في سبيل ادراك أشمل للحاسوب (الجزء 1) : البداية
هذه بداية سلسلة من المقالات التي سأتناول فيها كل شئ عن الحاسوب (باذن الله) ، فكرة عمله ،بداية نشأته ، تدرج تطوره ، العوامل التي بدّلت من مسار هذا التطور ، وكيف تغير الحاسوب الي شئ مختلف تماما عن ما اعتقده الحالمون الأولون . والبداية ، -كما عودناكم- بسيطة للغاية ، مثلها مثل بداية أي اختراع أو ابتكار أنتجته قريحة العقول البشرية المفكّرة.
نشأ الحاسوب تدريجيا ، واعتمد علي حاجة البشر أكثر مما اعتمد علي رغبتهم في ابتكار عقل مفكر ، والقاعدة القديمة لا تزال تثبت صحتها حتي مع الحاسوب ، فالحاجة حقا هي أم الاختراع ،فاذا فرغنا من ترسيخ نمطية بداية الحاسوب ،يصبح بامكاننا أن نخطو نحو مفهوم أفضل لهذه البداية ، نحو ادراك أشمل للحاسوب.
1-نمطيّة بداية الحاسوب :
سوف نختصر من البداية الكثير ، بل سوف نبتعد تماما عن البداية الحقيقة ، ونستبدلها ببداية وهمية ، تتفق معها في المبدأ ، وتختلف عنها في ترتيب الوقائع ، فنحن لا نحتاج لدرس طويل في التاريخ ، و لن يخدمنا هذا في شئ ، ما نحتاجه حقا هو لبّ القصة ، حقيقي كان أم افتراضي.
سنبدأ بمجموعة من الافتراضات ، افتراضات تحمل جزءا من الحقيقة ، لكنها لا تمثّلها كلّها ،تعالوا نفترض وجود أبسط سمّاعة صوت Speaker في التاريخ ، سماعة عادية تبلغ من بساطتها وقلة تعقيدها أن بامكان طفل صغير أن يصنعها في منزله ،كل ما سوف يحتاجه هذا الطفل الصغير هو غشاء رقيق مشدود من الجلد ، مثبت في اسفله ملف من الحديد ، و مغناطيسا كهربيا ،سيقوم هذا الطفل بتوصيل الأجزاء الثلاثة مع بعضهم ، ليحصل علي أبسط سماعة كهربية في التاريخ .فكرة عمل هذه السماعة بسيطة للغاية أيضا ، فالصوت هو مجرد موجة اهتزازية منتظمة ، تسري في الهواء أو في الماء أو حتي الخشب ، وتسبب اهتزاز ذرات هذه المواد بشكل متناسق منتظم .
فالصوت الخارج من فم الاسنان ما هو الا هواء يهتز بطريقة معينة ، وتقوم عضلات الحنجرة بهزّ هذا الهواء كيفما يشاء الشخص ، ليخرج من فمه الصوت الذي يريده ،ولهذا السبب لا يمكن للصوت أن ينتقل في الفراغ أو الفضاء الخارجي ، لأن الفراغ لا يحوي هواء أو ماء أو أي مادة قابلة للاهتزاز ، وبهذا يتنفي شرط حدوث الصوت من الأساس ،اذن كل ما يحتاجه المرء ليقوم بتوليد الصوت هو مادة قابلة للاهتزاز ، و شئ يولد الاهتزاز ،وحيث أننا نعيش علي الأرض بالفعل ،و يحيط بنا الهواء من كل اتجاه ، فان الشرط الأول يتحقق بدون جهد منا ، ويتبقي الشرط الثاني بالطبع .
ولقد خلق الله الحنجرة في الانسان بحيث تحقق هذا الشرط بدقة شديدة ، فالحنجرة بها من العضلات ما يستطيع توليد مجال كبير من الاهتزازت ، وبسهولة وتحكم كاملين من المخ البشري ،لكن الانسان لا يكتفي بقدراته الفطرية ، وانما يسعي لزيادتها فوق حدودها الطبيعية عن طريق الآلة ، وهذا سبب ابتكاره للسماعة بالطبع،ولكي تحقق السماعة الشرط الثاني لتوليد الصوت ، فيجب أن تحتوي علي ما يماثل عضلات الحنجرة .. شئ ما يهتز ، وينقل تلك الاهتزازات الي الهواء ، فيتولد الصوت .
وهنا نعرف فائدة غشاء الجلد المشدود في سماعتنا البسيطة ، فهو يخدم غرض توليد الاهتزازات جيدا ، فالجلد المشدود يهتز بسهولة اذا تعرض لضغط مباشر ،ما يتبقي الآن هو الآليه التي ستحرك هذا الغشاء ، وهو ما سيقوم به المغناطيس الكهربي وقطعة الحديد بكفاءة تامة ،ودون الدخول في تفاصيل فنية لن تفيدنا كثيرا هنا ، يكفينا أن نقول أن التيار الكهربي يمر في الملف ، فيسبب انجذاب ثم تنافر لحظي بين الملف والمغناطيس ، وعندما يحدث ذلك ، فان قطعة الجلد تهتز ، مؤثرة علي ذرات الهواء حولها ، والتي تهتز بطريقة مماثلة مولدة صوتا ،بالطبع اذا لم يمر التيار الكهربي ، لن تهتز قطعة الجلد ، ولن يصدر الصوت .
التيار يمرّ ، فيؤثر علي المغناطيس والملف فتهتز قطعة الجلد ذهابا وايابا .
مرور التيار يعني اهتزاز الجلد وحدوث الصوت ، وعدم مروره يعني عدم حدوث أي من ذلك .
ثم تعالوا نفترض ان الصوت الخارج من هذه السماعة هو صوت واحد فقط ، وهو : بوم ، كأنه صوت قرع الطبول،بمجرد مرور التيار في الملف ، تهتز قطعة الجلد ويخرج منها صوت بوم ،بالطبع لا توجد فائدة كبيرة من مثل هذا الصوت ، فهو مجرد نغمة واحدة ثابتة ، لكن هذا لا يعني أنه عديم القيمة بشكل مطلق ، فحتي من نغمة واحدة ، يمكن أن يتولد لحن متناسق ،بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم ،ثلاثة نغمات ثم وقفة ، ثم نغمة واحدة ثم وقفة ثم ثلاثة نغمات ثم نغمة ثم ثلاثة ثم نغمة وهكذا ،بالطبع ليس هذا بأجمل ولا أكثر الألحان تأثيرا ، لكنه لحن منتظم بلا شك ، ويمكننا ايجاد عدة استخدامات موحية له ببعض من التنازلات وتفتيح الذهن.
بالطبع لا زلنا نتذكر أن مرور التيار في السماعة يسبب صدور صوت بوم ، وعلي هذا فلكي نحصل علي اللحن السابق ، فان التيار سيحتاج الي المرور ثلاثة مرات متتالية ، ثم يتوقف تماما ، وبهذا نحصل علي المقطع الأول من اللحن : " بوم بوم بوم" ثم يمر مرة ، ثم يتوقف لنحصل علي المقطع الثاني " بوم"، ثم يمر ثلاثة مرات ..ثم وقفة ، ثم مرة ، ثم وقفة ، ثم ثلاثا وهكذا ..
بوم بوم بوم صم ت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صم ت بوم بوم بوم صمت بوم صم ت بوم بوم بوم
تيار 3 مرّات //وقفة تيار وقفة/ تيار 3 مرّات وقفة /تيار //وقفة تيار 3 مرّات /وقفة تيار و/قفة/ تيار 3 مرّات
الأمر يبدو وكأن التيار الكهربي يعزف لحنا مماثلا ولكنه خفيّ أيضا ، وهذا ليس بغريب ، فالسماعة تحول بالفعل كل نبضة كهربية الي صوت أو نغمة ، كما تستغل عدم مرور التيار لتحصل علي وقفة ، والألحان في نهاية الأمر هي تجمع منتظم من النغمات والوقفات.
ثم تعالوا نفعل شيئا مختلفا ، تعالوا نرمز الي لحظة مرور التيار بالرمز "1" أو واحد ، والي لحظة عدم مرور التيار بالرمز "0" أو صفر .
بوم بوم بوم صمت بوم صم ت بوم بوم بوم صم ت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم
1//1 //1 //0 ///1 //0 ///1//1 //1 //0 ///1 //0 ///1//1 //1 //0 ///1 //0 //1/ 1 /1
الأمر لا يزال بسيطا للغاية ، فكل ما فعلناه هو الترميز ، والترميز يفيد في الاختصار ، والاختصار يفيد في سهولة ترتيب المعلومات ، وخصوصا اذا كانت كثيرة الكميّة ،الآن يمكننا أن نقول أن الأرقام (الواح والصفر) تعزف ألحانا خفية أيضا ، وهذا منطقي لأن السماعة مبرمجة ، أو مصصمة بحيث تولد النغمة عند الرقم واحد ، و تتوقف عند الرقم صفر.
الآن دعونا نفترض أنني شخصيا قد أعجبت بهذا اللحن لدرجة الانبهار ، وأنني أود الاستماع اليه مرات ومرات عديدة دون كلل أو ملل ،بالطبع هذا يدفعنا للكلام عن انعدام تذوقي للألحان ، وعن خلل في حاسة السمع لا شك فيه ، لكننا سنترك هذه النقطة لمقال آخر لكثرة مشاغلي في الوقت الحالي ،أقول ان مشاغلي كثيرة جدا ، والوقت لدي ضيق ، ولهذا لا أملك ترف الامساك بمجموعة من الأسلاك التي يسري فيها تيار كهربي ثم توصيلها بالسماعة ثلاثة مرات متتالية ، ثم مرة ، ثم ثلاثا ، ثم مرة ، الي آخر هذا العمل الممل.
ما أريده هو أن تقوم السماعة بعزف هذا اللحن بشكل تلقائي ، ودون أدني تدخل مني ، والعمل الوحيد الذي سأقوم به ، هو الاسترخاء التام علي أريكة مريحة ، والاستماع الي ذوقي الفاسد في الألحان مرة ومرتين و ثلاثة ،بالتأكيد سأسمع منكم عدة ضحكات ساخرة ، مع بعض عبارات تهكميّة علي شاكلة : "يا له من كسول" ، أو "جعل الصخور تتكلم أسهل" أو "انه أكثر كسلا من حيوان الكوالا" وبالطبع "ما هو حيوان الكوالا(*) ؟" .
لا أدري ما الذي يعيب في رغبتي البريئة تلك ، لكنني أؤكد لكم أنها ممكنة ، وبجهد قليل أيضا،كل ما سأفعله هو أن أستخدم مادة ما تستطيع تخزين التيار الكهربي في ترتيب وتتابع ، ثم أستخدم هذه المادة كمصدر للتيار الكهربي الداخل الي السماعة ، وبالتالي كمصدر للصوت،وللمزيد من التوضيح ، سوف أفترض أن تلك المادة هي مادة "الفنكوش" أو أية مادة أخري ، وفي الواقع فلن يهمني اسم المادة كثيرا ، يكفي تماما أنها تخدم غرض تخزين التيار الكهربي .
سوف أصنع شريطا طويلا من هذه المادة ، مثل هذا الشريط مثلا : شريط الفنكوش
ثم سأقوم بتقسيم هذا الشريط الي عدة أقسام ، أو خلايا ، بحيث تستطيع كل خلية واحدة تخزين شحنة كهربية واحدة فقط
شريط الفنكوش مقسّم الي خلايا منتظمة ، كل خلية تخزن اما واحد أو صفر.
الآن سأقوم بطباعة الشحنات الكهربية (الواحدات والأصفار) التي تمثّل اللحن الذي أبهرني ، علي هذا الشريط ، كل شحنة (1) في خلية كما ذكرنا :
تمت طباعة اللحن على الشريط،بالطبع سوف اترك بعض الخلايا خالية تماما من الشحنات،لتمثل عدم مرور التيار(0) او الصفر كما اتنفقنا
وفي النهاية ، سأقوم بتصميم آلية قراءة ، تستقبل الشريط ، وتقرأه خلية خلية بسرعة معينة ، عندما تقرأ تلك الآلية رقم واحد (أو شحنة ) ، فانها توصلها الي السماعة لتهتز وتصدر صوتا ، وعندما تقرأ الآلية رقم صفر (او عدم وجود الشحنة) ، فانها لا تفعل شيئا ، وبالتالي لا توصل تيارا الي السماعة ، وبالتالي لا يصدر أي صوت.
ستقرأ الآلية رقم واحد في أول خلية ، ويترجم هذا الي صوت بوم ،ستقرأ الآلية رقم واحد في ثاني خلية ، ويترجم هذا الي صوت بوم أيضا ،ستقرا الآلية رقم واحد في ثالث خلية ، ويترجم هذا الي صوت بوم كذلك ،ثم ستقرأ الآلية رقم صفر في رابع خلية ويترجم ذلك الي وقفة ، أو عدم صدور صوت ،وبهذه الطريقة حصلنا علي أول مقطع في لحني البديع : بوم بوم بوم ، ثم يتكرر ذلك بالطريقة نفسها للحصول علي باقي المقاطع !
أرأيتم ؟! قمة البساطة حقيقة .. وها أنذا أستلقي علي أريكتي أستمع دون كلل الي لحني المفضل وهو يعزف نفسه بنفسه دون أدني تدخل من جانبي ، غير عابئ باستغراب الحاقدين ، أو مصمصة أفواه اصحاب الذوق الرفيع في الموسيقي .
بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم
لكن يبدو أن غريز الانسان صعبة الارضاء دائما ، فبعد 90 ساعة من الاستماع المتواصل لنفس اللحن ، قررت أنه قد أصبح مملا ، وأن الأوان قد حان لتغييره بواحد آخر ،لكنني كسول بطبعي ، ولا أريد أن أورّط نفسي في مأزق محاولة تأليف لحن آخر ، أو في عملية تسجيل المقطع الجديد علي شريط "الفنكوش" مرة أخري ، كما أنني توّاق الي ذكريات الماضي ، ولا أحب أن يضيع لحني القديم في نهر الزمن ، بل أحب ان أحتفظ به لعلّي احن اليه في وقت لاحق ،ما أحتاجه اذن هو لحن جديد .. لكن دون أن أؤلف نغمة جديدة بنفسي ، و دون أن أعيد الطباعة علي شريط الفنكوش ، ودون أن يضيع اللحن القديم !
انها حقا لمعضلة عويصة ، لكن "لا مستحيل تحت الشمس" ، ولكل معضلة حل بالتأكيد وبداية حل أي معضلة هو سرد العقبات التي تمنع ال حل ، هكذا :
1-العقبة الأولي : ممنوع محاولة تأليف نغمة جديدة ، لأنها عغملية مرهقة ، وأنا كسول ، أو أكثر كسلا من الكوالا كما يقولون ، دعك من أنني ببساطة لا أملك هذه الموهبة ، والدليل هو ذوقي الرفيع في الموسيقي !
حل هذه العقبة ، هو أن أسمح لشخص آخر غيري بأن يؤلف لحنا جديدا ، وحيث أنه لا يوجد سواي أنا والسماعة في هذه القصة ، فالشخص الآخر لن يكون سوي السماعة !! ، لكن كيف ؟
2-العقبة الثانية : ممنوع استخدام شريط فنكوش جديد ، يجب استخدام نفس الشريط القديم ، وذلك لنفس السبب السابق ، كسلي عن عملية الطباعة ، دعك من أنني بخيل بطبعي ، ولن أضيّع الأموال علي أشرطة من "الفنكوش" ! ماذا تظنونني ؟ أبلها ؟
حل هذه العقبة هو أن أدع السماعة تطبع بنفسها علي الشريط القديم ، دون تدخل مني أيضا ، أي أنها ستؤلف وتطبع وتغني كذلك!
3-العقبة الثالثة والأخيرة : ممنوع اعادة الطباعة علي الشريط القديم !!
هذه العقبة تنسف حل العقبة رقم 2 ، فلن يمكنني ان اسمح للسمّاعة بأن تكتب اللحن الجديد علي الشريط القديم أبدا !، وبمعني أدق لن يمكنني استخدام أية اشرطة علي الاطلاق لا جديدة ولا قديمة ، لذا يجب علي السماعة ان تؤلف وتغني دون المرور بعملية الطباعة .
بالطبع من الواضح انني أدور في دائرة مفرغة ، وأنني أفرض من القواعد ما يزيد من تعقيد المشكلة ، لكنني انسان معقّد بطبعي ، وفرض القواعد هو متعتي في الحياة ، فأنا أشرب الماء بقواعد ، وأكل بقواعد ، كما أجلس "بالقواعد" ، و أنظر الي الأرض بقواعد ، وأحك أذني بقواعد ، فلا تطلبوا مني من فضلكم أن أغير من طباعي ..
المطلوب الآن ،هو أن أعطي للسماعة القدرة علي تأليف نغمات جديدة ، ولا يخفي علي أحد صعوبة هذه المهمة ، فالسماعة بالكاد تقرأ النغمات المسجلة ، فما بالك بالقدرة علي التأليف ،والتأليف لمن لا يعرف هو عملية تعتمد علي وجود خبرات سابقة ، فالكاتب يؤلف رواية ما بناء علي خبرات و مواقف مرّ بها في حياته ، أو سمع عنها ، أو رآها تحدث لغيره ، وكذا الأمر مع الشعر و مع الألحان ومع الرسم والنحت و مع كل ما يمكن تأليفه وابتكاره ، فالانسان المبتكر يخلط خبراته السابقة والحالية في مزيج جديد ، مزيج فريد لشخصه هو فقط .
اذن فالمطلوب هو تدريب السمّاعة المسكينة علي التأليف ، ولن يحدث ذلك الا باعطاءها "خبرة" أو تجربة تتعلّم منها ،وفي قصتنا هذه ، فالخبرة الوحيدة التي مرت علي سماعتنا هو اللحن المشئوم الذي أحبّه .. المعذرة ، أقصد الذي كنت أحبه ، وهو :
بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم صمت بوم صمت بوم بوم بوم
يجب علي السماعة الآن أن تستفيد من هذه الخبرة الوحيدة في تأليف لحن جديد ، لكن كيف؟،لا داعي للقلق ، فالكيفية هذه المرة تافهة للغاية ، فقط سنحتاج أن نتذكر أن اللحن ما هو الا تتابعات من الواحد والصفر ، أو من سريان التيار وتوقفه ،اذن كل ما علي السماعة أن تفعله هو تغيير هذه التتابعات بتتابعات جديدة ، ليتكون لحن جديد.
المقطع الأول من لحني المفضل هو : بوم بوم بوم صمت 1//1 //1 //0
اذا تم تغيير التتابع 0111 ، الي 0101 ، نحصل علي مقطع جديد بنغمة جديدة :
بوم صمت بوم صمت
1/////0////1 ///0 //
يمكن أيضا تغيير التتابع من 0111 الي 1011 ، لنحصل علي هذا المقطع :
بوم بوم صمت بوم
1////1 ///0 ///1
باختصار ، يمكن للسماعة "نظريا" تغيير هذا المقطع الي أي مقطع جديد ، معتمدة في ذلك علي التلاعب بترتيب الشحنات ، أو الواحد والصفر ، أو بمعني آخر ، توصيل التيار الكهربي وتوقيفه ، وألجمل أن كل هذا يمكن أن يتم دون التعديل علي "شريط الفنكوش" .
هذا كلام جميل جدا ، فالآن أصبح أمامنا هدف واضح ، تحويل الكلام "النظري" الي تطبيق "عملي" ،ويتأتّي ذلك بتصميم آليّة معينة ، تستقبل الشحنات ، ثم تتلاعب بها ، وتغيّر قيمتها ، لينتج اللحن الجديد ،بداية ، هل تصميم هذه الآلية ممكن ؟ بالطبع ممكن ، وسل عن هذا أي مهندس الكترونيات ، سيقول لك أن التلاعب بالدوائر الكهربية والمقاومات والمكثّفات ، والأسلاك يمكن أن ينتج عنه دائرة كهربية معقدة ، تغيّر الواحد الي صفر ، أو تغير الصفر الي واحد .
تغيير الواحد الي صفر هو أمر هيّن ، فالآليّة ستعمل علي منع وصول الواحد الي السماعة ببساطة شديدة ، أي تحجب وصول التيار ،تغيير الصفر الي واحد أمر هيّن أيضا ، فالآلية ستحتوي علي شحنة زائدة دائما ، وعندما تستقبل صفرا (أي لا تستقبل شيئا) فانها تسمح بخروج هذه الشحنة الزائدة الي السمّاعة ، أي توّصل التيار اليها ، أي تحول الصفر الي واحد ،سنسمي هذه الآلية "بالمؤلف" لأنها تستطيع تأليف نغمات جديدة بنجاح .
الآن صممنا الآلية وسمّيناها كذلك ، بقي فقط مكان وضعها ، وأفضل مكان لوضعها هو داخل السماعة بالطبع !! ، احم .. معذرة لم أعني ذلك ، ما عنيته هو أي الأماكن هو الأنسب لوضع الآلية داخل السمّاعة ؟ دعونا نفكر قليلا ، الآلية أو "المؤلف" يحتاج لاستقبال الواحد والصفر من شريط الفنكوش ، ثم توصيله الي السماعة نفسها (المغناطيس ورقعة الجلد) .
أي أن المؤلف يجب أن يتواجد بعد آلية القراءة ، حتّي يتاح له استقبال الشحنات بعد أن تقرأها آلية القراءة ، فيقوم بتعديلها ثم يرسلها الي السمّاعة ،اذا وضعت "المؤّلف" قبل آلية القراءة ، فلن يستطيع قراءة شريط الفنكوش ، لأنه مجرد دوائر كهربية ، واذا وضعته قبل شريط الفتكوش فلن يفعل شيئا ، لأنه يعتمد في عمله علي شحنات شريط الفنكوش ،اذن فأنسب مكان له هو بعد آلية القراءة بالفعل .
موقع "المؤلف" بين آلية القراءة ، و عتاد السماعة .
ليس هذا فحسب ، بل أن بامكاني الآن أن أوصل "المؤلف" بمفتاح خارجي بغرض تعطيله و تفعيله حسب الحاجة اليه،ويمكنني توسيع هذه الفكرة أكثر وأكثر ، بتحديد مجال عمل "المؤلف" ، فبدلا من أن يقوم بعمله علي طول شريط "الفنكوش" ، مغيرا كل الشحنات فيه ، سأقوم بتعيين مواقع معينة من الشريط ليطبّق عليها التغيير ،فيمكن للمؤلف الآن أن يؤدي وظيفته علي الأعداد الفردية من الخلايا ، مثل الخلية رقم 1 ، ورقم 3 ورقم 5 ..وهكذا ..
"المؤلف" يعمل فقط علي الخلايا الفردية : 1 و 3 و 5 و 7 ..الخ ..
أو يمكن أن يؤدي وظيفته علي الخلايا الزوجية ، مثل الخلية رقم 2 ورقم 4 ورقم 6 وهكذا ..
"المؤلف" يعمل فقط علي الخلايا الزوجيّة : 2 و 4 و 6 و 8 ..الخ ..
باختصار يمكن ضبط هذا "المؤلف" علي أي مكان في شريط الفنكوش ، ويتيح هذا احتملات لا نهائية لقدرته علي تغيير الشحنات ، وبالتالي احتمالات لا نهائية للتأليف،
وها أتذا أضبط "المؤلف" كيفما أريد ، لأستمع الي الجديد من الألحان ، دون أن أبذل أي مجهود يذكر !
2-بعيدا عن الهراء !! :
بعيدا عن هرائي الشخصي ، وعن كسلي ، وعن بخلي وعن تعقيد تفكيري ، حان الوقت الآن لأوضح فائدة كل هذا،في البداية اخترع الانسان الأجهزة التناظرية ، مثل السماعة أو الشاشة، وهي أجهزة تتفاعل مع الطبيعة بشكل مباشر ، لهذا سميّت تناظرية ، فهي تهز ذرات الهواء لتخرج الصوت ، أو تشع ضوءا لتكوّن الصورة،ثم احتاج الانسان الي تكرار ما يعرضه علي هذه الأجهزة ، احتاج الي تخزين أصوات أو صور معينة ، لهذا اضطر الي اختراع الذاكرة ، وهذه ليست الا "شريط الفنكوش" في مثالنا السابق ، ويقابلها في الحقيقة كل شئ ، منذ اسطوانة "الجرامافون" الي شريط التسجيل "كاسيت" ، الي الأقراص الضوئية DVD ، الي القرص الصلب Hard Disk و الذاكرة العشوائية RAM والذاكرة المخبأة Cache.
هذه الذواكر لا تخزن بيانات بمعني معلومات و وعلوم ، ولكنها تخزن تعليمات للأجهزة التناظرية لتعمل بطريقة معينة ، فكما رأينا في مثالنا السابق ، فشريط "الفنكوش" لم يفعل شيئا سوي تخزين تتابعات الاهتزازات للسماعة ، وعلي آلية القراءة تلقين هذه التتابعات الي السماعة ،ثم احتاج الانسان الي تعديل هذه "البيانات" لاشتقاق بيانات جديدة منها ، لذا اضطر الي اختراع المعالجات Processors ، وهذه ليست الا "المؤلف" في مثالنا السابق ، فالمعالجات لا تفعل شيئا سوي تغيير قيم الشحنات أو "البيانات" في الذواكر ، وتوليد بيانات جديدة منها ، مثلما يعمل "المؤلف" تماما .
تمكن الانسان أيضا من "برمجة" هذه المعالجات ، أي تحديد كيفية عملها ، أي تحديد ما ستقوم بتغييره وما ستقوم بتركه ، وهذا هو ما فعلناه مع "المؤلف" أيضا ، حيث قمنا بتعديله أو قل "برمجته " اذا شئت ، ليعمل علي خلايا محددة فقط من شريط "الفنكوش" بدلا من كل الخلايا ،هكذا نشأ الحاسوب ، خطوة بخطوة ، وحسب حاجة الانسان ، وتطور ليصبح محركا لكل انجازات التقدم والحضارة في العصر الحديث ،وأخيرا أكرر " فاذا فرغنا من ترسيخ نمطية بداية الحاسوب ،يصبح بامكاننا أن نخطو نحو مفهوم أفضل لهذه البداية ، نحو ادراك أشمل للحاسوب".