، ‬لم ‬يعرفوا حتى هذه الساعة انهم كانوا ‬مخطئين ولم ‬يخطر ببالهم انها كانت حملة ابادة جماعية .‬

خرجنا مسرعين باتجاه سوق الحاضر لنعبر الى الأميرية وصلنا الى شوارع كان علينا ان نعبرها زحفاً ‬لوجود قناصة في ‬كل مكان، ‬بعد وقت صعب ‬وصلنا الى حي ‬الاميرية عندما قطعنا الشارع الأخير زحفاً ‬كان ابي ‬يساعد عمتي ‬المرأة الكبيرة وانا ملتصق بها تماماً، ‬عبرت امي ‬واخواتي ‬مع الجميع وبقينا نحن الثلاثة، ‬حينها طلب مني ‬ابي ‬ان الحق بالجميع، ‬فرفضت لاني ‬كنت ‬اريد ان اظل ‬مع عمتي ‬التي ‬ربتني، ‬ولكنه اجبرني ‬على اللحاق بأمي ‬والآخرين وبقي ‬هو مع عمتي ‬وهذه كانت آخر مرة أرى فيها ابي ‬حياً .‬

في ‬حي ‬الأميرية تابعنا البحث عن ملجأ ‬يحمينا، ‬وجدنا قبوا مكتظا بالناس، ‬لم ‬يستطيعوا ادخالنا لأن عددنا كان كبيراً ‬جداً (‬معظم سكان حي ‬البارودية )‬، ‬ولكنهم ادخلو ابي ‬وعمتي، ‬فهم اثنان فقط . ‬في ‬ذلك الملجأ في ‬الأميرية اعتقل ابي ‬وبقيت عمتي ‬التي ‬رأت وأخبرتنا بما حدث .‬

تابعت مجموعتنا الطريق باتجاه شمال الأميرية ووجدنا هناك ملجأ كبير ‬يتسع للجميع وبقينا داخله ‬يومين قبل وصول الجيش العربي ‬السوري. ‬عندها ‬تحول الملجأ الى معتقل، ‬حيث اخرجو جميع الرجال والشباب من المكان، ‬واعدموا بعضهم مباشرة عند الباب، ‬واعتقلوا الشيوخ كبار السن. ‬بقي ‬في ‬المكان النساء والأطفال، ‬البعض ‬يبكي ‬والأكثرية ‬يرددون بعد مجبرين تحت التهديد (‬"بالروح بالدم نفديك ‬ياحافظ"، "‬يا الله حلك حلك ‬يقعد حافظ محلك"، للامعان في ‬مهانتنا ).‬




ثلاثة أيام سجنونا وقتلوا من شاؤوا، ‬اقسم بالله من دون طعام، ‬رائحة المكان أتذكرها جيداً،. ‬كانت لاتطاق ودائما ما كنا نسمع اصواتا صراخ ‬خارج القبو، ‬اغتصاب نساء وتعذيب لايمكن لي ‬اليوم ان اصفه أو أتذكره إلا ويؤثر بي .‬

لقد كان مع بعض النساء سكاكر وشوكولا، ‬وقبل ان ‬يأخذوا الرجال احضر احدهم خبزا وزيتون تقاسمنا كل شي ‬كميات لاتكفي ‬لرجل واحد؛ في ‬هذا الوقت كانت النساء تقرأ القرأن من دون توقف ولكن بصوت منخفض. وبعدها فتح الباب وطلبوا منا الخروج لأنهم قالوا سوف نقتلكم وبدأنا نهتف ‬بروح بالدم نفديك ....‬الخ، ‬عندها قالوا ‬يجب أن نذهب باتجاه طريق حلب والاتجاه خارج المدينة،. ‬سرنا نرفع ايدينا ونحن نردد ما طلب منا، ‬منظر لا ‬يعقل. المكان مليء الجثث، ‬وهي ‬منتفخة، ‬والدماء سوداء، ‬ونحن من شارع الى آخر، ‬الجثث والدمار في ‬كل مكان .‬

‬تقدمنا حتى وصلنا الى جامع عمر ابن الخطاب (‬الذي ‬تسمعون عنه اليوم والذي ‬بدأت فيه الآن التظاهرة للمطالبة بالحرية). كان الجامع مدمراً، ‬لم ‬يبق فيه الا الموضأ، ‬كان فيه بعض عناصر الجيش اخافونا بتوجيه اسلحتم علينا، ‬فانبطح الجميع أرضاً، ‬وبعدها ادخلونا الى الموضأ واغلقوا الباب بإحكام، ‬بعض النساء قلن لعناصر الجيش اقتلونا ودعوا الجميع ‬يخرجون من المدينة ولكنهم رفضوا .‬

عند دخولنا الى الموضأ وجدنا خبزاً ‬عفناً ‬هجمنا عليه وبدأنا بالأكل .. ‬وهناك وجدنا ايضاً ‬تمثالين صغيرين من حمام الزينة الأبيض، ‬لا اعرف لماذا كانا هناك، ‬ولكنهما بديا لي ‬على انهما مؤشراً ‬لبداية الخلاص من حمام الدم . ‬بقي ‬الباب موصداً ‬لمدة ‬يوم ونصف بعدها القيت خطبة ‬من احد الضباط قال فيها "التي ‬لها زوج أو أخ او ابن أو أب وتنتظره، ‬فلا تنتظره لأنه لن ‬يخرج حياً ‬ابداً ‬و لن ‬يعود" .‬

اطلقونا باتجاه حلب، ‬مشينا اكثر من عشرة كيلومترات نسابق الزمن ونحن حفاة نبكي ‬والنساء تقرأ القرآن، ‬واذا سمعنا اطلاق رصاص مباشرة كنا ننبطح جميعاً ‬حتى وصلنا الى النقطة التي ‬سمحوا فيها لأهالي ‬القرى الوصول اليها لمساعدة الناجين .‬

ماذا أقول ... ‬اقسم بالله، ‬هذا ‬غيض من فيض .‬



عشت لأروي ‬‬لكم طفولتي ‬‬في ‬‬مجزرة حماة 2



بعد وصولنا إلى الأطراف الشمالية لمدينة حماه وكنا حفاة وملابسنا متسخة ورائحة البول تطغى على المشهد، استقبلنا اهالي ‬الريف وركبنا سيارة شحن ‬كبيرة وتوجهنا الى القرى .. ‬وتركنا هناك وراءنا في مدينتنا صوراً و قصصاً مؤلمة. . ‬كان بحينا بالبارودية إحدى جاراتنا لديها شابان أحدهما من ذوي ‬الاحتياجات الخاصة والآخر سليم،. وعند هروبنا الكبير والحي ‬يقذف من مدفعية الجيش السوري (‬لا اعرف اذا كانت "سرايا الدفاع" أم "الوحدات الخاصة"، ام الإثنان معا) أصيب الشاب ذو ‬الاحتياجات الخاصة بحالة هلع ورهاب وفزع، لم ‬يستطع معها رجال الحي ‬إخراجه من المنزل، حتى تستطيع عائلته الرحيل معنا.

‬وقفت أمه أمام بيتها وطلبت من الجميع وهي ‬تلوح بيدها الاسراع بالرحيل، وهي تقول "لنا الله، لنا الله" وكررتها كثيراً، حاول احد رجال الحي ‬اقناعها ‬وطلب منها ترك ابنها والذهاب ‬معنا هي ‬وابنها السليم فرفضت ذلك، وقالت "أسرعوا ارجوكم، فهذا قطعة من قلبي ولن أتركه".

‬بقيت الأم مع ولديها وبعض الشباب الشجعان من اللجان الشعبية .. الأم التي تحولت إلى شاهد في ذاكرتنا ‬أخبرتنا لاحقاً إنه وبعد انتهاء المجزرة دخل عناصر الجيش بكل عتادهم الى حينا وفتشوا جميع المنازل وبدأت قوات الجيش بجني ‬غنائم الحرب. ‬دخلوا الى بيتنا الجميل وكل بيوت الحي ‬وسرقوا كل شي ‬يهمهم. قالت المرأة إن سيارات الجيش بدأت تحمل الاغراض وبالذات التحف الغالية الثمن، وجميعنا ‬نعرف ان رفعت الأسد ‬يهتم بالتحف الفنية ومارس هوايته بأبشع الطرق. وتروي ‬السيدة بأنها اخبرت الجيش عن سبب بقائها مع ابنها المريض وسألها الضابط عن مكانه ‬وكان الشاب المريض مختبئاً ‬ومن الصعب التفاهم معه،. ‬اوعز الضابط الى جنوده بالبحث عنه حتى وجدوه وسحلوه أمام امه هو واخاه المعافى، وقالوا لها وهم ‬يضحكون اختاري ‬احد ابنائك فهو لك وسوف نقتل الآخر... ‬أبت الام ‬الاختيار بين ابنائها وهي ‬تبكي ‬وتقبل قدمي الضابط وتترجاه، وتقول "اقتلوني ‬انا ودعوا اولادي".

"شهامة" الضابط كانت سريعة، حيث سحب مسدسه وأطلق النار على ابنها المعافى، فوقع على الارض شهيداً من اجل اخيه من ذي ‬الاحتياجات الخاصة. وقفت الأم تبكي ‬فوق ابنها فسحلوها مع ابنها المريض ووضعوها بسيارة عسكرية وأخبروها انهم سيفجرون الحي بكامله، ‬وهذا ما حصل. عندما عاد بعض الرجال بعد انتهاء المجزرة لم ‬يجدوا حي ‬البارودية كان قد دمر تماماً، عن بكرة أبيه.

دُمِّر الحي ‬تماماً هذا، ما قاله لنا خالي لاحقاً بعد أن تسلل إلى المنطقة بحثاً عن بيتنا. ذهب ليبحث عن صندوق الحديد الخاص بأبي . ‬وبعد ساعات، وبمساعدة الجرافات، وجد قطعة حديد صغيرة. لقد سرقوه بعد تفجيره وهذه صورة عن إصرارهم على سرقة ‬كل شيء،. ‬عاد خالي ‬لأمي ‬بسجادة كان الجنود أطلقوا عليها الرصاص وثقبت، وهذه السجادة مازالت موجودة عند أمي ‬الى اليوم، ذكرى لنا ولها من بيتنا الجميل الذي يحمل في ضميرنا صورة والدي.

القصص التي ‬رويت لنا من الناجين عند هروبنا الكبير من مجزرة حماة كثيرة. منها قصة عائلة مؤلفة من أب طاعن بالسن ومريض وله ابن شاب صغير كان عمره يومها ١٥ سنة، وهو الذكر الوحيد لهذه العائلة ‬بعد ثلاث بنات. روت الام بعد المجزرة أنه ‬بعد مغادرة اهل الحي ‬امطرت مدفعية جيش الأسد الحي بالقذائف ‬بشكل مكثف حتى تأكد الجيش من عدم وجود احياء في ‬البارودية. دخل الجيش ووجد هذه العائلة مع ‬الأب المريض . الضابط سأل الأب عن سبب عدم هروبهم مع من رحلوا من المدينة، وقال له هل تريد ان تقاوم؟ فأجابه الأب أنا لا علاقة لي بالمشاكل ومريض ولا أستطيع حتى المشي، ‬وهذه عائلتي ‬بقيت لترعاني.

في ذلك المنزل ضحك العسكر من كلام الأب العاجز، فيما الضابط طلب من الفتيات أن يخلعن حجابهن ليتأكد انهن نساء ولسن رجالاً. ‬رفضت الفتيات القيام بذلك، وبدأن ‬بترجي الضابط بعدم اجبارهن على ذلك، ولكن الضابط اصر على ذلك كنوع من الاذلال للعائلة. بعدها بدأ الضابط بمفاوضة الأب بكل سفالة أن ‬يتركه حياً شرط أن يوافق على اغتصاب إحدى بناته. بكى ‬الأب وثار في ‬وجه الوحشية وتبعه ابنه الشاب فقتلوهم وامعنو ا بتشويه جثتيهما أمام الجميع، وقاموا باغتصاب واحدة من الفتيات ‬وبعدها اخرجوهم بسيارة من الحي .. ‬والفتيات الثلاث تزوجن وعندهن ‬اليوم ‬اولاد، وهن لا ‬يتكلمن عن ذلك اليوم الأسود.







في حماه كان الألم كبيراً لنا جميعاً من كل الفئات والانتماءات، كل الألم تقاسمه أهل المدينة سواسية من دون تفرقة، عشنا مرحلة سوداء من دون أن نعرف أن هذا الأمر سيظل كالسكين يقطع في ذاكرتنا، يخفي دموعنا ويمحوها أحياناً.

نعود الى الصور التي ‬رأيتها عند هروبنا من القبو الى جامع عمر بن الخطاب. كنا نسير في الطرق وكانت الجثث ملقاة في كل مكان، واخص صورة انطبعت بذاكرتي ‬لم أعد أعرف ان كانت رويت لي ‬في ‬طفولتي ‬أم رأيتها ‬بعيني ، ‬ولكن ما أعرفه أنه لا يمكن محوها أبداً، في ‬الساحة المقابلة ‬للجامع رجل ربطت احدى قدميه بسيارة وكأنه ربط بالمقابل بشيء ‬ثابت وتم شقه الى نصفين حتى الصدر.

‬وصورة أخرى رأيتها هذه المرة بأم عيني ، جسد مرمي على الاسفلت في نفس الساحة، الجسد سليم ولم ‬يتضرر ابدا، ولم ‬ينتفخ وكأنه مات قبل مرورنا بقليل، حيث دهس رأسه بدبابة وظهرت ‬علامات المجنزرات وشكات اثلاماً في الأرض.

‬وصورة اخرى لإمرأة قطعت ‬يداها من المعصم، وانا كطفل لم استطع تفسير السبب. ولكن الجميع فسّر المشهد بأن العسكر أرادوا سرقة أساورها الذهبية التي ‬علقت بيديها.

هذا جزء مما رأيته في طفولتي .

ونعود الى الهجرة الى الريف، ركبنا سيارة شحن. أمي ‬بجانب السائق، ومعها باقي ‬اخوتي ‬وانا وأحد اخوتي ‬في الخلف. كانت هناك هدية من السماء حيث وجدنا علبة "تونا" ونحن نتضور جوع لا يحتمل، بدأنا ضرب العلبة محاولين فتحها بكل الطرق، ولم نستطع ذلك حتى وصولنا الى القرية. خرج الناس من بيوتهم جميعها وجلبوا لنا الطعام لنأكل، وبقينا انا واخي كطفلين ‬مصرين على فتح هدية السماء. أخبركم أن هذه الحادثة تطفو بذاكرتي ‬كلما سمعت بكلمة "تونا" أو رأيت او حتى شممت رائحتها.






عشت لأروي ‬‬‬لكم طفولتي ‬‬‬في ‬‬‬مجزرة حماة (3)


بعد هروبنا الكبير من مذبحة حماه، ‬والتي ‬لا تشبه بنظري ‬على الأقل الا مجازر صبرا وشاتيلا و دير ‬ياسين . ‬مشهد ‬يحوي ‬آلاف الصور ‬الموجعة، ‬واصوات من تواعدوا على اللقاء واختفوا من ثلاثين عاماً، ‬رائحة الدم تطغى على المدينة، ‬وطعم الخبز العفن ‬يدخل أفواهنا، ‬فيما الأقسى هو ‬صوت النساء اللواتي ‬استباحهن العسكر، ‬وقضى على عائلاتهن .‬

في ‬ذلك المكان بقي ‬صوت الرجال والاطفال وهم ‬يصارعون الموت بعد رميهم بالرصاص، ‬ودمار مدينتنا الصغيرة الجميلة، ‬وكأن زلزالاً ‬قد اصابها، ‬زلزال أقسى بكثير مما رأيت في ‬حياتي .‬

وصلنا الى نقطة اللاعودة، ‬هناك في ‬الشاحنة التي ‬أقلتنا باتجاه الريف، ‬كنا حفاة، ‬ونصف عراة، ‬لقد هجّرونا من منازلنا الدافئة، ‬وقتلوا من ‬قتلوا وبدأت الرحلة الأكثر ايلاماً ‬من ما سبق، ‬الأسوز أثراً ‬على الجميع .‬

في ‬تلك القرية، ‬تم استضافتنا أهلها بمنتهى الحفاوة والتكريم، ‬وهذا إن دل فانه ‬يدل على لطف الشعب السوري ‬وتضامنه، ‬وصموده موحداً ‬في ‬وجه ‬المصاعب، ‬والأيام السوداء التي ‬لا تتوقف .‬

بقينا في ‬تلك القرية مهجّرين واكملنا الفصل الدراسي ‬الثاني ‬بمدرسة القرية. ‬بقينا هناك بعيدين عن المدينة التي ‬لن نعود إليها خلال هذا ‬العام أبداً، . ‬هناك استشهد ابي، ‬ومثلوا بجثته، ‬سرقوا ممتلكاته ودمروا ما تبقى منها، ‬فبقينا في ‬ذلك المكان البعيد والمنسي ‬حتى بداية عام دراسي ‬جديد، ‬ثم عدنا الى حماه وسكنّا في ‬بيت لأحدى خالاتي ‬التي ‬احتضنتنا، ‬كأننا أولادها .‬

في ‬البداية لم نكن نعرف عن عمتي ‬شيئاً، ‬فهي ‬تاهت في ‬قرى المنطقة البعيدة، ‬وبالصدفة استطاع احد اقربائنا ان ‬يجدها، ‬ويخبرها عنا، ‬هي ‬التي ‬خطف أخيها من بين ‬ن يديها.كان اللقاء معها صعباً، ‬واتذكر عندما رأيتها لم أصدق عيني ‬من الفرح و البكاء. لم اتوقع ان اراها بهذا الشكل، ‬في ‬السابق كانت كالملكة، ‬والآن تغير كل شيء .‬

كل شيء صار أقل قسوة في ‬نظري، ‬احتضنتها لساعات انا واخوتي ‬وامي، ‬جميعنا نبكي ‬كموجة من الهستيريا المرة، ‬قدر لا ‬يمكن تغييره و قضاء لا ‬نستطيع ضده شيئاً .‬

في ‬ذلك اللقاء الذي ‬غطته الدموع، ‬روت عمتي ‬كيف اعتقل ابي ‬في ‬الملجأ الذي ‬مررنا لنتعرف عليه، ‬قالت إنها من تلك اللحظة لم تره ابداً، ‬وعلمت من بعض الناس الذين نجوا من تلك المجزرة عن استشهاد أبي، ‬أخيها .‬

بكينا وبكينا، ‬صار البكاء عادة في ‬حماه، ‬فالناس عندما ‬يزورون بعضهم البعض ‬يبدأون بالبكاء قبل القاء التحية والسلام. ‬عندما تلتقي ‬وجوههم تسمع شهيقهم، ‬من ألم لا ‬يحتمل، ‬ألم لا ‬يطاق .‬




البيت الذي ‬سكنّا به كان ‬يضم كل من ليس لديه بيت. ‬فقد دمرت احياء كاملة كالبارودية والكيلانية والزنبقي ‬والشمالية وغيرها. تغيرت معالم ‬المدينة، ‬وصار هناك شكل جديد للأحياء، ‬كما لم ‬يبق بيت بحماه ليس له شهيد ‬ومعتقل ‬واحد ‬على الاقل . ‬وأحياناً ‬أكثر من شهيد وأكثر من معتقل .‬

ذهبنا الى مدارسنا بعد معاناة كبيرة وقهر وذل وجوع .. ‬واقسم لكم، ‬ان الصف الذي ‬كنت فيه (‬الثاني ‬الابتدائي ) ‬لايوجد سوى طفلين ن ليسا ‬يتيمين ن.‬

هل تتخيلون معي ‬حجم الكارثة. ‬في ‬صفي ‬ليس هناك الا طفلين ن ليسا يتيمين. ‬هل تدركون كم عانينا لنتجاوز ازماتنا الداخلية كأطفال؟ كم كابرنا على جراحنا وحرماننا لنحاول ان نكبر مثل الأطفال الآخرين. ‬لم نتجاوز هذه المحنه اليوم و نحن كبار .‬

بعدها، تابع "النظام "، وهو لايستحق كلمة "نظام"، ممارسة ساديته علينا، وكذلك قيامه بأنواع جديدة ومختلفة من التعذيب، .‬لم ‬يتوقف مثلاً ‬عن اعتقال الجيل الذي يكبر قليلا، وخصوصاً الجيل الذي سبقني بالعمر . اعتقل وغيّب الكثيرين الى الآن، والاسماء معروفة عند جميع اهالي ‬حماه، فهم أولادهم الذين اختفوا في تلك المرحلة.‬‬

اعتقالات جماعيه طالت شباباً ‬بعمر الخامسة عشر والسادسة عشر و السابعة عشر، جميعهم غيّبوا في ‬السجون ، وصارت حياتهم منسية، وعالقة في قلوب أهاليهم يتجرعون كل يوم مأساتهم. ولتزيد العصابة من عذاب اهالي ‬حماه ولتمعن في ‬ذلهم ومهانتهم، بدأت هذه العصابة باطلاق بعض السجناء الذين ‬لم ‬يتم تصفيتهم في ‬سجن "تدمر". اطلاق السراح هذا كان يتم فقط بالمناسبات الوطنية "البعثية"، ‬كالحركة التصحيحية و ‬غيرها من أعياد.‬

تعوّد اهالي ‬حماه على ذلك عبر السنوات، فكانت كل مناسبة هي لخروجهم جميعاً الى المدخل الجنوبي ‬للمدينة، أي نحو ‬طريق حمص، ويصير المشهد ‬هناك كالتالي: نساء واطفال ورجال وعجزة ومعهم كل اهالي ‬المدينة، ‬يوقفون الباصات والسيارات القادمة من حمص ويبحثون ويصرخون ‬كل باسماء مفقوديه، هنا تصرخ أم باسم ابنها او امرأة باسم زوجها، أو حتى طفلة صغيرة تبحث عن والدها الذي صار شكله منسياً بالنسبة لها، كان البكاء لايتوقف، ويستمر هذا المشهد طوال اليوم في حالة من الفوضى والقهر والبحث عن مفقودين بطريقة لا تمت للعقل بمنطق.

‬واحيانا ‬كان بعض الناس يجدون مفقوديهم، ربما ثلاث او اربعة عائلات على الأكثر، فيما تعود المدينة بأكملها مكسورة الخاطر من دون اي ‬صوت يعبرون فيه عن الالم الذي ‬بداخلهم. أما الذين يجدون سجناءهم فهم لم يكونوا اكثر حظا من الآخرين. فمعظم الناجين ن من السجناء لا حول ولا قوة لهم، كانو يكسرون قلوبنا بشكلهم وبؤسهم ونفسيتهم، كان وضع الذين ماتوا أفضل منهم.


أحد معارفنا خرج من السجن، وذهبنا لاستقباله. كان الرجل بحالة جيدة ذهنياً و عقلياً، والسبب أنهم اخرجوه من سجن "تدمر" ونقلوه إلى سجن "صيدنايا" لمدة ستة اشهر قبل اطلاق سراحه. وأُقسِم ان هيكله العظمي ‬كان ظاهراً تماما ولونه الابيض لايشبه لون البشر ابداً. فهو في السجن لم ‬ير الشمس لسنوات طويلة. وروى لي ‬كل شيء عن سجنهم في تدمر. وإحدى أغرب القصص ان أحد السجناء الموجودين في مهجعه عانى من آلام الزائدة الدودية، كانت تظهر عليه لأيام من الوجع الذي لا يحتمل، فيما السجناء ممنوع عليهم طلب المساعدة من السجان والحراس. فالسجان كان يطل عليهم من فتحة بسقف المهجع، واذا طلبوا منه الدواء أو أعلموه بآلام صديقهم، فسيكون الإقتراح الوحيد للسجان عليهم تصفية المريض، بمنتهى البساطة.

أحد الأطباء المسجونين هناك في المهجع، قرر أن يجري له عملية على الفراش داخل المهجع وبصمت تام، لئلا يأخذه الحراس ويرمونه بالخارج. تخيلوا المشهد!!! فُتحت بطن السجين بقطعة معدنية من التنك، وامسك الآخرون بالمريض حتى لايتحرك ابداً وبعضهم اغلق فمه بقطعة قماش، وأجرى الطبيب العملية، وخيط جسم المريض بعدما صنع ابرة من ذات التنك، فيما لم أعرف من أين أتى بالخيوط التي ‬أخاط بها الجرح. ‬تمت العملية ولم ‬يخرج صوت واحد من الغرفة، لم يرتفع الألم أعلى من هامة الرجل المطروح أرضاً يطلب شربة ماء أو قليلاً من البنج.




عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة "حماه" (4): دم ‬يلطخ ثياب الصبايا ويتقاطر على الأرض


في ‬هذا الجزء سأروي ‬بعض الصور القاسية التي ‬تعرض لها أهل مدينتي، ‬وهذه القساوة التي ‬تخضع فقط لمنطق ‬”التتار“ ‬الذين استباحو مدينتي "‬حماه" في ‬العام .‬1982

أعود بذاكرتي ‬إلى مسجد عمر ابن الخطاب، ‬حيث كنا قد تجمعنا هناك في ‬الموضأ. ‬فُتِح علينا الباب، ‬وأُدخلت خمس أو ست فتيات، ‬ويا له من منظر، ‬أقل ما ‬يقال فيه إنه مرعب .‬

فتيات ‬يدخلن الموضأ والنصف السفلي ‬من ملابسهن مليء بالدماء. ‬نحن الأطفال لم نعر الأمر اهتماماً، ‬لأن معنى هذه الاشارة أكبر من إدراكنا، ‬ولكن النساء تحوّلن إلى حالة من الهستيريا لمشاهدتهن هذه الصورة،. ‬بدأ البعض منهن ‬يسقط على الأرض، ‬فيما نحن لم نفهم لماذا تصاعدت الأصوات بـ"سورة ‬ياسين" وبالتكبيرات. ‬ارتفع البكاء فانتقل إلينا إحساس الخطر نحن الاطفال، ‬فاتّحدنا مع الجميع ببكاءٍ لم اشهد له شبيه بحياتي ‬كلها لان هذا لم يحصل الا هناك، ‬وأتمنى أن لا ‬يحصل ثانية !

أُدخلت الفتيات الى جزء خلفي ‬صغير من الموضأ بعدما ملأت صورة دمائهن قلوبنا. ‬حاولت النساء ايقاف النزيف من الفتيات، ‬كان الدم ‬يتقاطر ‬على الأرض ليلطّخ المكان،. ‬بعد ذلك بدأت بعض النساء بخلع ثيابهن الداخلية واعطائها الى الفتيات! ‬يا له من اضطراب في ‬روحي ‬الى الآن، ‬هذا ‬المشهد من تقاسم الألم كسر الطمأنينة الى الأبد ..‬

نحن الاطفال كنا بحالة ذهول كاملة، لم نستطع فهم ما يجري ‬أمامنا، ‬ماذا تفعل النساء، ‬ولماذا ‬يخلعن ثيابهن الداخلية ليستروا العورات المستباحة. ‬تكاتفت النساء حتى استطاعت ايقاف النزيف المريع. ‬في ‬البداية طلبت بعض النساء المساعدة من الجنود، ولكنهم رفضوا وضحكوا واستهزؤوا بهن ... ‬كذلك بدأوا بشتمهن بشكل لا ‬يتوقف، ‬كأن هؤلاء الجنود لم تلدهم أمهات بل نبتوا من الحجارة، ‬ولم ‬يروا الله ورأوا فقط التجبر ‬الذي ‬يمكنهم ممارسته. ‬حاولت النساء احتضان الفتيات الجريحات للتخفيف من هلعهن .. ‬كانت ساعات طويلة جداً ‬تكاد لا تنتهي .. ‬بعدها، وصلت ادمغتنا الى الرضا لتهدأ نفوسنا التعبة كنوع من ‬غريزة البقاء، ‬وبدأنا نحن الاطفال بالاقتراب من الفتيات الجريحات بنوع من المداعبة لتخفيف آلامهن، واتذكر كيف كانت وجوههن وكأنهن خرجن من حظيرة ذئاب مسعورة .‬

في ‬تلك الجلسة روت الفتيات ما حصل معهن للنساء،. ‬في ‬البداية ‬رفضت الفتيات الاستجابة لمطالب الذئاب فانهالوا عليهم أكثر مما تعتقدون .. ‬ضرب وشتائم وهمجية واقتلاع ثياب وفض بكارة بطرق ‬غير إنسانية. لم ‬يكن الجنس دافع الجنود فقط،! ‬كان الأمر وكأنهم مرضى بـ"ساديّة" لانهاية لها! ‬لقد ادخلوا كل شيء الى روح الفتيات، ‬وحشية لا تطاق، ‬وحشية تسلطت على رقابنا ‬سنين طويلة .‬

أحد الشبان، وكان طفلا حينها، ‬روى لي ‬منذ أسابيع كيف كانت جثث أخواله ملقاة على الأرض، ‬حيث لم ‬يستطيعوا عند المغادرة إلا المرور من فوق ‬الجثث،. ‬ودّعوا احبابهم القتلى بهذه الطريقة! ‬يا له من موت ومن وداع. ‬هذا الالم حملوه إلى اليوم، ‬قال لي ‬الشاب إنه خائف من بطشهم ولا ‬يستطيع ان ‬يقاوم خوفه. ‬المجرمون اغتصبوا الطمأنينة من حياته الى الابد، ‬وسألني ‬بكل بساطة "هل سننتصر عليهم"؟ وضحكت، أنا الذي ‬لم اضحك منذ ‬شهور، واكدت انتصارنا، ‬فابتسم متردداً ‬ولكني ‬اعلم انه سيكون هناك ‬يحتفل بنصرنا القريب .‬

وروت إحداهن كيف أن جدتها الطاعنة بالسن وكانت ‬لا تستطيع المشي، ‬ارسلتهن للبحث عن خلاص من الدمار الذي ‬كان ‬يقصف المدينة، ‬علهن ‬ينجون من ‬حمام الدم الاسود. ‬بقيت الجدة هناك وحيدة مع كرسيها غير المدولب الذي ‬تستند اليه، ‬علَّ ‬رأفة ما تنقذها .‬

كانو في "‬حي ‬العصيدا". بعد قصف الحي ‬بالمدفعية دخل القتلة اليه، ‬حيث أعدموا مباشرةً اكواماً من الرجال، ‬ومثّلوا بأجسادهم بطريقة بشعة، ‬ولم ‬يترددوا في ‬قتل الاطفال واعتقال من استطاع البقاء حياً .‬

قررت الجدة (‬ام ابراهيم ) ‬اخراج الجميع من الحي، ‬والجميع هنا هم فقط من الاطفال والنساء، ‬تنقلت معهم بكرسيها (‬العكاز ) ‬تحت الرصاص وقذائف المدفعية وهدف القناصة، ‬الى ان وصلوا صعوداً ‬الى بداية "حي ‬الحاضر،". ‬تعبت ام ابراهيم ولم تعد تستطيع السير اكثر من ذلك، ‬وبقيت هناك ‬في ‬بيت احدى عماتي ‬وزوجها واطلقتهم الى المجهول كسرب من السنونو بين الوحوش. ‬هذا الخيار لم تكن تملك ام ابراهيم ‬غيره، ‬فالجدة كانت تعي ‬ان القتلة ليسوا بشراً، ‬وعلى الجميع الهروب من حمام الدم الذي ‬يهددهم كل ثانية. ‬في ‬تلك الجلسة، أخبرت الفتيات كيف أن أم ابراهيم صرخت بهن واطلقتهن الى خلاص ‬كانت تأمله .‬

في ‬الموضأ، قرئت الفاتحة من الجميع على روحها اعتقاداً ‬منهم انها ستباد من الهمجية التي ‬قررت مواجهتها،. ‬ولكن ام ابراهيم كانت اقوى من ‬المدافع، ‬وحيث ان عمتي ‬وزوجها قرروا الهروب من القتل الذي ‬يتصاعد اكثر فاكثر ومرة اخرى، ‬الجدة تطلقهم نحو الخلاص وتبقى في ‬بيتهم وتعلن المواجهة .‬

بقيت ام ابراهيم في ‬بيت عمتي ‬والابواب مشرعة لمدة اسبوع، ‬والجنود ‬يدخلون المنزل ‬يسرقون ويحطمون، ‬وام ابراهيم تصرخ في ‬وجوههم، ‬يخافون منها وهي ‬تغتال شجاعتهم الزائفة. ‬لم تنحنِ ‬أمام القتلة، ‬بل دافعت عن المنزل بكل إباء، كنوع من رمزية المقاومة المحقة عن كامل المدينة المستباحة .‬

صمود "أم إبراهيم" أذلّهم واذلّ قادتهم، ‬حتى بدأ ‬يستجيبون لما تمليه عليهم، ‬ليكتشفوا انها المنتصر هي ‬وكرسيها غير المدولب، ‬فقرروا اخراجها ‬إلى الحي ‬لتشهد تفجير منازله كاملة، ‬ولتشاهد كم هم ليسوا بشراً! ‬بقيت على كرسيها في ‬وسط الشارع المدمى، ‬ثلاثة ايام وهي ‬في ‬هذا الخلاء. ‬لم تناور ولم تفاوض، ‬اعلنت عن وجودها هناك كنخلة وسارية وراية وعلم، ‬ولم تطلب المساعدة من احد ولكن كان من بين الجنود من تبنّى شموخها وتحول الى مجيب لكل ما تحتاجه .‬

"أم ابراهيم" أقسمت انها لم تَخَف منهم ولم ترهم، ‬فكانوا اصغر من مدى بصرها، ‬وتقول إن الله ارسل لها كل ما تحتاجه. ‬بقيت لتخبرهم اننا سنعود، ونقتصّ، ونكرم شهداءنا، ونرفع لكل منهم "شاهدة"، ولن نتركهم بقبرهم الجماعي، ‬ولم ولن تنتصروا كما تعتقدون .. ‬مرّ ‬الوقت ووصل بعض الباحثين ‬عن الخلاص، ‬فحملوها، ‬وهي ‬التي ‬أبت ان تُحمَل. ‬خرجت "أم ابراهيم" الى القرى مع التائهين .‬



القاتل وشقيقه

أبي ‬الذي ‬قُلِعَت عيناه ورُمي ‬لأنه طبيب: عشت لأروي ‬لكم طفولتي ‬في ‬مجزرة حماه (5)


خلال هروبنا من بيتنا، ‬حاولت أن ألحق بأبي ‬بعد افتراقه وعمتي ‬عنا، ‬ولكنه ردني ‬إلى حيث أمي ‬وأخوتي ‬وباقي ‬سكان "البارودية" بعد أن صفعني. ‬كأنه كان ‬يعلم أن بعد هذه الخطوات خطر عليه وابتعادنا عنه حياة لنا، ‬أو أنه اعتقد أنني ‬لن أنسى تفاصيل المأساة ما حييت واخبر عما حصل ‬لنا في ‬حماه. ‬اليوم أروي ‬قصة مقتل أبي ‬وكأنني ‬أراه أمامي، ‬أحسّه موجوداً ‬في ‬كل شهيد أو معتقل. ربما ‬يكون هناك ازدياد في ‬ارتباكي ‬في ‬كتاباتي ‬في ‬هذا الجزء من الشهادة الآن، فاعذروني ‬لأن أتحدث عن (‬أبي ).‬

آه ‬يا ابي ‬كيف استطعت أن ترسلنا الى المجهول، ‬يا له من ألم، ‬كيف عمل قلبك وعقلك آن ذاك، ‬وهل من لحظة الافتراق بدأت عذاباتك تكبر .‬

في ‬الملجأ الذي ‬دخله هو عمتي ‬تم اعتقاله الى الابد، ‬وذلك عند وصول الجيش الى الملجأ، ‬بعد ان تم تأخيرهم من قبل بعض الشبان الشجعان الذين أعرف أحدهم معرفة اليقين، والذي ‬اخبرني ‬كم عانوا من القصف، وكيف استطاعوا تأخير دخول "التتار" لعدة ايام .‬

اعتُقل ابي ‬وجميع الرجال الموجودين في ‬الملجأ، ‬واقتيدوا الى معمل البورسلين، وهذه الرواية وصلتني ‬ممن كانوا معه هناك. ‬بعد أيام، وهم تحت ‬المطر من دون طعام، ‬كانت السماء تروي ‬عطشهم، ‬وربما مرة أو مرتين ‬يأتي ‬الجنود ببعض الخبز ويبدأون برميه ويطلبون تحت تهديد السلاح ان ‬يتراكض الناس إليه للإمعان في ‬إهانة المعتقلين . ‬هناك بين الهنغارات والأقبية كانو ‬يتقاسمون الألم كعادتهم. ‬فالقبو اكثر دفئاً ‬من الهنغارات التي ‬تحميهم من الرياح والشمس، ‬والساحة خارج الكون، ‬هناك القتل والتشويه والسحل وخلع الاسنان وقص الآذان والألسنة وقلع العيون ‬وكسر الأطراف، ‬ومع ذلك الناس كانوا ‬يتبادلون الأدوار ويتقاسمون الالم .‬

بعد أيام من وجوده في ‬الاعتقال، ‬كان الناس ‬ينادونه ‬"يا دكتور" كنوع من الاحترام وتخفيف الألم، ‬وهو الذي ‬خفف آلامهم من قبل،. ‬وكان دائماً ‬يطلب من الجميع عدم مناداته بالدكتور، ‬لأنه كان ‬يعلم أنهم لن ‬يتركوا مثقفاً ‬حياً ‬في ‬مدينته وهو الذي ‬وقّع على "بيان مثقفي ‬حماه" الذي ‬أرسل الى النظام طلباً ‬لاحلال الديمقراطية واطلاق الحريات والى آخره من حقوق إنسانية. ‬أحد الشهود روى لي ‬ان ابي ‬رآه ‬يحمّص قطعة خبز ‬صغيرة على أحد الأفران هناك، ‬فقال له "كُلها كما هي"، ‬والى الآن لم ‬يستطع الرجل تفسير قصد والدي : ‬هل هو من اجل عدم نقصان فائدتها الغذائية أو من اجل رائحتها مراعاة لجوع جميع المعتقلين .‬


خبر وجود أبي ‬في ‬المعتقل تسرب إلى أحد الضباط، ‬فبقاء طبيب بين أكثر من خمسة آلاف معتقل أمر لا ‬يريده النظام ولا ضباطه .‬

تم جمع المعتقلين في ‬الساحة، ‬وبعدها قال الضابط الكبير نريد طبيباً، ‬وأوحى للجميع أن هناك حالة صحية طارئة، ‬فخرج أبي ‬ولبى النداء، ‬وهوالذي ‬اقسم على قسم ابقراط،. ‬وكان هناك طبيب ‬آخر لبى نداء الواجب، ‬ولكنهما لم ‬يكونا ‬يعلمان بالمكيدة،. ‬في ‬البداية سُحِلَ أبي ‬والطبيب الاخر وعُذِّبا من دون رحمة، ‬واقتلعوا احدى عينيه وهو ‬يصارع الألم،! ‬مشاهد بشعة رواها لي ‬أحد الذين كانوا هناك، ‬كان أبي ‬مرمياً ‬على الارض ‬يتلوى من الألم وانهالوا عليه بالأسلحة وكانهم ‬يتسلون ويلعبون! ‬وقبل ان ‬يموت، تكالب الجنود عليه وكأنهم ذئاب، ‬لساعات طويلة دامت آلامه ... ‬كيف كنت تشعر ‬يا ابي ...‬؟ وبعدها رُمِيَ ‬جسده الذي ‬يشبه جسدي، ‬ووجهه الذي ‬يشبه وجهي، ‬وروحه التي ‬تشبه أروح شهدائنا اليوم، في ‬الساحة، ثم سلم ‬جسده للمستشفى الوطني ‬وبقي ‬مرمياً ‬مع الشهداء على باب المستشفى. ‬لم تنتهِ ‬عذابات ابي ‬الى تلك اللحظة، ‬فقد قلعت عينه الثانية هناك، وأخرجت بطاقته الشخصية وخُرزت في ‬ملابسه .‬

بعدها استطاع احد اقربائنا ان ‬يأخذ الجثمان، وتم دفنه من ‬غير عيون .‬

واليوم اقسم أنني ‬لن اتوقف عن المطالبة بحقوقنا كاملة، ‬وان ‬ينال القتلة القصاص العادل. ‬ولم ولن اهدأ حتى تعيدوا لي ‬عيون أبي ‬لادفنهما ‬هناك حيث ‬هو مدفون .‬


هذا ليس حي "البارودية" في حماه: الصورة لمدينة "غورنيكا" في "بلاد الباسك" بإسبانيا بعد أن دمّرتها طائرات هتلر وموسوليني في 26 أبريل 1937. وقد خلّدها بابلو بيكاسو بلوحته المرفقة التي ترمز إلى كل المدن الشهيدة!





لم تكن يوماً فارساً يا "باسل" وما هكذا تكون الفروسية: عشت لأروي ‬لكم طفولتي ‬في ‬مجزرة حماه (6)


(إبتداءً من هذا الجزء السادس، يستعيد "خالد الحموي" إسمه الحقيقي، الذي أجبرته الظروف على أخفائه، وهو الفنان التشكيلي "خالد الخاني"، علماً أن "الحمويّين" الذين قرأوا شهادته على "الشفّاف" تعرّفوا إلى الكاتب بسهولة لأن الجميع في المدينة الشهيدة يعرف قصة والده).



شهادتي هذه كٌتبت الاجزاء الاولى منها تحت القلق والخوف من كل شيء، وارسالها لكم لفضح جرائم النظام الفاسد.

والله كانت الحروف تتخلى عني ولغتي لا تسعفني واحيانا ابحث عن حرف أو جملة واحاول كتابتها فتفر هاربة خوفا من هذا النظام المستبد. لا تعرفون كم جملة حذفت خوفا على أشخاص، وكم مرة ترددت، وكم مرة تلعثمت، وكم مرة بكيت حتى السقوط. وأقسم ان بكائي لا يتوقف ابداً وانا اكتب. وايضاً، الذي كتب اخرجته قسراً من ذاكرتي وهو يحاول الهروب الى زوايا دماغي.

على باب المستشفى الوطني، هناك، بقيت جثة أبي مرمية بين الجثث. وروت لي الممرضة التي رافقته عندما كان مديرا للمستشفى (بعد استجابة النظام لبيان مثقفي حماه، وعينوه ايضا نقيباً للاطباء، وهو لم يكن بعثياً، وهذا كنوع من البدء بتحقيق المطالب والخضوع الى الحوار واختياره هو وشخصيات من "المجتمع المدني"، وهذه هي المكيدة التي يستخدمها النظام اليوم، ولنحذر ولنقرأه جيدا):


الجرحى ينقلون الى المستشفى بتسارع لا ينخفض. وهذه الحادثة حصلت عند وصول جريح الى الاسعاف، والذين جلبوه كانوا يعتقدون ما نعتقد جميعاً. ادخل وهو يصرخ من آلامه حتى سمع كل من بالمستشفى صوته الذي لم يكن وحيدا ولكنه طغى على جميع الاصوات. وصوته هذا كان اشارة للجنود الذين رابطو بالمستشفى للإجهاز على الجرحى لتأكيد ابادتنا. وألم الجرحى يتناسب طردا ليس مع الاستجابة لتخفيف الامهم، بل مع شدة العذاب الذي ينتظرهم. التي روت: ان الجنود بموجة من الجنون، وممرضة تبنّت القتل معهم، شقوا صدره وهو يصرخ ويتلوى واخرجوا قلبه، ودماؤه غطت وجوههم وبزاتهم العسكرية حتى اسكتوه كما اعتقدوا. الى الان والله انا صوته والمه وجسده حتى نكرمه كما يليق به كبشر. قتلوه وهم يحتفلون وهم ينتصرون على الانسانية، وهذه حربهم الدائمة. واقسمت الراوية ان الممرضة المتحدة معهم أخرجت كبده وأخذت تلوكه وتبصقه وهي تعتقد ان الله تغيّب عن المكان. والراوية لهذه القصة بقيت لسنوات وهي صامتة، وبقيت هناك بنفس المكان ونفس الحضور، والمشهد يتكرر عبر ذاكرتها، ولم تتغيب عن هذا المشهد الى الآن. واخبرتنا ايضا انهم لم يسألوه عن اسمه، وهم لا يتبعون الاسماء ولا يعرفون لغة الاطفال ولا لغة النساء، او بالاحرى لا يعرفون لغتنا ابداً، بل يعرفون لغة القتل فقط.

في المستشفى، شُوِّهَت الاجساد، وغيروا من ملامحها، وكانوا يرسمون بالدماء ويكتبون عباراتهم على الجدران، كـ"لااله الا الوطن ولا رسول الا البعث"! شوّهوا الأجساد وقطعوا الرؤوس ليعبروا عن خوفهم من عقولنا (او ربما حتى يبقى الناس في دائرة الشك ولا يستطيعون تأكيد موت مفقوديهم او وجودهم مع المعتقلين في سجون العصابة، وهذه صورة عن ايلامنا النفسي الذي عملوا على ان يكون مزمنا حتى الان, فللآن مازال الشك والرغبة ان يعود من ذهب الى هناك) وكانهم يجردون الانسان على لوحة طغى عليها اللون الاحمر ويضعون من اسود قلوبهم ليوازنوا فنونهم اللا بشرية. كان هذا رسما ونحتا وسينما ومسرح وربما شعرا وموسيقى، وتركوا لي الرواية. وتفوقوا على جميع من عمل فنا معاصراً وقتها، ولكن نسوا انهم يقتلون الانسان. فهذه فنون القتل عند التتار! ايضا قاموا بجميع تجاربهم العلمية كادخال الماء اوالكحول الى الدم واقبوا ماذا ينتج عن ذلك. يا لهم من علماء سبقوا جميع العصور! ثقبوا الاذان، وقطعوا الاوردة والاعضاء التناسلية. قطعوا الاصابع والآذان، وقلعوا العيون وادخلوا بنادقهم من جميع الفتحات، واستخدموا "السيانيد" ونتائجه علينا (سأروي عن "السيانيد" لاحقا). كانوا يريدون من الله ان يخلقنا بلاعيون او آذان او حتى قلب، لا بل كانوا يريدون الا يخلقنا ابداً.

واذا كان الجريح من النساء، كانوا اكثر سعادة لانهم يضيفون فنوناً أخرى! يغتصبون إمرأة وهي تموت او وهي تنزف، او يريحونها وبعدها تغتصب، واذا كانت تملك حليا تنتزع منها بابشع الطرق كقص اليدين وشرم الاذنين والى اكثر من ذلك.

في تلك المنطقة من العالم، وداخل مدينتي، كانوا قد عمموا على المشافي، كما يحصل اليوم، الا تستقبل الا الجنود ولم يستجيب احد لطلبهم. فدمّروا جميع المشافي الخاصة ولم تسلم من همجيتهم أي واحدة منها، وسرقوا ودمروا جميع الصيدليات..

بعد إيلامكن باخباري لكم ما حصل هناك في المستشفى الذي لم يتبقَّ منه الا اسمه الذي لا يليق بهكذا مكان او انه اجبر على ذلك بعد دخول التتار، سأروي شهادتي عن "حميدو".

وربما جميع الناجين من حي "البارودية" يعرفون "حميدو"، هذا الشاب "المجذوب" الذي فاق القتلة عقلاً وانسانية. و"حميدو" كان هناك عندما بدأت مجرزة حماه، ولن يتردد ابدا بإعلان نفسه كمدافع عن مدينته المستباحة. فحميدو يعرفه كل اهل الحي لانه كان كالساعة: اذا اشرقت الشمس اطلق سرب حمامه نحو السماء ويتعالى صوت "حميدو" حتى يوقظ الجميع. واذا غابت الشمس، كان يودعها بصوته العالي وهو ينادي سربه. ولم يتوقف عن اعلانه بين بيوت حي "البارودية"، وهو جزء من ذاك العالم، فحميدو موجود في "البارودية" حتى لو تغيب الجميع. في بداية الهجوم الليلي على مدينتنا لا اعرف اين كان هو، ولكن في الصباح والرصاص يطلق من كل الجهات ونحن في بيتنا صعد "حميدو" الى سطح منزله واطلق صوته وسرب حمامه الى السماء. حينها اختلط صوته مع صوت الرصاص، ولم يكن صوتهم المعتاد. كان اشبه بصوتنا جميعا. طيور "حميدو" تلف السماء فوق منزله وتحاول الهبوط خوفا من الرصاص، وتاه بعضها بعيداً، ولكن حميدو لم يته ابداً. فكان يتحدى الرصاص وأمّه تناديه ولا يسمع الا صوته. ولا ندري كيف كان يشعر "حميدو" واعتقد انه هو لا يدري بشعوره، ولكنه وقف مع مدينته المستباحة وربما اطلق سربه علهم يفهمون رسالته. يا له من انسان تعاظم بيننا وحرر ذاته وواجه القتلة وبقيت انا كل هذا الوقت حتى أرقى لما كان "حميدو" واخبركم عنه وكيف كان نضاله الذي لا يشبه الا نضاله! رأى الجنود حمامات "حميدو" فبدأوا يقنصونها واحدة بعد الاخرى و"حميدو" يصرخ حتى السماء ويشير لنا ان "التتار" لا يترددون في أي شيء. استمر بالصراخ ولم يستسلم، ولم يسمح لطيوره بالهبوط على سطح منزله. بعض الطيور حطت على بعض المنازل وقتل الباقون، لم يصمت "حميدو" وصعد الى المكان الذي تحط به الطيور ويبحث ويصرح ويواجه، ولم ينحنِ ولم يختبىء كما فعلنا جميعا، ولم يستسلم لصوت الرصاص. فهذا الرصاص خارج مدارات مسامعه حتى قنص "حميدو" من الجنود الذي لايقرأون المشاعر ولا يفهمون ماذا تعني الانسانية ولا يحبذونها لانها لمخلوقات مختلفة.


صمت "حميدو" على سطح بيته، ولكنه لم يصمت بذاكرتي. وكأنه اليوم يطلق الى روحي من جديد ما كان يشعر به في ذلك الفضاء. واللهِ، جميعنا اليوم نشبه "حميدو" الذي اطلق اسلحته الانسانية ليوقف القتل وتنبأ قبل الجميع انهم سيبدون الطيور، فذهب مع طيوره الى ما اراد وتركني احمل ما أراده لكم جميعاً. فأين الآن أنت يا "حميدو" لتعلنها حرية على طريقتك الخالدة في ذاكرة من تبقى من اهل "البارودية"؟

وفي وقتها علم جميع السكان ان "حميدو" يطير مع حماماته نحو السماء، وكان من اوائل الشهداء في حيّنا...

ومن الاشياء التي حصلت هناك، كان بين البيوت اسطبلات للخيول. فجميع العوائل كان لديها خيولها التي كانت عرضا وشرفاً، ولم تصنف يوما عندنا مع الحيوانات، فكانت تحمل بعض اسمائنا. وفي هذا الوصف هناك ما لا ينتهي عن هذه العلاقة معها.

بعد هروبنا الكبير من الحي، بقي من بقي، ورحل الاكثرية. والذين بقوا روا لنا ما حصل بخيولنا هناك. بعض الرجال قبل ان يغادر الحي اطلق خيوله، كما فعل "حميدو"، وربما حميدو كان يريد من طيوره الابتعاد عن المكان او كان يحارب الاسلحة بطيوره الجميلة. أُطلقَت الكثير من الخيول الأصيلة، وربما هذه هي المرة الوحيدة منذ مئات السنين نتصرف بهذا الشكل الذي لا يمثل دواخلنا ومشاعرنا تجاهها.

بقيت خيول كثيرة في الاسطبلات، وفتحت لها مخازن الشعير ربما لتسطيع الاستمرار بالحياة. وكان البعض يعتقد انهم سيعودون ليروها ثانية، ولم يعرفوا ان "التتار" لا يتركون شيئا وراءهم، فلم يتركوا ارثنا الحضاري، ولم يتركوا لنا عادات اجدادنا وكانوا يعرفون رمزية الخيول لدينا...

لم يقتلوها فهم يعلمون بقيمتها الحضارية، ويعلمون ايضا ان فقدانها يؤلمنا الى النهاية، فهذا الذي يسعون اليه. لم يروِ جميع الناجين من اهل المدينة انهم رأوا بين جثثنا خيولاً. فقد حملها "التتار" الى مكان لم تكن به يوماً، واقسم أننا بعد انتهاء المجزرة وعودة الباقين الى المدينة، بدأ اهل مدينتي يبحثون عن خيولهم كما يبحثون عن ابنائهم! فاذا ذُكِر لأحد انه شوهد خيل جميلة في أي محافظة، يذهبون ليتحققوا منها علّها تكون خيولنا الجميلة. وعلمنا اننا لن نراها يوما، ولم نجد اجابة عن أي ذهبت، حتى خرج علينا "الفارس الذهبي"! وقتها علم أهل "حماه" أين ذهبت خيولنا!

لم يكن أبوه يوما فارسنا، ولم يكن جده كذلك. لقد تعلم الفروسية بخيولنا. فهي تُعلِّم من يمتطيها الأخلاق ايضاً، ولكن ليس الجميع يفهم لغتها!

والله، واقسم، انها لا تليق إلا بنا، ولم تكن يوما فارسا يا "باسل"، وما هكذا تكون الفروسية!