كلما امتدت بنا السنوات، اشتد حنيننا إلى البدايات، إلى تلك الأيام التي كان كل شيء فيها أبسط وأقرب إلى القلب. لا أنسى مطلع الألفينات، حين كان ياهو "Yahoo"هو نافذتنا الأولى إلى العالم الرقمي، وبوابتنا لاكتشاف كل جديد. كنا نبدأ يومنا بتصفحه، ونبحث من خلاله، ونقرأ الأخبار، ونتواصل مع الأصدقاء.

كان "ياهو" آنذاك رمزًا للإنترنت ذاته، لا ينافسه منافس ولا يزاحمه حضور. ومع تعاقب الزمن، أطاحت به التحولات الكبرى، وتصدرت "جوجل" المشهد بلا منازع.
واليوم، وبعد سنوات من الغياب، تعود "ياهو" لتشعل الأمل مجددًا، متطلعة إلى استعادة مجدها عبر سباق محتدم على امتلاك متصفح "كروم". مشهدٌ يعيد إلى أذهاننا سؤالًا قديمًا متجددًا: هل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه، أم أن الزمن لا يعود إلى الوراء؟

ياهو تدخل معركة الاستحواذ

ترى شركة ياهو اليوم، أن الاستحواذ على متصفح "جوجل كروم" قد يكون خطوة أسرع وأكثر تأثيرًا لزيادة حصتها في السوق. وقد أبدت ياهو استعدادها للمنافسة على شراء كروم، في حال أُجبرت جوجل على بيع جزء من أعمالها نتيجة الأوضاع القضائية المتعلقة بممارساتها الاحتكارية.

تستند خطة ياهو إلى دراسة السوق، حيث صرح برايان بروفوست، مدير إدارة البحث في ياهو، بأن حوالي 60% من عمليات البحث تتم عبر المتصفحات، ما يجعل امتلاك متصفح بوابة أساسية للسيطرة على سوق البحث. وبينما يقدر بروفوست أن تطوير متصفح ياهو الخاص قد يستغرق من ستة إلى تسعة أشهر، فإن شراء كروم قد يسرّع من تحقيق الأهداف، حتى وإن كانت الصفقة ستكلف مليارات الدولارات.

محاولات ياهو السابقة للعودة إلى الصدارة

رغم تاريخها الطويل، لم تكن محاولات شركة ياهو في صفقات الاستحواذ الكبرى دائمًا موفقة. ففي عام 2006، عرضت ياهو شراء فيسبوك مقابل نحو مليار دولار، غير أن مارك زوكربيرغ رفض العرض، مؤمنًا بإمكانات شركته المستقبلية. كما أبدت ياهو اهتمامًا مبكرًا بالاستحواذ على يوتيوب، لكنها تراجعت بسبب مخاوف تتعلق بالحقوق القانونية، مما فتح المجال أمام جوجل لإتمام الصفقة.

في عام 2013، استحوذت ياهو على منصة تمبلر مقابل 1.1 مليار دولار، في محاولة لجذب جمهور الشباب، إلا أن الصفقة لم تحقق النجاح المرجو، واضطرت لاحقًا لبيع تمبلر بثمن زهيد. كذلك دخلت ياهو في مفاوضات لشراء خدمة البث "هولو"، لكنها لم تكلل بالنجاح.

المفارقة أن ياهو نفسها أصبحت لاحقًا هدفًا للاستحواذ، حين اشترت شركة Verizon معظم أصولها عام 2017 مقابل نحو 4.48 مليار دولار. هذا التاريخ المتقلب يلقي بظلاله اليوم على طموح ياهو للاستحواذ على متصفح كروم.

Perplexity تبدي اهتمامًا مشروطًا بكروم

على الجانب الآخر، وعلى الرغم من أن شركة Perplexity لم تعلن بشكل قاطع عن رغبتها في شراء متصفح كروم، فإنها أبدت استعدادها للنظر في خيار الاستحواذ إذا أُجبرت جوجل على بيع المتصفح.

خلال المحاكمة، أوضح ديميتري شيفيلينكو، مدير الأعمال في الشركة، أن Perplexity تفضل أن يبقى كروميوم مفتوح المصدر تحت إدارة جوجل بدلاً من انتقاله إلى شركات مثل OpenAI، التي تخشى Perplexity من تأثير استحواذها على جودة وأمان المتصفح.

وفي الوقت نفسه، أكد شيفيلينكو أن شركته قادرة على تشغيل كروميوم بكفاءة دون المساس بجودته أو فرض رسوم على المستخدمين، لكنها تفضل حلولاً تحفظ التوازن في سوق التصفح بدلاً من الدخول في سباق استحواذ مباشر.

محاولة Perplexity للاستحواذ على TikTok

جدير بالذكر أيضًا، أنه في ظل التهديدات بحظر تطبيق TikTok في الولايات المتحدة بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي، تقدمت شركة Perplexity AI، بعرض غير رسمي لشراء عمليات TikTok في الولايات المتحدة. تضمنت الخطة إنشاء كيان جديد تشارك فيه الحكومة الأمريكية، كما اقترحت Perplexity إعادة بناء خوارزمية الموقع من الصفر وجعلها مفتوحة المصدر.

مع استضافة البيانات في مراكز بيانات أمريكية تحت إشراف حكومي، وذلك لتعزيز الشفافية والثقة بين المستخدمين والجهات التنظيمية.​

على الرغم من أن تقييم Perplexity يُقدر بحوالي 9 مليارات دولار، إلا أن قيمة عمليات TikTok في الولايات المتحدة تُقدر بأكثر من 50 مليار دولار، مما أثار تساؤلات حول قدرة Perplexity على تمويل الصفقة. مع ذلك، ترى الشركة أن استحواذها على TikTok سيمكنها من دمج تقنياتها في مجال البحث والذكاء الاصطناعي مع منصة الفيديوهات القصيرة، مما يخلق تجربة مستخدم أكثر تفاعلية وموثوقية.​

لكن نظرًا للفجوة الكبيرة بين قيمة Perplexity وقيمة TikTok السوقية، لم تثمر هذه المحاولة عن صفقة فعلية، وانتهت دون تقديم عرض رسمي.

Perplexity وتطوير متصفحها الخاص

استعدادًا لأي تطورات مستقبلية، تعمل Perplexity على تطوير متصفح جديد يدعى "كوميت"، مبني على قاعدة كروميوم، لتكون لديها بديل جاهز في حال تغيرت خريطة المتصفحات. رغم قلة مواردها مقارنةً بالشركات العملاقة، عبر شيفيلينكو عن ثقته بأن Perplexity قادرة على تشغيل متصفح كروميوم بجودة عالية ومن دون فرض رسوم على المستخدمين.

كما تحدث شيفيلينكو عن التحديات التي تواجهها شركته في ظل هيمنة جوجل على صفقات التوزيع مع مصنعي الهواتف وشركات الاتصالات، وهي صفقات يرى أنها حرمت الشركات الناشئة مثل Perplexity من فرص عادلة للوصول إلى المستخدمين. وأوضح أن محاولات الشركة لإبرام اتفاقيات لتثبيت محرك بحثها كخيار افتراضي باءت بالفشل، بسبب خشية المصنعين من خسارة عوائدهم المرتبطة بجوجل.

وزارة العدل الأمريكية تتحرك

تدعم وزارة العدل الأمريكية الجهود الرامية إلى تفكيك هيمنة جوجل على سوق البحث، وتتهم الشركة باستخدام ممارسات احتكارية، ليس فقط في مجال البحث، بل أيضًا لدعم منتجاتها الأخرى مثل منصة الذكاء الاصطناعي "Gemini". وتطالب الوزارة المحكمة بإلغاء الصفقات الحصرية لجوجل مع مصنعي الهواتف، تمهيدًا لفتح المجال أمام مزيد من المنافسة العادلة.

المشهد يزداد تعقيدًا

لم تعد المنافسة على متصفح كروم محصورة بين ياهو وPerplexity فقط، بل برزت مؤخرًا احتمالات دخول OpenAI إلى السباق، ما يزيد المشهد تشابكًا.  تمتلك OpenAI موارد ضخمة ودعمًا قويًا من مايكروسوفت، قد ترى في الاستحواذ على متصفح كروم فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها، خاصة مع سعيها لدمج تقنياتها الذكية بشكل أعمق في أدوات التصفح اليومية.

من الأقرب للاستحواذ على كروم؟

 رغم ظهور منافسين جدد، لا تزال ياهو تملك أفضلية من حيث الخبرة التاريخية في مجال البحث وإدارة المحتوى الرقمي. وتبدو خطتها لامتلاك متصفح واسع الانتشار مثل كروم منطقية لتعويض سنوات من التراجع. كما يمنحها دعمها المالي عن طريق شركتها الأم "Apollo Global Management" القدرة على تمويل صفقة ضخمة، ولو أن دخول OpenAI قد يرفع تكلفة الاستحواذ إلى مستويات أعلى مما كانت تتوقعه.

Perplexity وطموح يتجاوز الإمكانيات

من جانبها، تبقى Perplexity طموحة لكنها تواجه تحديات واضحة. فبينما تعمل على تطوير متصفحها الخاص "كوميت"، تبقى قدرتها على تسيير مشروع ضخم بحجم كروم موضع شك، خاصة مع الفارق الكبير في الموارد والخبرة مقارنةً بعمالقة مثل ياهو أو OpenAI.

OpenAI... الحصان الأسود

 

إذا قررت OpenAI بالفعل السعي للاستحواذ على كروم، فستكون منافسًا خطيرًا. وقد يفتح امتلاكها لمنصة عملاقة مثل كروم أبوابًا جديدة لدمج الذكاء الاصطناعي مباشرة في تجربة التصفح، مما يخلق نظامًا بيئيًا متكاملًا بين البحث والتصفح والمساعدات الذكية. غير أن هناك مخاوف من أن يؤدي هذا إلى المزيد من المركزية في يد شركات التكنولوجيا الكبرى.

هل تتخلى جوجل عن كروم بسهولة؟

رغم كل الضغوط القضائية، لا يمكن تجاهل أن جوجل ستحاول بكل ما أوتيت من قوة الاحتفاظ بكروم. من المرجح أن تقدم تنازلات بديلة، مثل تعديل الاتفاقيات مع مصنعي الهواتف أو فصل بعض الأعمال المرتبطة بالمتصفح، دون الحاجة إلى بيع الكيان نفسه.

فمن دون أدنى شك، سيكون فقدان كروم بمثابة ضربة قاصمة لجوجل، ليس فقط على مستوى البحث، بل على مستوى منظومة الإعلانات والخدمات السحابية المرتبطة بالمتصفح. ووفقًا لموقع Statista، يحتفظ متصفح كروم بالصدارة بحصة سوقية تقارب 65%، متفوقًا بفارق كبير على أقرب منافسيه.​

ماذا ينتظر مستقبل كروم؟

مع تزايد الضغوط القضائية على جوجل، تشتعل المنافسة على امتلاك هذه الأصول يومًا بعد يوم. تبدو ياهو حتى الآن الأكثر جاهزية من حيث الموارد والخطة الواضحة. أما إذا دخلت OpenAIرسميًا في المنافسة، فقد يتغير المسار تمامًا. بينما تحذر Perplexity من تحول كروم إلى أداة احتكارية جديدة، إذا انتقل إلى يد شركة أخرى دون رقابة.

ومع ذلك، يبقى السيناريو الأرجح هو أن تحاول جوجل بشتى الطرق التوصل إلى حل وسط يحفظ لها ملكية كروم، ولو على حساب بعض التنازلات في سوق البحث.

وسط هذا المشهد المعقد، تظل هوية مالك كروم المستقبلي سؤالًا مفتوحًا قد يحدد ملامح الإنترنت في السنوات القادمة.