الدرونز وعصابات الكارتل: عندما تجعل التقنية رأس مال جريمتك
لأول مرة في تاريخ المكسيك، يخرج الجيش المكسيكي للجمهور ليعترف باستهداف ضباطه وجنوده من قبل عصابات الكارتل -المسمى المعروف للعصابات المروجة للمخدرات في أمريكا اللاتينية- باستخدام طائرات الدرونز في مطلع أغسطس 2024. بعد حروب مدوية وسفك دماء لم تتوقف من سبعينيات القرن الماضي، لا تزال الحرب المكسيكية ضد المخدرات جارية، بل وصارت أكثر تقدمًا.
فلمن لا يعرف ما يحدث في المكسيك، حرب المخدرات التي بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي لم تنتهي أبدًا فيها، فمع وجود عصابات مثل "سينالوا" و"تيهوانا" و"خاليسكو"، والتي استمرت عملياتها وسُجنت قياداتها، هناك دائمًا حل للوصول إلى غايتهم، وهي أموال ملوثة بالمخدرات.
فبعد الحروب الأرضية، والأسطول الجوي الذي قاده "أمادو كاريلو فوينتس"، تظهر الدرونز كحل عملي يُرسل الممنوعات إلى من يطلبها، ويرسل كل من يُعادي الكارتلز إلى الخالق ليسترد وديعته، وكأنها جولة لا تنتهي في Call of Duty.
كيف استخدمت العصابات السماء في عملياتها السابقة؟
تطورت سُبل نقل المخدرات بشكل ثوري مع الكارتلز، وهذا يعود إلى الأموال التي كانت تستغلها في عملياتها، فلو نظرنا إلى عصابة "خواريز"، وهي الأولى في تهريب المخدرات، سنجد أن قيمة قائد هذه العصابة قبل وفاته كانت 25 مليار دولار أمريكي، أي ما يساوي 40 مليار دولار بمعايير الوقت الحالي.
هذه الأموال سمحت لـ "أمادو كاريلو فوينتيس" ببناء شبكة جوية قد تكون بنفس قوة طيران لوفتهانسا مثلًا، ولكن الفارق أنها لم تكن قانونية، ولم تكن تنقل الأشخاص من بلادٍ إلى بلاد، بل كانت تنقل أداة تنقل عقولهم إلى الهاوية.
عمّن أطلقت عليه المكسيك لقب "ملك السماوات"
بعد نهاية عصابة "غوادالاخارا"، والتي ضمت تحت أجنحتها العديد من العصابات التي عرفت بالـ"بلازا" كوصف لكل واحدة منهم على حدة، استقل "أمادو كاريلو فوينتيس" ببلازا "تيخوانا" وأصبح قائدها، وبثروة تقدر بـ 25 مليار دولار أمريكي.
دور أمادو كان محوريًا بالنسبة لتجارة المخدرات في الأمريكتين، والتي ولد ووجد نفسه فيها برفقة عائلته التي تعاونت مع غوادالاخارا، ولكن ما ميز أمادو عن أي تاجر مخدرات آخر هو تفكيره خارج الصندوق. فلو كان بابلو إسكوبار يعتمد على الرصاص، فأمادو إعتمد على الهواء الذي لم يسيطر عليه أحد، ولا حتى حكومة المكسيك وقواتها الضعيفة نسبيًا في هذا المجال.
فكرة أمادو كانت خارج الصندوق لأنه كان يعتمد على شبكة طيران مُحكمة مصممة لنقل الممنوعات، وهذا ليخرج من عباءة الطائرات الصغيرة الخاصة التي كان يستخدمها في الماضي، وتبنى فكرة طائرات "الكارجو" التي تستطيع تحمل أطنان من الكوكايين في الرحلة الواحدة، ووصل به الأمر إلى تصميم مدرجات هبوط في قرى المكسيك النائية.
هذه المدرجات كانت مطارات مُصغرة يحرك منها طائراته، ولم يشعر بها أحد لأنها لم تكن مناطق تحت مراقبة المكسيك، فمن سيطير بطائرة نقل بضائع من قرية بالكاد مؤهلة للسكن؟ على الورق لا يوجد، ومن هنا استطاع أن يبني شبكته التي ضمت أكثر من 30 طائرة، منهم طائرات Boeing 727، ليستطيع تحريك 15 طن من الكوكايين في الأسبوع الواحد.
على عكس أي مجرم عادي، فأمادو كان مستعدًا لهذا التوسع، ولكن شرطة المكسيك تعاونت مع الولايات المتحدة لردع تجارة المخدرات، ومن أهداف الحكومتين هو التخلص من أمادو ومعه جميع العصابات التي تفككت من غوادالاخارا، وحتى يهرب من ملاحقة الشرطة له، قرر أن يخضع لسلسلة عمليات تجميل حتى يغير شكل وجهه، ولكن توقف قلبه داخل غرفة العمليات ليموت تحت تأثير مخدر الجراحة، ليرقد "ملك السماوات" بدون طلقة واحدة في جسده، بعد أن شارك في مذابح مع عصابته على الأرض.
ما بعد أمادو
نجح أمادو في تنفيذ خطته، وصار من أقوى تجار الممنوعات في جميع أنحاء العالم، بل وكان مرجعًا لأي كارتل في المكسيك أو خارجها، فهدفه الأول والأخير هو فتح شبكة تجارة واسعة تسمح له بتصدير سمومه إلى أي مكان في العالم، ولكن بعد وفاته، استثمرت الولايات المتحدة والمكسيك في شبكات مراقبة الجو حتى لا تتكرر هذه الواقعة مرةً أخرى.
فمع وجود الرادارات، قوات حرس الحدود وطائرات المراقبة من القوات الجوية، صارت مهمة تيخوانا أصعب، حتى قررت الاستسلام في الجو، وعادت إلى الطرق المعهودة في التهريب البري التي تحمل مخاطر أعلى، ولكن تكلفتها أقل بكثير من المحافظة على خطوط الكوكايين الجوية التي شيدها أمادو.
العقد الحالي هو عقد شبكات الدرون
الدرون، أو الطائرة الصغيرة المتحكم فيها عن بعد، صارت أداة لا يمكن الاستغناء عنها من قبل عصابات الكارتل. ففي حالة المكسيك، وهي الأكثر استخدامًا للدرونات في نطاق الجريمة المنظمة، يمكن أن نقول أنها تحولت إلى أداة أساسية في عمليات هذه العصابات، ولا نتوقع أن يقف استخدامها في أي وقتٍ قريب.
هذه الطائرات الصغيرة يمكن الحصول عليها حرفيًا من أي متجر إلكتروني الآن، ويتم تهريبها مباشرةً إلى المكسيك لتُستخدم لأغراضٍ أخرى، وهي أغراض تبتعد كل البعد عن الغرض الاستهلاكي الطبيعي. فمع مرور الوقت وقراءة الأخبار العالمية، نجد أن الدرونز لها استخداماتٍ عدة بالنسبة للعصابات.
لا تضع الكاميرا، ضع الكوكايين
لو كانت الولايات المتحدة تظن أن الدرونز التي تمر عبر الحدود تصور بعض المناظر الخلابة، فهذه النظرية خاطئة. في عام 2022، مثلت "جلوريا تشافيز" التي تعمل ضمن حراسة الحدود الأمريكية في منطقة وادي ريو العظيم، والتي تقع بين المكسيك وأمريكا من ناحية تيكساس وتشيواوا، أمام الحكومة الأمريكية لتعلن عن مرور أكثر من 10 آلاف درون عبر الحدود الأمريكية-المكسيكية، وظهور 25 ألف درون على الحدود في 2022 فقط.
فالدرون بالنسبة للكارتل كما ذكرنا أداة جديدة، وتساعدهم في تحريك المخدرات بين مدن الحدود في الليل، والتي يصعب إيقافها لأن الولايات لن تستخدم الصواريخ المضادة للدرونات، من باب المفارقة المضحكة المبكية، داخل أراضيها أو على حدودها.
فعام 2022 شهد توصيل 3 ملايين حبة من مخدر الفينتانيل باستخدام هذه الدرونات، وهذا الرقم لعملية واحدة فقط من عمليات التهريب المتعددة منذ بداية 2015. فعلى سبيل المثال، عملية مزرعة كاليكسكو التي تم تهريب 12 كيلوجرام من الهيروين باستخدام درون تتحرك بين حدود المكسيك وأمريكا، فتوصل البضاعة للتاجر من المصدر ويهرب بها إلى الولايات المتحدة.
حتى السجون اللاتينية لم تسلم من عمليات التهريب، فالعصابات المكسيكية والكولومبية استخدمت هذه الدرونز لتُسقط المخدرات والأسلحة داخل السجون، والتي تباع بأضعاف أسعارها مقارنةً بالخارج، لتظل الدرونز أداة محورية في تجارة المخدرات داخل الأمريكتين.
تريد التخلص من عدوك؟ أرسل له درون
بدأت عصابات الكارتيل باكتشاف استخدام آخر، ومهم بالنسبة لهم، يُخلصهم من العدو اللدود الذي يلاحقهم. نحن نتحدث هنا عن جنود الجيش، رجال الشرطة وبعض رجال العصابات المنافسة لهم، وهذا من خلال وضع عبوة ناسفة أسفل الدرون الطائرة حتى تصل الأمانة إلى من ترى الكارتل أنه يستحقها.
ففي عام 2023، أصابت الكارتل ما يقرب من 42 فردًا معادي لها من الفئات التي ذكرناها، وهذا ضمن 260 حادثة سجلت لاستخدام الدرونات في محاولات قتل الأفراد، وحتى هذا الرقم قد يكون غير صحيح، حيث أن بعض الأماكن النائية والبعيدة عن المدن يشهد سكانها بأن حوادث الدرون تلك شبه يومية.
قد يبدو الأمر وكأنه بديلًا لعمليات التفجير عن طريق العبوات المُفخخة في السيارات، ففكرة وجود جسم طائر حول سيارة في مكانٍ عام، ومن ثم يقصف بها ومن حولها تبدو خطوة أكثر إرهابية عن الطبيعي. هذا لأن استخدام جسم يتتبع سيارة ما في الشارع يزرع يقين مشكك في عقل الجميع، وهو أن الكارتل دائمًا تراك أيًا كان مكانك.
يضاف على هذا تسليح الدرونات بكاميرات الرؤية الليلية، والتي تساعدهم في تحديد نقاط تمركز الأعداء ليلًا، أو اكتشاف طرق جديدة لتهريب المخدرات، والتي قد تستخدمها بعض العصابات الأخرى أيضًا في عملياتها. حتى لو أرادت الكارتل أن تُهاجم نقاط تمركز الشرطة والجيش في أي لحظة، يمكنها هذا باستخدام تقنيات الرؤية تلك ليتم كل شيء في الظلام.
البروباجاندا لها أحكامها
على نهج صناع المحتوى في أوروبا وأمريكا، الكارتلز تصنع المحتوى الخاص بها باستخدام الدرونات. تخيل انتشار مقطع فيديو على تيليجرام تظهر فيه درون طائرة بين الأحياء وهي تسجل إنفجار أو حادث، ثم أرسله للجميع حتى تزرع الرعب أكثر وأكثر في قلوبهم.
هذه استراتيجية دعائية بحتة تستخدمها الكثير من عصابات الكارتيل، وبالأخص "جيل خاليسكو الجديد"، والتي تبنت الدرونات في كل شيء تقريبًا. الكارتل لا تريد فقط أن تذكرك بأنها عصابة إجرامية، بل عصابة جماهيرية تحمي المدينة التي تتوغل فيها من عصابات المدن الأخرى، وعلى طريقة عصابات "الياكوزا" اليابانية، تستخدم نفس النهج.
فمثلًا، في عام 2020 عندما توقف العالم بسبب جائحة الكورونا، قررت عصابة جيل خاليسكو الجديد أن تمد يد العون لسكان خاليسكو، وهذا من خلال إسقاط شحنات غذائية باستخدام الدرونز الخاصة بهم وتصوير الحدث، لتظهر بصورة روبن هوود. فعصابة خاليسكو هي من مدت لكم يد العون، وليست الحكومة التي تركتكم في جائحة لتراقب الحدود الأمريكية.
ولكن الإرهاب مطلوب أيضًا، فعصابة خاليسكو تصور جرائمها باستخدام الدرونات وترسلها إلى الصحافة المكسيكية وقنوات التواصل الإجتماعي، لتذكر الناس أن كل شيء مُراقب وأنك لست بعيدًا عن مروحية يمكننا شرائها من علي إكسبريس، ولا تزال تستخدمها حتى يومنا هذا لنفس التوجه.
حتى الجريمة صارت أسهل مع التقنية
باستخدام تقنيات حديثة، صارت الجريمة أكثر "رقمية" عن ذي قبل. فمع تحول هذه العصابات من طائرات البوينج الخاصة بأمادو إلى طائرات الدرون التي لا يمكن أن يُعرف مالكها، وصل العالم إلى مرحلة تُستغل أي فرصة حداثة ممكنة لجعل الجريمة أكثر فاعلية.
قد يحتاج العالم يومًا ما إلى قوانين أكثر صرامة بشأن هذه الطائرات، والتي تعاملنا معها كأداة للترفيه عن النفس أو تصوير المقاطع المذهلة، ولكنها صارت أداة تستطيع أن تأخذ النفس معها في رحلة إلى الخالق، وما قد نراه في المستقبل أسوأ وأصعب بكثير عما نراه الآن.
?xml>