بالرغم من أن تطور التلفاز ووصوله إلى هيئته الحالية كشاشة نحيفة للغاية ومُمتلئة بالمزايا والخصائص سواءً الاعتيادية أو الذكية قد أخذ ما يزيد عن مائة عام من العمل المُتواصل، لم تأخذ خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت أكثر من عقدين كي تتمكن من ضرب ما عمل عليه الانسان طوال هذه السنوات الطويلة.

مع هذا التطور الكبير والانتشار الخاص بخدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت، تتوالى الكثير من الأسئلة على أذهاننا والتي تختلف فيما بين ماهي بداية ما يُعرف بخدمات البث التلفزيوني عبر الإنترنت وسبب تفوقها على التلفاز والبث عبر الأقمار الصناعية في هذه الفترة الوجيزة في عمر البشرية والكثير من الأسئلة الأُخرى. دعونا نقوم في هذه المقالة بمحاولة استعراض لتاريخ خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت بالإضافة لنحاول الإجابة على هذه الأسئلة.

نظرة سريعة على تطور خدمات البث التلفزيوني عبر الإنترنت

قد تظُن عزيزي القارئ أن بداية خدمات البث التلفزيوني عبر الإنترنت قد كانت في العقد الثاني من الألفية الثالثة كما وصلتك مع انتشار الهواتف الذكية ودخول الإنترنت تقريباً لكل منزل في جميع أنحاء العالم، إلا أن الأمر ليس كذلك في حقيقته. ذلك لأنه في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، وتحديداً في عام 2005، وبعد أربع سنوات من إطلاق آبل لمنصة iTunes، قامت الشركة بتوفير خدمة تحميل المُحتوى التلفزيوني عبر منصتها الجديدة وذلك من خلال الدفع عبر الإنترنت.

في العام ذاته انطلقت منصة يوتيوب، تلك المنصة التي مثلت نقلة نوعية في كيفية استخدام الانترنت ومُشاهدة مقاطع الفيديو والتي أصبحت فيما بعد مكاناً يسهل عليك من خلاله مُشاهدة الأفلام والمُسلسلات والبرامج التلفزيونية التي تمت مُشاركتها بواسطة المُستخدمين أنفسهم بشكلٍ غير قانوني، وقد بدأ حينها مُصطلح مشاهدة البرامج والمسلسلات التلفزيونية عبر الانترنت في الظهور بشكلٍ أكبر.

مع الوقت، أصبحت الشركات تستهدف الصناعة الجديدة، والتي تُركِّز على البث التلفزيوني عبر الانترنت مثل شركة أمازون والتي قدمت خدمة Amazon Video في عام 2006 لأول مرة في الولايات المُتحدة وذلك تحت اسم Amazon Unbox بالإضافة لخدمة Netflix، تلك الخدمة التي أصبحت في المرتبة الأولى من حيث خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت في الوقت الحالي والتي كانت بدايتها متجراً لتأجير أقراص DVD في الولايات المُتحدة في عام 1998 حتى انتقلت لتُصبح خدمة بث تلفزيوني عبر الانترنت في عام 2007.

تلي ذلك بالطبع دخول العديد من الشركات في مجال البث التلفزيوني عبر الانترنت، شركاتٌ مثل Hulu و HBO التي أطلقت خدمة HBO Go و مُؤخراً انضمت لهذا المجال بشكله الجديد الذي يُمكنك من مشاهدة البرامج والمسلسلات والأفلام المزيد من الشركات مثل Apple من خلال خدمة Apple TV+ وبعض الشركات شرق الأوسطية مثل شاهد و WAVO ومُؤخراً أيضاً خدمة Watch IT التي ستعرض المسلسلات الرمضانية عبر الانترنت بالأسلوب ذاته.

طالع أيضاًخدمة Apple TV Plus وApple Arcade ضمن ما تم الإعلان عنه خلال مؤتمر ابل الخاص

ولكن; مع كُلِ هذا، يبقى السؤال الأهم، وهو لماذا تتجه الشركات إلى انشاء منصات البث التلفزيوني عبر الانترنت بدلاً من إطلاق القنوات التلفزيونية الاعتيادية عبر الأقمار الصناعية كما جرت العادة، وما هو مُستقبل هذه الخدمات، أو من ناحية أُخرى، ما هو مُستقبل التلفزيون الاعتيادي الذي يستقبل القنوات عبر الأقمار الصناعية؟

سبب اتجاه الشركات لخدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت

لإجابة هذا السؤال، نحتاج في البداية أن نتعرف على الإجراءات التي تتخذها الشركات لتقوم بإطلاق قناة تلفزيونية فضائية، وفي المُقابل الإجراءات التي تتخذها أيضاً لإطلاق خدمة بث تلفزيوني عبر الانترنت مثل نتفليكس على سبيل المِثال، وما الذي يُميز الأخيرة عن الأولى.

دعنا نتفق في البداية أن إطلاق موقعاً على الانترنت أكثر سهولة بكثير من إطلاق قناة على التلفاز، فأنت تحتاج إلى قدر كبير من المال كي تتمكن من إطلاق القناة الفضائية التلفزيونية بدايةً من حجز تردد القناة، وهو أمر مُشابه لحجز دومين لموقعك الخاص بخدمة البث التلفزيوني عبر الإنترنت ولكن مع اختلاف السعر، كما أنك عندما تقوم بحجز تردد للقناة التلفزيونية يجب عليك أن تُقدِّم الكثير من الوثائق الخاصة بالقناة واستكمالها قانونياً لتكون القناة مقبولة، كما يتوجب عليك امتلاك مقر للبث من خلاله بالإضافة إلى أنك ستعرض على القمر الصناعي المملوك لأحد الجهات الحكومية غالباً أو الخاصة في بعض الأوقات وهو ما يُجبرك على امتلاك حقوق كل ما تقوم ببثه عبر القناة وإلا فسيتم مُقاضاتك قانونياً بتهمة سرقة الحقوق.

وبعد إنشائك لقناتك سيكون عليك الترويج لها، وإذا ما قارنا بين إدخال تردد قناة جديدة في مُستقبل الإشارة كي تتمكن من مُشاهدتها وإدخال رابط موقع إلكتروني على المُتصفح فإن الأمر بالتأكيد سيكون في صالح المواقع الالكترونية. أضِف إلى ذلك إلى أمور الدعاية الخاصة بالقناة، فكي تتمكن من الوصول إلى الانتشار الذي ترغب به من خلال قناتك التلفزيونية ستحتاج إلى الكثير من الإعلانات الخارجية والإلكترونية، وكلاهما بالطبع سيُجبِر المُستخدمين على الانتفال لجهاز آخر لإضافة تردد قناتك واستقبالها، على عكس خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت التي لن تتطلب أكثر من الضغط على اسم موقعك عبر أحد مُحركات البحث أو أحد المواقع كي ينتقل إليه مُباشرةً.

تطور خدمات البث التلفزيوني عبر الإنترنت

فوق كُلِ هذا وذاك، فإن مُشاهدتك للمُسلسلات والأفلام عبر القنوات الفضائية سيُجبرك على البقاء أمام التلفاز، كما أنك لن تكون مُتحكماً فيما تُشاهده، وهو ما قامت بتوفيره خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت حيث جعلت الجميع قادراً على المُشاهدة عبر أي جهاز يُمكنه الاتصال بشبكة الانترنت سواءً شاشات التلفاز الذكية أو الهواتف المحمولة أو الحواسيب الشخصية والمحمولة أيضاً.

كما أنك ستتحكم في ما تُريد مُشاهدته ولن تكون مُجبراً على مُشاهدة برنامجٍ ما أو مُسلسل تعرضه القناة دون توفير خيارات أُخرى مثل تلك التي نراها عبر خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت مثل نتفليكس التي تعرِض كافة المُحتوى لك باشتراكٍ شهري مُنخفض لتُصبح من خلاله قادراً على استعراض مئات إن لم يكن الآلاف من المسلسلات والأفلام والبرامج التلفزيونية سواءً التي يتم إنتاجها بواسطة نتفليكس ذاتها أو تلك التي قد تم شراء حقوقها.

وأخيراً، المُنافسة، فعدد القنوات التي تُبث عبر الأقمار الصناعية لا يُحصى، وفي المُقابل، ومع عُمر خدمات البث التلفزيوني القصير، فإن احتمالية ظهور خدمتك على الانترنت أكبر من احتمالية ظهور قناتك الفضائية من بين آلاف القنوات الفضائية المُتواجدة على الساحة. إذاً فهذه الأسباب كافة تجتمع سوياً لتجعل من خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت أقوى وذات مُستقبل أكثر سطوعاً من القنوات الفضائية التي تُجبِرُك على البقاء أمام التلفاز طوال فترة مُشاهدتك لأحد البرامج أو المُسلسلات مع وجود الكثير من الإعلانات التي تُفسِد عليك تجربة المُشاهدة.

طالع أيضاًكل ما تود معرفته عن خدمة ديزني الجديدة لبث الفيديو + Disney | الأسعار, موعد الإطلاق والمحتوي المقدم

مستقبل خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت

نصل هُنا للمرحلة الأهم من مقال اليوم، والسؤال الذي بدأت به المقالة والذي ذكرت أنه يُمكن سؤاله من ناحية أُخرى بخصوص مُستقبل البث عبر الأقمار الصناعية، فمع كُل هذا التطور، ومشاريع نشر الإنترنت في جميع أنحاء العالم التي تقوم بها جوجل وفيس بوك وسبيس إكس، وهو ما يُعد إضافة لسرعات الإنترنت المُرتفعة بالفعل حاليًا-بخلاف عدد من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط- هل ستظل قنوات التلفاز على حالها؟ أكثر ما يدعم بقاء القنوات الفضائية في الوقت الحالي هم كِبار السن، فهؤلاء ممن اعتادوا على الجلوس أمام التلفاز لمُشاهدة المُسلسلات والبرامج التلفزيونية ومباريات كرة القدم ليس من السهل تغيير موقفهم منه ونقلهم لمُشاهدة ما يُريدون وقتما يُريدون عبر خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت.

قد يتضح هذا بشكلٍ جلي في الوقت الحالي مما نُشاهده عبر قنوات الكثير من القنوات الفضائية على موقع يوتيوب، فهي حتى الآن تحظى بمُشاهدات أقل من مُعدّل مُشاهدتها عبر شاشات التلفاز من خلال القنوات الفضائية الخاصة بها، ولكن; وفي الوقت ذاته، فإن توجه مثل هذه القنوات إلى نشر مُحتواها عبر الإنترنت لجلب المزيد من المُشاهدين هو دليل على قوة الأخير وقدرته على السيطرة بالكامل خلال السنوات القادمة، وانخفاض حصة القنوات الفضائية من السوق.

رأينا ذلك في قناة مثل HBO التي اتجهت مُؤخراً وأطلقت خدمة HBO Go لمُشاهدة مُحتواها عبر الإنترنت مُستهدفةً بذلك المزيد من المُشاهدين من مُمتلكي الأجهزة المُختلفة بخلاف شاشات التلفاز. وِفقاً لإحصائيات قد صدرت بواسطة منظمة Statista عن الربع الأول من عام 2017، فقد شهد هذا الوقت تفوق خدمة البث التلفزيوني نتفليكس لأول مرة على اشتراكات القنوات الفضائية في الولايات المُتحدة، وقد استمر هذا الرقم في الصعود حتى الآن ليصلوا في النهاية إلى أكثر من 154 مليون مُستخدم في الوقت الحالي في 190 دولة، وذلك بفارق عشر سنوات عن وصول مشتركي القنوات الفضائية في الولايات المُتحدة إلى 65 مليون مُشترك في عام 2007.

تطور خدمات البث التلفزيوني عبر الإنترنت تعني هذه الأرقام أن خدمة نتفليكس وحدها قد احتاجت إلى عشر سنوات فقط كي تطغى على حصة القنوات الفضائية التي احتاجت إلى عشرات السنوات كي تصل إلى 65 مليون مُشترك فقط في الولايات المُتحدة، وهو ما يُظهِر بشكلٍ جلي وواضح مدى قوة اندفاع خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت لتُصبح على قمة وسائل مُشاهدة المُحتوى المرئي في المنزل وخارج المنزل بخلاف السينما.

خِتامًا ..

نتفق ولا نختلف على مدى أفضلية خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت وتفوقها على وسائل المُشاهدة الأُخرى التي تتمثل في شاشات التلفاز المنزلي عبر الأقمار الصناعية، فبجانب إمكانية مُشاهدة المُحتوى عند الطلب ووِفقاً لما تُريد، يُمكنك أيضاً أن تُشاهده وقتما تُريد وأينما تُريد دون إجبارك على البقاء أمام التلفاز حيث أنه بإمكانك مشاهدة ما تُريد عبر الهاتف الذكي أو الحواسيب المحمولة والمكتبية والأجهزة اللوحية وكل ما يُمكنك استخدامه لعرض أي شيء. أضِف إلى كُل ذلك أنه لتطوير أحد القنوات الفضائية أو إطلاقها في أحد الدول بشكلٍ جديد سيتطلب هذا تغييراً كاملاً في البنية التحتية بخلاف ما تقوم به خدمات البث التلفزيوني عبر الانترنت والتي لا تحتاج سوى لاتصالاً عبر الإنترنت وسيكون لديك كُل شيء.

هل حقاً سينتهي عصر التلفاز؟ على الأقل، ليس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل عدد ليس بقليل من السنوات، وذلك للعديد من الأسباب، أهمها ضعف اتصالات الانترنت مما لا يجعلها حتى هذه اللحظة قابلة ليتم البث من خلالها طوال على الأقل اثنا عشرة ساعة وهو مُتوسط تشغيل شاشات التلفاز في المنزل وذلك بجودة عالية ودون تقطيع، كما أنه حتى هذه اللحظة النسبة الأكبر من المُحتوى المُتوفِّر عبر هذه الخدمات غير مُوجه بشكلٍ أساسي للشرق الأوسط، فأغلبها إن لم يكن جميعها عبارة عن مُسلسلات وبرامج تلفزيونية وأفلام أجنبية حتى الآن، مع وجود نسبة ضئيلة مما يُمكن مُشاهدته بواسطة العائلة العربية كما يقومون عندما يُشاهدوا المُحتوى عبر القنوات الفضائية.

ولكن من يعلم، فمع انتشار خدمات عربية مثل Wavo و Watch IT التي يعيبها سعرها حتى هذه اللحظة مُقارنةً بالخدمات المُنافسة، قد نرى في المُستقبل القريب تواجداً عربياً قوياً وإحصائيات مُذهلة بخصوص عدد المُستخدمين العرب ممن يُشاهدون المُحتوى عبر منصات البث التلفزيوني عبر الإنترنت.