"كدة رضا": هل تضعنا وسائل التواصل الاجتماعي في حالة من عدم الرضا؟
أتذكر أول هاتف ذكي حصلت عليه، ومدى سهولة حياتي بمجرد امتلاكه، في الماضي كان تصفح فيسبوك أو حتى مشاهدة فيلم يتطلب عدة إجراءات تكتيكية، أولًا القيام من الفراش مع ترتيبه، لتجنب الغضب الصباحي لأمي. ثانيًا القيام ببعض الجولات في المنزل للتأكيد على أنني لا أريد الوثوب على جهاز الكمبيوتر بمجرد استيقاظي، مزيد من الجولات بلا هدف، ثالثًا تناول الإفطار على مهل لإثبات الأمر ذاته، ثم تقديم المساعدة في أي شئ قبل الاختفاء في غرفة الكمبيوتر للأبد.
بالطبع، كان له غرفة خاصة حتى لا يكون في متناول أيدينا طوال الوقت، ها هو زر الباور، بدأ الكمبيوتر في الزمجرة، أنغام تطرب آذاني، لكن فجأة، تنقطع بدخول أمي وفصل القابس الكهربائي، يبدو أنني نسيت شئ ما في الخطة اليومية على عكس ما توقعت، للحصول على ساعتين أمام شاشة الكمبيوتر قبل أن يستيقظ العملاقة الذين لهم الأولوية والحق في الحصول على الجهاز والتفرد به لأطول فترة ممكنة لأنهم "اخواتك الكبار"، لم استغرق في التفكير كثيرًا حتى جاء صوت أمي: " صحون الإفطار من سيقوم بها؟"، لم تكن من ضمن المهام اليومية على كل حال، لكن هذا ابتزاز واضح وصريح، يجب أن أرضخ له وهو ما حدث!
أما الآن وبمجرد حصولي على هاتف خاص بي، لا داعٍ لأن أقوم من فراشي وبالتالي لا داعي لترتيبه، ولا داعٍ لأن أخرج من غرفتي من الأساس، ولا داعٍ لأن أقوم بغسل وجهي، ثم لا داعٍِ لجولات الصباح معدومة الأهداف، والإفطار متى شعرت بالجوع، أقوم بإفراغ محتويات الثلاجة في جيوبي وأدخل إلى الغرفة مرة أخرى، كان ذلك هو روتيني اليومي لمدة طويلة، رفعت رأسي الآن من انحناءته عن شاشة الهاتف، لا أجد كلمات أستطيع بها التواصل مع أسرتي، وكذا الأمر بالنسبة لهم، لم أدرك مقدار الفجوة التي خُلقت بيننا، ولم أستطع إيجاد حل مناسب أو حتى شبه مناسب، لأن الجميع قد بدأوا رحلتهم في انحناء أعناقهم على شاشات هواتفهم الذكية!
هل تضعنا وسائل التواصل الاجتماعي في حالة من عدم الرضا؟
"تعدد الاختيارات يولد عدم الرضا"..
لم يقل كاتب رفيع المستوى هذه الجملة من قبل، لأستخدمها في تدعيم وجهة نظري هنا، لهذا وضعتها بين علامات التنصيص حتى تُنسب لي فيما بعد عندما أصبح من رفيعي المستوى، على أي حال الاختيارات من حولنا كثيرة حتى في أبسط الأشياء تجد أمامك المزيد والمزيد، وعندما تتخذ قرارك النهائي تبقى في حيرة من أمرك هل ما قمت به هو الاختيار الأفضل؟ هل ستتواجد اختيارات أخرى في المستقبل تلائمني أكثر؟
عندما يقوم فيسبوك بعرض مجموعة من المنتجات التي تحدثت عن احتياجك لها مع صديق أو بحثت عنها في أحد مواقع التسوق، فإنك لا تقوم باختيار أول منتج تقابله حتى ولو كان مناسبًا لك، بل تقوم بمزيد من البحث وهو ما يعني مزيدًا من الوقت الضائع في التسوق الإلكتروني.
بالنسبة لي أجد لذة غريبة في التسوق الإلكتروني وخاصة في نهاية اليوم، أقوم بطلب العديد من "الاوردرات" التي أندم عليها في الصباح التالي، لذا وجدت حيلة ذكية لاشباع رغبتي الإستهلاكية، وهي أنني أقوم بملء عربة التسوق الإفتراضية عن أخرها، ولا أقوم بالضغط على زر الطلب أو الدفع إلا بمرور يوم بأكمله، أولًا أشبعت رغبة التسوق، ثانيًا قمت بإعادة النظر في المشتريات التي اخترتها، المرحلة الثالثة والأهم، قم بتصنيف المنتجات بين أشياء تحتاجها وأشياء تريدها، هكذا تجد أنك تقوم بشراء ما تريده بالفعل دون تفريط.
إن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي يضعنا في حالة من عدم الرضا، ربما لأن الجميع يتنافس في إبراز أثمن ممتلكاته، وأفضل لحظات يومه، وعليه يقوم عقلك المسكين لا إراديًا بالمقارنة، وهنا تكمن المشكلة، ربما يكون يومك عاديًا لم يحدث به أمر سئ على الأقل، لكنك تصبح غير راضٍ عنه فجأة، عدم الرضا عن النفس والمقارنة، كلها صفات لم تخلقها وسائل التواصل الإجتماعي، لكنها عززت وجودها بشكل كبير، لأنك أصبحت مُطلع على تفاصيل حيوات الأخرين.
ادعاء السعادة الوهمية!
كشف الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى أحدث رصد له أن حالات الطلاق خلال عام 2019 فى مصر وصلت الى نحو 237٫7 ألف حالة، بمعدل حالة كل 2٫11 دقيقة بنسبة ارتفاع قدرها 8 % عن عام 2018. وتصدرت القاهرة قائمة أعلى عشر محافظات على مستوى الجمهورية، حيث حالة طلاق كل 10 دقائق تليها الجيزة حالة كل 17 دقيقة
حيث تكشف دراسة سابقة نشرتها صحيفة ذا أوبزرفر البريطانية، عما يسمى الطلاق بالعدوى الاجتماعية، فكثرة الوجود وسط دائرة من الأصدقاء المطلقين ترفع احتمالات الطلاق بمعدل 75%، وطلاق صديق غير مباشر يرفع احتمالات الطلاق بمعدل 33% أما طلاق أحد الاشقاء فهو يجعلك أكثر عرضة للطلاق بمعدل 22%، وشبهته الدراسة بعنقود الطلاق، وجود أصدقاء من حولك يتضمن نوعًا من التشجيع على القرار فى حالة وجود خلافات زوجية بدلًا من التفكير فى حلها والسبب كما بينت الدراسة أن المطلقين يظهرون بمظهر السعداء المتخففين من المشاكل الزوجية ولا يقدمون إلا وجهًا واحدًا، ليؤكدوا به سعادتهم وتبدو النساء الأكثر تأثرا بتجارب الصديقات عندما ترى صديقتها تتمتع بقدر أكبر من الحرية والراحة خاصة فى الفترة التالية للطلاق مباشرة.
في مقابل ادعاء مجموعات المنفصلين بالسعادة على منصات التواصل الإجتماعي، على الجانب الآخر يدعي المتزوجين الأمر ذاته، وهو مايسميه معشر الرجال ب” أكل العيش”، وهكذا الكثير من المنشورات الرومانسية، حتى لا تظن صديقاتها أنها تعيسة في حياتها الزوجية لا سمح الله، كلما زاد الخلاف زاد الإدعاء طلبًا للـ validation، وبما أننا لا نقوم بحل مشاكلنا، فعندما يفيض الكيل وتشتعل الأمور نرجأ الأمر إلى حقد من حولنا، ولو فكرنا دقيقة واحدة لوجدنا أنه السبب الرئيسي وراء هذه المنشورات والصور هو لفت أنظار المحيطين بنا، ومعرفة الأشياء الرائعة التي نقوم بها، نحن في عطش لنظرات الغيظ والتمني في عيون الآخرين، إنها دائرة لا تنتهي وعنقود لا ينقطع.
النرجسية وأشياء أخرى!
عرّف قاموس كولينز كلمة نرجسية بأنها "اهتمام استثنائي أو إعجاب بالذات، لا سيما بالمظهر الجسدي"، أي أنها تعبر عن مستوى متضخم من حب الذات والاهتمام الزائد بالنفس من أجل إشباع رغبة الرضا عن الذات والمبالغة في أهميتها وقدراتها.
من وجهة نظر د. تنيسون لي، الاستشاري البريطاني المتخصص في علاج اضطراب الشخصية النرجسية، إن ثمة تسعة معايير تشخيصية للمرض كما هو منصوص عليه في الدليل التشخيصي والإحصائي الذي يستخدمه أطباء النفس والباحثون حول العالم، ولتشخيص مريض بالنرجسية، يجب أن تظهر عليه خمسة على الأقل من المعايير التالية:
- إحساس متعاظم بأهمية الذات
- خيالات بالنجاح والنفوذ
- اعتقاد بخصوصية الذات وتفردّها
- المطالبة بتلقي إعجاب مفرط
- إحساس بالاستحقاق
- الاتسام باستغلال الأشخاص
- الافتقار إلى إظهار التعاطف مع الآخرين
- الحسد
- استظهار سلوكيات واتجاهات متغطرسة متعجرفة
كلنا نعرف شخصًا ما تظهر عليه بعض تلك السمات، لكن متى يصبح الأمر اضطرابًا؟
يقول د. لي: "يصبح اضطرابًا إذا ما تكثف ظهور تلك السمات على نحو يسبب نوعًا من المعاناة أو الصعوبات للأفراد الذين يُظهرون تلك السمات أو لمن حولهم".
وعلى الجانب الأخر أمضت جين توينج، أستاذة علم النفس بجامعة سان دييغو بولاية كاليفورنيا، 15 عامًا في دراسة هذا التغير في شخصيات الشباب، وهي من المؤيدين للرأي القائل إن الجيل الحالي من الشباب أصبح أكثر أنانية وانشغال بالذات من الأجيال السابقة. ومن وجهة نظرها ترى توينج أن انشغال الشباب بذواتهم هو أحد انعكاسات تغير الاتجاهات الفكرية للمجتمع، ولا سيما صعود النزعة الفردية في العقود القليلة الأخيرة، إذ يُقال، على سبيل المثال، إن الآباء والمجتمع ككل لا يهتمون بواجبات الشباب حيال المجتمع الذي يعيشون فيه بقدر ما يهتمون بإنجازاتهم الفردية.
وثمة نظرية أخرى تفسر زيادة حب الذات بين الشباب، يطلق عليها "حركة الاعتداد بالنفس"، وتشير هذه النظرية إلى أن ضعف الثقة بالنفس هو مصدر الكثير من المشاكل التي يواجهها المجتمع، من الإدمان إلى العنف.
كما أشارت بعض الدراسات إلى أن مستويات النرجسية تحت الإكلينيكية، أو سمة الشخصية النرجسية التي يمتلكها جميع الأفراد العاديين إلى حد ما، زادت في جميع أنحاء العالم منذ السبعينيات، حيث ارتفع مستوى تقدير الذات بسرعة مهولة وفقًا للبيانات المنشورة في مجلة علم النفس العام، سجل 80 ٪ من الطلاب الأمريكيين درجات أعلى في تقدير الذات في عام 2006 مقارنة بالجيل من عام 1988، وقد وجد العلماء أيضًا أن شباب اليوم هم أكثر عرضة من كبار السن ل اضطراب الشخصية النرجسية، فهل يمكن ربط هذا الوباء المفاجئ بظهور وسائل التواصل الاجتماعي؟
بناءًا على ورقة بحثية نُشرت عام 2011 فإن المراهقين الذين يستخدمون فيسبوك في كثير من الأحيان يظهرون ميولًا نرجسية أكثر من أقرانهم، بالإضافة إلى أن زيادة استخدام فيسبوك مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالنرجسية لدى البالغين أيضًا، إذًا ما الذي يحول الشبكات الاجتماعية إلى حاضنات للأفراد الذين يتمحورون حول أنفسهم؟
السبب يكمن في طبيعتهم، كما يقول عالم النفس إريك ب. وايزر: قد تخلق الشبكات الاجتماعية أو تعزز الميول النرجسية لأنها تعمل في المقام الأول كمنصات للترويج الذاتي، ومع ذلك قد يكون العكس صحيحًا أيضًا، سيكون المزيد من النرجسيين نشيطين على وسائل التواصل الاجتماعي لأن هذه المنصات تسمح لهم بالانخراط في سلوكيات استعراضية وتسعى إلى جذب الانتباه وترويج الذات.
ولأن الشخصيات النرجسية تتغذى على إعجاب الآخرين، فإن فكرة ابداء آرائهم الذاتية العظيمة على وسائل التواصل الاجتماعي تسهل عملية إشباع ذواتهم المتضخمة من خلال علب الإعجابات أو المشاركات أو المتابعين الجدد. علاوة على ذلك، يفضل النرجسيون الاتصالات السطحية مع الآخرين، لأنهم لا يجيدون حقًا الاستماع والتعبير عن التعاطف مع غيرهم، وهذا مرة أخرى يجعل الشبكات الاجتماعية بيئة مغرية للغاية بالنسبة لهم!
قيمة الأشياء تأتي من تقديرنا لها!
أنتشر في الآونة الأخيرة مايسمى بتبسيط العلوم، الذي يهدف لجذب الجمهور العادي، وخاصة الشباب من خلال شروحات شيقة بشكل سريع، حتى أن الفيديو الواحد لا يتجاوز العشر دقائق، وعلى الرغم من وجود المصادر التي اعتمد عليها مقدم البرنامج في حلقته التي تعد قضمة صغيرة جدًا من وجبة كبيرة ودسمة، إلا أن المتلقي الحالي لا يحاول التعمق في الموضوع، بل يكتفي بعدد لا نهائي من القضمات المتنوعة، لا يعد ذلك تثقيفًا بل تسطيحًا لكل معاني الحياة، لأن هذا النهج يتم تطبيقه في كل شئ في حياتنا، فتجد أننا لا نتعمق في علاقتنا الاجتماعية، فلا نصبر على معرفة الأشخاص من حولنا بل نعتمد على حسن تسويقهم لأنفسهم من خلال الصور الشخصية، والمنشورات وغيرها، وعليه تجد الجميع يلهث وراء تطبيق معايير السوشيال ميديا، فيجب أن تكون صورتك بهذا الشكل يجب أن يكونوا متابعينك أكثر من الأشخاص الذين تتابعهم، يجب أن تؤيد هذا الرأي، وترفض ذاك، كل ذلك يحدث دون وعي منا.
من كل ما سبق نجد أن البحث عن المثالية نابع من ادعائنا لها على صفحات التواصل الإجتماعي، حتى كدنا أن نصدقها ربما صدقناها بالفعل، وبدأنا بالبحث عن شئ غير موجود، فلم يعد شركاؤنا كافيين، وأصبحنا نتجنب رؤية أجسادنا في المرأة، وبتنا نبحث عن الصديق الوفي الذي لا يمل ولا يكل من التواصل معانا طوال اليوم كأنه خلق لنا، أعمالنا أصبحت في نظرنا غير مهمة، كل شئ زهدنا فيه ، لهذا يجب أن نعي تمامًا بأن قيمة الأشياء تأتي من تقديرنا الذاتي لها، وليس بفضل تقدير من حولنا لها، ربما يقوم الأخرين بثقل آرائنا نحو الأشياء، لكن لا يجب أن تكون آرائهم هي الفيصل في حياتنا، أو هي المتحكمة في وجهتنا وخطوتنا التالية.
?xml>