نحن الآن في يوم 22 يونيو من العام 2014، يجلس جاكسون بالمر في أعلى مدرجات المشاهدين في مضمار سباق السيارات "Nascar" في كاليفورنيا.. إنه مجرد رجل أسترالي في العشرينيات من عمره، لا يملك أدنى اهتمام بسباق السيارات، ولم يتخيل أبدًا في أعتى أحلامه ضراوةً أن هذا ما سيحدث!

المهم، أنه يجلس ويستطلع المشهد أمامه.. وفي الأسفل، يجلس حشد هائل من الجماهير.. يدوي هدير غامر من محركات السيارات، وإذا به يلمح سيارة "#98 Moonrocket"، وهي سيارة سباق عالية الأداء، قد لا تختلف عن السيارات الأخرى داخل حلبة السباق، باستثناء تفصيل واحد مهم: على غطاء السيارة يوجد رسمة "كلب"، تحديدًا من الفصيلة اليابانية "شيبا اينو"، وهو الكلب الذي اشتهر بظهوره في الـ "ميم" الشهير "Doge meme" في عام 2013، وأعلى الرسمة كُتبت كلمة "دوجكوين" "DOGECOIN" بأحرف كبيرة، وأسفلها "عملة رقمية"!

عملة دوجكوين

يصف بالمر الموقف باستخدام كلمات مثل موقف "مجنون" أو "سريالي" أو "عجيب".. ويتذكر لحظة حضوره للسباق على أنها لحظة "للتأكد من الواقع"!

لم تتعد كلمة دوجكوين "Dogecoin" كونها مجرد تغريدة على تويتر، ثم تحولت لتصبح عملةً مشفرةً تساوي المال في العالم الحقيقي! وبعد مرور ستة أشهر، جلس بالمر ليشاهد "مزحة" أطلقها تتحول بطريقة ما إلى شيء ملموس وحقيقي.. عملته الافتراضية هناك تقبع على غطاء سيارة سباق حقيقية!

كل هذه السريالية ذكّرت بالمر بكيف يمكن أن يصبح العالم مجنونًا.. لكن كيف بدأت قصة عملة دوجكوين.. "النكتة" الافتراضية التي شقّت طريقها من عالم الخيال إلى عالم الواقع بمفردها؟

عملة دوجكوين.. كيف بدأ الـ "ميم"؟

عملة دوجكوين

عملة دوجكوين Dogecoin هي عملة مشفرة، وهي شكل من أشكال العملات الرقمية، تشبه عملة بيتكوين الشهيرة، وتتيح المعاملات من شخص إلى شخص مباشرة عبر شبكة لا مركزية بدون وسيط مثل البنوك، وهو تعريف العملات المشفرة عمومًا..

لكن أحد الاختلافات المهمة أو دعنا نقول إنه الاختلاف الرئيسي: عملة بيتكوين هي إثبات لمفهوم تقنية "البلوك تشين blockchain"، وهي أولى العملات الرقيمة المشفرة في هذا المجال، ويؤمن البعض أن تلك التقنية تغير العالم مع إمكانية تحويل مفهوم الأموال في القرن الحادي والعشرين. بينما على الجهة الأخرى، عملة دوجكوين Dogecoin هي عملة رقمية عليها صورة "كلب"! المشكلة أن قيمة عملة دوجكوين Dogecoin بلغت في وقت من الأوقات مليارات الدولارات، وهو أمر من الصعب فهمه!

إن كنت من سكان عالم الإنترنت خلال العقد الماضي، فبالتأكيد قد مرّ عليك "ميم" الكلب الشهير، وهو الكلب الياباني الأيقوني "شيبا اينو".. وفي خضم ذروة شعبية الـ "ميم"، بنهاية عام 2013، قام جاكسون بالمر، وهو مهندس أسترالي يعمل مع شركة أدوبي Adobe، بإطلاق "نكتة" تجمع بين اثنين من أكثر الموضوعات التي يتداولها الناس عبر الإنترنت حينها وهي العملات المشفرة و "ميم" الكلب.. لقد كانت مزحة تستهدف العالم الغريب للعملات المشفرة ومشتقات عملة بيتكوين المتعددة!

غرّد بالمر على تويتر: "الاستثمار في دوجكوين Dogecoin، متأكد أنه الحدث الأكبر القادم".. حصلت التغريدة على كثير من الاهتمام، ولهذا قرر بالمر الاستمرار والتمادي في تلك النكتة، واشترى نطاق Dogecoin.com على الشبكة، وقام بوضع صورة كلب "شيبا اينو" بالفوتوشوب على عملة معدنية.. وترك ملاحظة على الموقع: "إن كنت ترغب في جعل دوجكوين Dogecoin حقيقة واقعة، فتواصل معنا"..

https://youtu.be/te3mBlILxtM

على الجانب الآخر من العالم، قرأ بيلي ماركوس، مهندس البرمجيات في شركة IBM والمهووس بألعاب الفيديو، ملاحظة بالمر على الموقع.. وكان قد أنهى للتو مشروع "Bells"، وهو مشروع كان يعمل عليه في أوقات فراغه..

كانت "Bells" هي عملة مشفرة سُميت على اسم الأموال المستخدمة في لعبة Animal Crossing على منصة نينتندو.. كان عام 2013 هو عام الاندفاع تجاه العملات المشفرة، ورأى ماركوس أن كود بيتكوين مفتوح المصدر، لذا قرر أن يأخذ عطلة نهاية الأسبوع ويفعل شيئًا غريبًا: لقد حاول إنشاء عملة مشفرة خاصة به من أجل "السخافة" على حد تعبيره!

كانت عملة "Bells" غريبة للغاية، وكان الاختلاف الرئيسي بينها وبين العملات المشفرة العادية هو المكافآت: لقد كانت مكافآتها عشوائية تمامًا، فإذا قمت بتعدين عملة بيتكوين باستخدام جهاز كمبيوتر قوي فستكون مكافآتك منطقية في المقابل.

بينما إذا قمت بتعدين عملة "Bells" فلن يوجد أي مؤشر على ما إذا كانت المكافأة عملة واحدة أو حتى 500 منها! وهذا لأن تلك العملة لم يكن من المفترض أن تكون جادة، لقد كانت عملة رقمية تعتمد على لعبة فيديو عن حيوانات تعيش في قرية وتذهب للصيد معًا.. لكن كانت المشكلة أن مجتمع العملات المشفرة لم يفهم النكتة حقًا!

ولكن بعد ذلك قرأ ماركوس رسالة بالمر على موقع Dogecoin، وهنا قرر المشاركة في المزحة أيضًا!

وبدأ ماركوس في صنع عملة دوجكوين Dogecoin على الفور، وكما يذكر أن الأمر استغرق منه ثلاث ساعات فحسب. لقد كانت مهمته بسيطة إلى حد ما، مجرد بحث واستبدال، استبدال "بيتكوين" بكلمة "دوجكوين"..

يعترف ماركوس بأنه وجد أجزاء كثيرة من شفرة برمجة بيتكوين غير مفهومة تمامًا، لكنه كان يعرف ما يكفي لتغيير بعض العناصر الأساسية لـعملة دوجكوين Dogecoin، على سبيل المثال، حدد ماركوس عدد العملات بـ 100 مليار، بينما توجد 21 مليون عملة بيتكوين فقط، وجعل عملة دوجكوين أسهل كثيرًا في عملية التعدين، إذ اقترب انتهاء تعدين العملة بالفعل، بينما سينتهي تعدين عملة بيتكوين في عام 2140..

وقام بتغيير الخط، وغيّر كلمة "تعدين - Mine" إلى "حفر - Dig"، لأن الكلاب لا تعدّن لكنها تحفر! ثم وأثناء استراحة الغداء، قام ماركوس بتفعيل ونشر عملة دوجكوين Dogecoin على الشبكة..

اقرأ أيضًا: “تفيد بإيه يا ندم” في عدم شرائك لعملة بتكوين؟

عملة دوجكوين.. انطلاق الـ "ميم" بالقصور الذاتي!

عملة دوجكوين

عملية الاستعداد للتعدين "Premining" وهي عملية جمع العملة المشفرة قبل إطلاق عملتك إلى المجال العام، أي شخص جاد في إطلاق عملة مشفرة يقوم بتلك العملية أولًا.. لكن ماركوس وبالمر لم يقوما بجمع أو إعداد أي عملة دوجكوين، ببساطة لأنهم لم يفترضا الجدية في إطلاق عملة مشفرة من الأساس!

وكما يذكر بالمر بأنهما اعتقدا أن هذه مجرد "نكتة كبيرة" وسوف تموت وتنتهي مع مرور الزمن، حتى أن بالمر نفسه لم يكن يعرف كيفية تعدين العملات المشفرة أصلًا!

كان ماركوس يمتلك جهاز كمبيوتر ألعاب قوي نسبيًا، مع بطاقتي رسومات، لذا كان رسميًا أول شخص يقوم بتعدين عملة دوجكوين Dogecoin.. ولكن نظرًا لطبيعة عملية التعدين التي تزداد صعوبة مع استمرار تعدين العملة لم يعد جهازه الشخصي قويًا بما يكفي للاستمرار بعد نحو مرور خمس دقائق.. لذا قسّم ماركوس ما قد قام بتعدينه بالتساوي مع بالمر وكان هذا كل شيء.. وهذا كل ما امتلكه أي منهما من عملة دوجكوين!

بينما في دوائر ومجتمعات العملات المشفرة عبر شبكة الإنترنت، اشتهرت عملة دوجكوين Dogecoin سريعًا.. مواضيع المنتديات تتحرك بسرعة، وتردد صدى الاسم في مختلف أنحاء زوايا الإنترنت المظلمة!

لكن من المؤكد أن منتديات موقع "ريديت Reddit" كانت المحرك الرئيسي في صعود عملة دوجكوين Dogecoin السريع إلى نجومية العملات المشفرة.. انفجر المنتدى الفرعي Dogecoin على الفور تقريبًا، ومع هذا الانفجار جاءت البنية التحتية التي تحتاجها أي عملة مشفرة إن كانت تنوي النجاح: مجمعات وخدمات التعدين..

بدأت العملة الرقمية في التحرك بالقصور الذاتي، وفي غضون دقائق كانت خارجة عن سيطرة من صنعوا الـ "ميم".. كان الأشخاص يرسلون عملات دوجكوين Dogecoin بينهم كتسلية لم تكلف سوى القليل جدًا من المال في العالم الواقعي.. وكما يذكر ماركوس: "في ذلك الوقت، لم تكن العملة تساوي شيئًا، ولكن الحصول على خمسة منها كان أفضل من الحصول على سنتان"..

كان مستخدمو موقع ريديت يشاركون عملة دوجكوين باستمرار، مما أدى إلى توسيع قاعدة مستخدميها، ونتيجة لذلك زاد من قيمتها كعملة مشفرة.. وكما يذكر بالمر: "تقريبًا كل من استخدم ريديت كان يملك عملة دوجكوين Dogecoin. أعتقد أن هذا كان مفتاح نجاحها"!

الـ "نكتة" التي لم تعد كذلك!

عملة دوجكوين

إنها في كل مكان للأسف هذه الأيام.. كل الـ "نكات" التي لم تعد كذلك.. إلى درجة أن الأسطورة الحقيقية هي أن تحكى عن "نكتة" ظلت كذلك..

في إحدى ليالي شهر يناير عام 2014، جلس بالمر ومجتمع عملة دوجكوين Dogecoin ليفكروا في إحدى الأفكار السخيفة، لكنها كانت رائعة للغاية.. للمرة الأولى منذ عقد من الزمن، يتأهل منتخب جامايكا للتزلج لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية، لكن المشكلة أنه لم يملك ما يكفي من المال لحضور البطولة، وهنا قرر بالمر والأصدقاء فعل شيء مميز..

لذا كتبوا موضوعًا على منتدى Dogecoin على ريديت وطلبوا التبرعات من الأعضاء، وفي غضون عدّة ساعات جمعوا نحو 26 مليون من عملة دوجكوين وهو ما يساوي 25 ألف دولار، وأرسلوها للفريق الجامايكي لمساعدتهم على المشاركة في البطولة.. لقد كانت لفتة إنسانية مميزة لما حاولت أن تمثله هذه العملة منذ البداية!

على حد تعبير ماركوس كان لديه حساسية من كلمة "استثمار"، إذ تبرع الاثنان بكل ما لديهما من عملة دوجكوين Dogecoin لهذه المبادرات الخيرية الضخمة، وساعدوا في بناء آبار المياه في كينيا وجمعوا الأموال للمساعدة في تدريب الكلاب التي ترافق الأطفال المصابين بالتوحد.. كما يوضح بالمر: "أردنا صُنع شيء يمثل قوة للخير"..

ولكن مع نمو مجتمع العملة، كان من الصعب الحفاظ على تلك الروح الأولى التي تبنتها العملة، إذ بدأ اهتمام الناس يزداد بسعر عملة دوجكوين، وبدأوا الاستثمار فيها بالمعنى الحرفي والمجازي.. وهذا ما أصاب ماركوس بالرعب، إذ يقول: "لا أمانع إن أنفق شخص ما عشرة دولارات وحصل على بعض من العملة، فهو مثل شراء تذكرة فيلم أو شيء ما. ولكن عندما يضع شخص ما 20 ألف دولار هذا يزعجني حقًا"..

بدأ ماركوس في الاشتباك مع أفراد مجتمع العملة الرقمية، فبالنسبة له كانت لا تزال عملة دوجكوين عملة مشفرة "للسخافة"، ولكن داخل المجتمع كانت تتضخم إلى عملة يتداولها الناس مقابل أموال حقيقية.. فمن وجهة نظره، كانت عملة دوجكوين شيئًا سخيفًا يجب أن يظل سخيفًا.. لكن داخل مجتمع العملات المشفرة اختلف كثير معه في هذه النظرة.. وفي النهاية قرر أن يكتفي بهذا القدر وأن يتخلى عن تلك العملة!

ومثل ماركوس، قرر بالمر أن يترك العملة التي كانت مجرد "نكتة" أطلقها على تويتر.. إذ يذكر: "العملة المشفرة هي حل لمشكلة ما، لكن ما المشكلة التي تحلها عملة دوجكوين؟"..

ويؤكد: "لا أعتقد أنها تحل أي شيء، فربما يمكن اعتبارها كأداة تعليمية. إنها مجرد تذكير بأننا لا يمكننا التعامل مع هذه الأشياء على محمل الجد. آمل أن يرى الناس عملة دوجكوين ويقولون لن أضع كل أموالي في هذا. لأنه حالياً يوجد كلب على عملة معدنية وتبلغ قيمتها مليارات الدولارات"!

على مدار السنوات القليلة الماضية، تحولت عملة دوجكوين Dogecoin إلى نوعًا من الصور الرمزية للعملات المشفرة لثقافة الـ "ميم"، الثقافة التي تغذيها المجتمعات المختلفة عبر الإنترنت وتدعمها شخصيات شهيرة مثل إيلون ماسك. ومع ازدياد تأثير هذه الثقافة حاليًا، ارتفعت قيمة العملة، واكتسبت حياتها الخاصة بها بعيدًا عن مؤسسيها الأوائل.. لتتحول إلى "نكتة" لم تعد كذلك!