نشر الأهرام في جريدة أمس مقال جيد عن السلفية و أعتقد أن الكاتب تناول الموضوع بطريقة مميزة ... أتمنى أن تقرأوه و نتبادل الأفكار و الإنطباعات حول المقال


تحقيق‏:‏ عمرو جمال

السلفية‏'‏ و‏'‏ السلفيين‏'‏ مصطلحات أصبحت اتهامات يسعي من ألصقت به للتخلص منها‏,‏ خوفا من ان يوصم بالتبعية لجماعات العنف والارهاب أو يعير بالانغلاق والجمود الفكري‏ هذه‏,‏ وبكل أسف‏,‏ هي الصورة المطبوعة في الأذهان عن السلفية أومن ينتسب إليها‏,‏ علي الرغم من أنها‏(‏ السلفية‏)‏ بشهادة علماء الأمة الثقات‏,‏ وبتتبع مراحلها لم تكن يوما تعبيرا عن التشدد أوإنغلاق الفكر‏,‏ وإنما بدأت كدعوة تتصدي لحملات أرادت غزو العقل الإسلامي و تلقينه أفكارا مخالفة لمنهجه الأول الذي أرساه الرسول وصحابته الكرام‏,‏ وحرص أئمتها الأوئل علي مراعاة فقه الواقع‏,‏ فجمعوا بين الأصالة وقدسية النصوص وبين مواكبة التطور ومراعاة أحوال الناس‏,‏ ولم ينساقوا التقليد وراء الأعمي لحياة السالفين‏,‏ وإنما كان هدفهم هو الوصول إلي الإسلام النقي الخالي من الشوائب‏,‏ إلا ان ذلك لم يمنع أن تتعرض‏(‏ السلفية‏)‏ نفسها لشوائب جعلتنا نري من أتباعها المعاصرين من يلقي تهم الكفر والفسق جزافا وتلك هي الفجوة الحقيقية بين السلفيين الأوائل والمعاصرين‏.‏

فإلي هؤلاء الذين انتسبوا للسلف اسما فقط ولنا جميعا نفتح هذا الملف ونعود لمنبع هذه السلفية من خلال سيرة وجهد علماء أفذاذ‏,‏ فهموا جوهر الاسلام‏,‏ اجتهدوا فأخطأوا مرة وأصابوا مرات ولم يتهم بعضهم بعضا ولم يحكموا بمروق المجتهد المخطئ من الاسلام‏,‏ لانهم وببساطة لم يغلبوا العاطفة علي العقل فتركوا لنا تراثا حافلا‏,‏ فيه من العقلانية والابداع والاجتهاد ما يستحقوا عليه منا الاقتداء والتأسي ويجعل العودة للسلفية شرف وليس اتهام‏.‏

ليست دعوة رجعية

من هنا نعلم أن السلفية هي الدعوة إلي ما كان عليه النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ والسلف الصالح‏,‏ وهي بمفهومها الصحيح‏,‏ كما يبينه الدكتور محمد عبدالنبي أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر فرع أسيوط‏,‏ ليست مذهبا خاصا‏,‏ ولا حزبا أو اتجاها محدودا‏,‏ لكنها هي عموم الأمة الإسلامية وسوادها الأعظم الذين ينتمون إلي ما كان عليه الصحابة والسلف الصالح عقيدة وعملا‏,‏ كما أنها‏(‏ السلفية‏)‏ ليست حركة ارتدادية‏,‏ أو دعوة رجعية كما يسميها بعض السطحيين وأدعياء الثقافة‏

وإنما هي اهتداء بهدي النبي وصحابته واقتداء بهم‏,‏ وذلك لا يتعارض مع مواكبة العصر والاستفادة من وسائل العلم الحديث‏,‏ وامتلاك ناصية العلم والحضارة‏,‏ كما تعني أيضا الالتزام بما كان عليه السلف الصالح بما فيه ما كان من خلاف بينهم‏,‏ فيما يسوغ فيه الخلاف وما هو بعيد عن الثوابت والأمور المعلومة من الدين بالضرورة‏,‏ وما أجمع عليه العلماء‏,‏ أما ما يسمي السلفية الحديثة التي تحصر هذا المصطلح في مذهب معين‏,‏ أو فئة محدودة من الأمة الإسلامية‏,‏ وتعتبر الخارجين عنها ضلالا ومبتدعة‏

وتجعل من فروع المسائل أصولا‏,‏ وتخلط بين ما يتسع له الخلاف‏,‏ وما لا يتسع له‏,‏ وتقتصر علي آراء عالم معين أو مجموعة من العلماء دون غيرهم من علماء الأمة في كل زمان ومكان‏,‏ فهي ليست جديرة بهذا الاسم‏,‏ ولا تستحق أن تنتسب إلي سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين‏,‏ الذين وقع بينهم كثير من الاختلاف الفقهي‏,‏ ومع ذلك لم يتهم أحد منهم الآخر بشيء من هذه التهم‏,‏ بل وسع بعضهم بعضا‏,‏ وعذر بعضهم بعضا‏,‏ فلم يكن الصحابة كلهم علي درجة واحدة من الحفظ والرواية والفقه‏,‏ بل كانوا يتفاوتون‏,‏ فبعضهم أعلم بالحديث‏,‏ وبعضهم أقرأ من بعض‏,‏ وبعضهم أفقه من بعض‏,‏ كما جاء في حديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏):‏ أقضاكم علي وأقرؤكم أبي‏,‏ وقوله‏:‏ أعلمكم بالفرائض‏(‏ أي المواريث‏)‏ زيد بن ثابت‏,‏ وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل‏,‏ وكثير من الخلاف بين الفقهاء مرده إلي اختلاف الصحابة برغم قربهم من عهد النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ وأخذهم عنه مباشرة‏.‏

وقد وقعت بعض الاختلافات‏,‏ سواء في الأحكام الفقهية‏,‏ أو في فهم بعض النصوص الشرعية بين جمهور الأمة‏,‏ لكن ذلك لم يؤثر علي وحدتها وتماسكها‏,‏ واعتبار كل منهم نفسه مجتهدا يصيب ويخطئ مادام موضوع الخلاف لم يتطرق إلي ما أجمعت عليه الأمة‏,‏ وما ثبت وأجمع عليه واستقر من الدين‏.‏

ويعود السبب في إطلاق مصطلح السلفية‏,‏ كما يشير د‏.‏ محمد عبدالنبي‏,‏ إلي ظهور البدع وكثرتها‏,‏ وتأثر الناس ببعض العادات الغربية فسمي من يتمسكون بسنة النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين سلفية‏,‏ لكن لا ينبغي حصرهم في مذهب أو مدرسة أو طائفة دون غيرهم من المسلمين‏.‏

النص هو الإمام

إذا كان السلف هو الماضي‏,‏ وإذا اعتبرنا أن كل إنسان له ماض ينتسب إليه يكون سلفيا‏,‏ فكلنا إذن سلفيون‏!‏ لكن مع صدق وصلاحية إدخال أغلب تيارات ومذاهب الفكر تحت مصطلح السلفيين‏,‏ فإن هذا المصطلح‏,‏ كما يوضح الدكتور محمد عمارة عضو مجمع البحوث الإسلامية‏,‏ قد ادعاه واشتهر به أولئك الذين غلبوا النص علي الرأي والقياس والتأويل وغيرها من سبل وآليات النظر العقلي‏,‏ فوقفوا عند الرواية‏,‏ وحرموا الاشتغال بعلم الكلام‏,‏ وهؤلاء هم من يطلق عليهم‏,‏ أحيانا‏,‏ أهل الحديث‏,‏ لاشتغالهم بصناعة المأثور‏,‏ وعلوم الرواية‏,‏ وصناعة الجمع‏,‏ والنقد‏,‏ والتصنيف‏,‏ والشرح لحديث رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ورفضهم علوم النظر العقلي‏,‏ وظهرت مصطلحات سلفي وأثري‏,‏ أي أنه ثبت لديه الأثر أو النص القرآني والنبوي لم يخرج عن معناه الصريح‏.‏

فأهل الحديث هم الذين جعلوا النصوص والمأثورات المروية هي مرجع الدين الوحيد‏,‏ رافضين إدخال الرأي والعقل والقياس في التعمق داخل تلك النصوص‏,‏ وكان العصر العباسي هو الحقبة الزمنية التي اشتهر فيها أمر هذه المدرسة الفكرية‏,‏ وذلك بعد ازدهار مدارس الرأي والنظر الفلسفي والعقلاني‏,‏ وتأثيرات الوافد اليوناني العقلاني الذي أفزع قطاعا كبيرا من عامة الأمة وعلمائها‏.‏

فجاء الإمام الورع أحمد بن حنبل صاحب المسند الشهير‏,‏ رائد هذه المدرسة‏,‏ وصاغ منهج السلفية‏,‏ المنهج النصوصي‏,‏ الذي يأخذ الإسلام‏,‏ أصولا وفروعا‏,‏ من النصوص والمأثورات‏,‏ وذلك لمواجهة منهج متكلمي المعتزلة‏,‏ معتزلة بغداد‏,‏ الذي كان للعقل والتأويل دور عظيم في المنهج الذي أخذوا به الإسلام‏.‏

وأركان هذا المنهج النصوصي وأصوله خمسة‏,‏ وهي‏:‏
الأصل الأول‏:‏ النصوص‏,‏ فإذا وجد النص أفتي به ولم يلتفت إلي ما خالفه‏,‏ ولا من خالفه كائنا من كان‏,‏ ولم يقدم علي الحديث الصحيح عملا‏,‏ ولا رأيا‏,‏ ولا قياسا‏,‏ ولا قول صاحب‏,‏ ولا عدم علمه بالمخالف‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ ما أفتي به الصحابة‏,‏ فإذا وجد لبعضهم فتوي لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلي غيرها‏,‏ ولم يقدم عليها عملا‏,‏ ولا رأيا‏,‏ ولا قياسا‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ إذا اختلف الصحابة‏,‏ تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلي الكتاب والسنة‏,‏ ولم يخرج عن أقوالهم‏,‏ فإن لم يتبين له موافقة أحد القولين حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول‏.‏

الأصل الرابع‏:‏ الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف‏,‏ إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه‏,‏ وهو الذي رجحه علي القياس‏,(‏ مع الأخذ في الاعتبار‏,‏ والكلام لابن القيم‏,‏ أن الحديث الضعيف عند ابن حنبل هو المقابل للصحيح‏,‏ وقسم من أقسام الحسن‏,‏ فهو ليس الضعيف بالمعني المتعارف عليه عند المتأخرين من علماء الحديث‏).‏

الأصل الخامس‏:‏ القياس للضرورة‏,‏ فإذا لم يكن عنده في المسألة نص‏,‏ ولا قول لصحابة أو واحد منهم‏,‏ ولا أثر مرسل أو ضعيف‏,‏ عدل إلي القياس فاستعمله للضرورة‏.‏

ويوضح الدكتور عمارة أن الإمام أحمد بن حنبل كان يسمي النص الإمام‏,‏ وكان شديد الكراهية والمنع للإيتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف حتي قال لبعض أصحابه‏:‏ إياك أن تتكلم بمسألة ليس لك فيها إمام‏.‏

وانطلاقا من هذا المنهج النصوصي الذي لا يلتفت لغير المأثورات‏,‏ رأت السلفية أن النصوص قد حوت كل شيء من أمور الدين والدنيا‏,‏ وأن هذه النصوص تشمل‏,‏ إلي جانب الكتاب والسنة‏,‏ أقوال صحابة الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ حيث اعتبرت‏(‏ السلفية‏)‏ أفهامهم‏(‏ الصحابة‏)‏ فوق أفهام جميع الأمة‏,‏ وعلمهم بمقاصد نبيهم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وقواعد دينه وشرعه أتم من علم من جاء بعدهم‏.‏

وبسبب هذه المثالية والقداسة التي أضفاها هذا المنهج السلفي علي النصوص امتدت هذه المثالية إلي العصر الذي قبلت فيه هذه النصوص‏,‏ وشاع في الحركة السلفية تعظيم الماضي بكل صوره ومعالمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية‏,‏ فكان أن قرروا أن فتاوي الصحابة أولي أن يؤخذ بها من فتاوي التابعين‏,‏ وكلما كان العهد أقرب بالرسول كان الصواب أغلب‏,‏ واعتبروا أن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين‏.‏

ابن تيمية ضد التكفير
شهدت السلفية تطورا كبيرا علي يد كوكبة من العلماء المجددين‏,‏ علي رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية‏,‏ وتلميذه ابن القيم‏,‏ اللذان تعرضا لظلم شديد في عصرنا الحديث بسبب ما ينسب إليهما من كونهما سبب التحريض علي العنف والتشدد‏,‏ وفتاوي التكفير التي تملأ الأرجاء‏,‏ ويكفينا أن نقف علي بعض أقوالهما لندرك كيف كان هذان الإمامان سببا في التطور المنهجي للسلفية‏.‏

فيقول ابن القيم‏,‏ مؤكدا ضرورة الربط بين فقه الواقع وأحوال الناس‏,‏ وبين الواجبات في الكتاب والسنة‏,‏ وذلك في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‏:‏ إن ههنا نوعين من الفقه لابد للحاكم منهما‏,‏ فقه في أحكام الحوادث الكلية‏,‏ وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس‏,‏ ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الجواب‏,‏ ولا يجعل الجواب مخالفا للواقع‏.‏ فالمفتي والحاكم والعالم هم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلي معرفة حكم الله ورسوله‏.‏

كما يؤكد ابن القيم أن تغير الفتاوي والأحكام واختلافهما يأتي تبعا لتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد‏,‏ ويعقد لذلك فصلا في كتابه إعلام الموقعين يصفه بأنه فصل عظيم النفع جدا‏,‏ وبذلك تحرر العقل المسلم من أحكام السلف وفتاواهم‏,‏ وانفتحت أمامه الآفاق لأحكام وفتاوي جديدة للواقع الجديد حتي ولو خالفت ما قرر السلف‏,‏ وبذلك لم يعد ثبات النصوص قيدا علي تطور الفتاوي‏,‏ وتغير الأحكام‏.‏ويضيف الإمام ابن القيم‏,‏ إلي النصوص‏,‏ معيارا جديدا هو مقاصد الشريعة‏,‏ حيث اعتبر أن كل ما يحقق مقاصد الشريعة هو شرع وشريعة‏,‏ حتي ولو لم ينزل به الوحي‏,‏ ولم ينطق به الرسول‏,‏ المهم ألا تكون هناك مخالفة للنصوص‏,‏ لكن ليس شرطا أن يقف عند النصوص‏,‏ فكان ذلك بمثابة انقلاب علي سلفية الإمام أحمد‏(‏ الأولي‏).‏

أما شيخ الإسلام ابن تيمية‏,‏ الذي يمثل فيلسوف السلفية وأبرز مجدديها‏,‏ فإننا نجد لديه انتصارا للعقل والعقلانية حيث يقول في كتابه بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول‏:‏ إن ما عرف بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه منقول صحيح قط‏,...‏ ووجدت ما يعرف بصريح العقل لم يخالفه سمع قط‏,‏ بل السمع الذي يقال إنه يخالفه إما حديث موضوع‏,‏ أو دلالة ضعيفة فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح‏,‏ فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ فالعقل الصريح قرين النقل الصحيح‏,‏ والحكمة أخت الشريعة‏,‏ والتعارض بينهما غير وارد البتة‏,‏ اللهم إذا غابت الصراحة عن العقل‏,‏ أو غابت الصحة عن النقل‏,‏ لأن العقل الصريح والنقل الصحيح لا يثمر إلا الحق‏.‏

وعلي خلاف ما يتوهم الذين لم يعرفوا الإسلام حقا‏,‏ ولم يدرسوا سيرة وكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية‏,‏ الذي كان‏,‏ ككل أئمة أهل السنة والجماعة‏,‏ شديد الحذر والتحذير من قضية التكفير‏,‏ فأعلن موقفه في حسم ووضوح قائلا‏:‏ والذي نختاره ألا نكفر أحدا من أهل القبلة‏.‏ إن الكفر حكم شرعي متلقي عن صاحب الشريعة‏,‏ والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه‏,‏ وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرا في الشرع‏,‏ وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به‏,‏ أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه‏.‏

هكذا أعلن ابن تيمية رفضه تكفير أحد من أهل القبلة بعد أن أورد بعض المسائل التي دار الخلاف حولها بين الفرق الإسلامية في علم أصول الدين‏,‏ التي انزلق كثيرون إلي تكفير المخالفين فيها‏,‏ فقطع بأن هذه المسائل الأصول لا تتوقف صحة الدين علي معرفة الحق فيها‏,‏ وبذلك نزع ابن تيمية فتيل فتنة التكفير من صفوف الأمة الإسلامية‏,‏ وذلك لأن الفقه هو علم الفروع‏,‏ وليس واردا أن يكون التكفير في الفروع‏,‏ ومثل هذه المسائل الكلامية ليست من أركان الإيمان أو الإسلام التي جاءت بها نصوص قطعية الدلالة‏.‏ كما نهي ابن تيمية عن تكفير الذين وقعوا في خطيئة التكفير لمخالفيهم‏,‏ ونهي عن التكفير بغير حجة ولا برهان‏,‏ فكفر المقولة لا يستلزم تكفير قائلها‏.‏ كذلك رفض ابن تيمية تكفير المجتهد المخطئ‏,‏ ولو كان الاجتهاد الخاطئ في المسائل العقدية‏.‏

وبذلك أعلن عن سلفية جديدة توازي فيها العقل والنقل‏,‏ واستعانت بأدوات النظر لإقامة كامل الإسلام في الواقع الجديد‏.‏

حائرة بين العقلانية والتقليد

شهدت السلفية بعد فيلسوفها ومجددها شيخ الاسلام ابن تيمية عدة مراحل ترددت خلالها بين العقلانية وبين التمسك بالنصوص‏,‏ هذا التردد فرضته طبيع البيئة والظروف المحيطة فبينما اعتبر البعض عودة السلفية النصوصية‏(‏ التي تقدم النص‏)‏ ردة إلي السلفية الأولي ودعوة إلي اللاعقلانية وتأثرها بسبب بداوة البيئة وفقرها الفكري والفلسفي إلا ان الدكتور عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ الاسلامي بجامعة الأزهر يري ان هذه المرحلة اتسمت بالتركيز علي إصلاح العقائد وتصحيح العبادات وذلك في فترة انتشرت فيها بعض الأمور التي لم يعهدها الأوائل مثل التوسل بالأولياء الصالحين والتبرك بالجمادات كالأشجار والأحجار فكان من أهم ما تميز منهج السلفية في هذه المرحلة‏,‏ هو محاربة البدع وما دخل علي العقيدة الاسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالي‏,‏ ولذا لم يكن هناك من بد من التمسك بالنصوص لحسم هذه القضايا التي تخص عقائد الناس والتي تعد من ثوابت الدين‏.‏

وبعد ان نجحت هذه السلفية في هدفها بالقضاء علي الخرافات‏,‏ عادت مرة أخري السلفية إلي العقلانية المستنيرة علي يد الشيخ محمد عبده الذي دعا إلي فهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في معارفه إلي ينابيعها الأولي‏,‏ حيث يؤكد الدكتور محمد عمارة ان الامام محمد عبده دعا في الوقت ذاته إلي العقلانية في فقه النصوص لتحرير الفكر من قيود التقليد واعتبار الدين من ضمن موازين العقل البشري‏.‏

كما دعا بهذه السلفية إلي تصحيح الاعتقاد وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين‏,‏ حتي إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل واستقامت أحوال الناس واستنارت بصائرهم بالعلوم الدينية والنيوية

وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة‏.‏ وقد التفت الامام محمد عبده إلي تراث شيخ الاسلام ابن تيمية حيث وصفه بأنه أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة علي الدين‏.‏