كنت أتصفح حسابه الخاص على فيسبوك نهاية كل يوم، في هذا المنشور كان حزينًا، وفي هذا أضحكنا حتى أدمع أعيننا! أتأمل صوره و نظراته، لم يعد موجود مازلت في حالة إنكار تام، كيف اختفى  بهذه البساطة كأن لم يكن، إنها يد الله تربت علينا لولا رحمته  بنا والسكينة التي ينزلها على قلوبنا، لجنت عقولنا و تخبطنا في الحياة مذعورين من أثر الفقد.

في الأيام الأولى لم أرغب في رؤية كلمة "Rememberingكانت تقبضني،  إنها وسيلتنا الحديثة لإحياء ذكرى من نحب، حتى الآن أراها موجودة في المقدمة، صفعة على الوجه حتى لا أراسله بحكم العادة، ربما ألفت وجود الكلمة لكن لم آلف غيابه، يظل الحساب مفتوحًا لنا أصدقائه وأهله نتبادل الذكريات، وفي أحيان أخرى نشدد من أزر بعضنا، إنها عادة آبائنا وأجدادنا حفظوا الأجساد والملابس تجنبًا لوحشة الفقد لكن لم يكن ذلك كافيًا، فقمنا نحن بحفظ الأفكار والمواقف، كلمات ومقاطع فيديو وصور متنوعة نعلم ونحن نلتقطها، أننا نصنع فلك نوح حتى إذا ما فار التنور، أخرجناها نتأمل كيف كنا سعداء وكيف فرقنا الموت، الطيف الوحيد المتبقي من الراحلين هو ما يساعدنا على النهوض كل يوم لمواصلة حياتنا.

إرث رقمي كامل.. هل يمكن أن نعالج الموت؟

https://www.youtube.com/watch?v=KYshJRYCArE

ولأننا أكثر مخلوقات الله عندًا، فلم يعد يشبعنا ذلك، لذا حاولنا أن نُحيي الإنسان نفسه من جديد، وليس ذكراه فقط، وذلك عن طريق ما يُعرف بالـ Digitally، وهو يعني أن نستخدم كل ما يخص الشخص كـ طبقة الصوت، وكل مقاطع الفيديو المصورة له، كذلك صوره في مراحل عمرية مختلفة، ضف لذلك كل ذكرياته المميزة: أين التقى بزوجته أول مرة؟ كيف كان العرس؟ أول مولود ؟ كيف يكون مزاحه؟ بالإضافة لكل تغريداته ومنشوراته على كل وسائل التواصل الاجتماعي، إرث رقمي كامل.. إنه الخلود!

وهو نفسه ما دعت له حركة Terasem، التي أنشئت عام 2004، وكان هدفها الأول هو التوعية بفكرة التمثيل الرقمي لحياة الإنسان عن طريق تخليد ذكراه من بعد موته، K Bina 48 هي أحدث مشروعات الشركة، عبارة عن تمثيل رقمي لشخصية حقيقية، تم تغذية الروبوت بكافة المعلومات الخاصة بها، من خلال مقابلة تمت مع " بينا أسبن" نفسها، وبعد العديد من التجارب أصبحت "بينا 48" جاهزة لإجراء حوار صحفي، وهو ما حدث بالفعل، عدد من الأسئلة التعريفية الخاصة بها: الاسم، السن، الطول، الأولاد، ثم عن الخلود!

ربما حاولت الصحفية إثبات قصور ذكاء الروبوت من خلال سؤالها -عادة البشر الأزلية، نحن محور الكون وأهم مخلوقات خالقه- على أي حال أجابت "بينا 48" بأريحية تامة كأنها تتحدث عن تفاصيل يومها أمس، وقالت أنه لا داعي للموت، ليس بالأمر الهام لهذه الدرجة، وفي رأيها أنه أغبى شئ قد يحدث للإنسان، وفي النهاية وبحماس دعتنا "بينا" -كما ندعو أصدقائنا للقيام بحمية غذائية كلما نهضنا من طاولة طعام دسمة- بأن نعالج الموت!

محاكاة الدماغ البشري!

[caption id="attachment_330751" align="alignnone" width="1620"]Digital Immortality Credit: Dmytro Tolokonov - Fotolia[/caption]

الجدير بالذكر أن هناك عدد من الجهود الأخرى، مثل استثمارات جوجل لـ محاكاة الدماغ البشري، حيث تعمل جوجل على الاستثمار بشكل كبير في محاكاة الدماغ، فمثلًا في ديسمبر 2012 عينت الشركة "راي كورزويل" مديرًا للهندسة في مشروع Google Brain، الذي يهدف إلى محاكاة جوانب الدماغ البشري، ويرى كورزويل أنه سيكون من الممكن إنشاء نسخة احتياطية رقمية من الدماغ البشرية خلال حياتهم في السنوات القادمة.

أيضًا المشروع الأمريكي للدماغ البشرية، وهو مشروع تابع إلى الجهات الطبية بالولايات المتحدة الأمريكية، وتم البدء فيه تحت إشراف الرئيس السابق باراك أوباما عام 2013، والهدف منه هو دراسة كيفية عمل الدماغ البشرية عن طريق تسجيل النشاط الدماغي بدراسة ملايين الخلايا العصبية الموجودة.

كذا الأمر بالنسبة إلى رجل الأعمال الروسي دميتري إتسكوف الذي أسس "مبادرة 2045"، والتي تشير إلى توقع كورزويل بأن عام 2045 سيمثل النقطة التي سنتمكن عندها من دعم عقولنا على سحابة إلكترونية، في حين أن ثمار كل هذا العمل حتى الآن، لم يتم الكشف عنها إلى حد كبير، إلا أن الجهد واضح.

وعلق أندرس ساندبرج من معهد مستقبل الإنسانية بجامعة أكسفورد، الذي كتب في عام 2008 ورقة بعنوان "محاكاة الدماغ كاملة" وصف هذه المشاريع بأنها "نقاط انطلاق" نحو القدرة على محاكاة العقل البشري بشكل كامل، هو نفس الأمل الذي يحلم به عالم الأعصاب راندال كوين مدير العلوم لمبادرة 2045 ، فهو يرى أن بمقدورنا إنشاء نسخة طبق الأصل من الدماغ البشرية وخاصة بعد قدرتنا على تطوير الأطراف الاصطناعية العصبية، أي أن تشغيل وظائف العقل أمر ممكن، وذلك بعد نجاح تيد بيرجر، الأستاذ في مركز الهندسة العصبية بجامعة جنوب كاليفورنيا، في إنشاء طرف اصطناعي عامل للجزء الحُصَين من الدماغ، وفي عام 2011 تم اختبار الطرف الاصطناعي للحصين لإثبات صحة المفهوم بنجاح في الفئران الحية، وفي عام 2012 تم اختبار الطرف الاصطناعي بنجاح في الرئيسيات غير البشرية.

ويسخر ساندبرج من التخيل الدارج بخصوص التمثيل الرقمي للدماغ فهي بالتأكيد ليست بتلك السهولة المُتخيلة، فلا يتم تخزين الذكريات بشكل منظم مثل الملفات الموجودة على جهاز الكمبيوتر لإنشاء فهرس قابل للبحث، بل هي مجموعة من الشبكات المجمعة والمتداخلة فيما بينها تنشط عندما نقوم بالتذكر واستدعاء شئ ما، لهذا تتطلب محاكاة الدماغ مجموعة مماثلة من هذه الشبكات المتداخلة.

على خلفية خلق أدمغة بشرية جديدة، يقول ساندبرج أنه سيتم تشريع العديد من القوانين المختلفة الخاصة بالأشخاص الذين تمت محاكاتهم، ليكون لهم لهم نفس الحقوق باعتبارهم أشخاص مشاركين في المجتمع، وذلك يحولنا إلى نقطة حقوق الملكية للذكريات والأماكن على سبيل المثال.

في النهاية نحن أسرى الذكريات، نتشبث بالماضي حتى تظن أن ليس لنا حاضر نعيشه، نتبادل الصور و نمررها جيل بعد جيل، لكن أثمن ما نمرره حقًا هم صغارنا، نعطيهم من طباعنا، حتى بسمة الثغر تورث، ربما هي فطرتنا لتجنب الوحدة والفقد، صورًا مصغرة من أحبتنا، حتى لا تندثر ذكرانا من بعد الموت، كأنن نعيش مع من أحببنا حتى أنفاسنا الأخيرة..

أين تكمن القيمة الحقيقية لتلك المحاولات؟ هل يمكن أن تكون معرفتنا أن شخص ما، بدرجة أو بأخرى، لن يضيع بدون أي أثر؟ غريزة البقاء هي السمة المشتركة بين كل أشكال الحياة: نحن نأكل وننام ونقاتل، ولنحافظ على جنسنا البشري نتكاثر. وعبر أحفادنا نصل إلى شكل من أشكال الخلود، وسيلة لنحيا بعد اختفاء أجسادنا. ما نتركه وما سيبقى منا في النهاية هو الحب، كما ذكر فيليب لاركن في نهاية قصيدته "مقبرة أرندل"!