وداعا للنانومتر، الشكل الآن هو المحدد الرئيسي لأداء المعالجات!
أغلب المتابعين للشأن التقني يظن ان زيادة الاداء والقدرة الحوسبية تأتي من عمليات التصنيع والتصغير Manufacturing Process بالنانومتر nanometer التي تتم علي المعالجات .. مثل 16 نانو (16nm) و 7 نانو (7nm) ..الخ، لكن الواقع ان هذا لم يعد حقيقيا منذ مدة طويلة. وقد يبدو ما سنشرحه صادما الان، لكن الحاصل ان المحدد الرئيسي لزيادة الاداء حاليا هو شكل الدارات الكهربية Transistors التي يتكون منها المعالج، الشكل وليس مقدار صغره.
كل المعالجات تتكون من دارات كهربية تسمي Transistors .. واصل الكلمة مصطلحين: "trans" وهي اختصار Transfer بمعني ناقل و "sistor" اختصارا ل Resistor بمعني مقاوم او ممانع .. اي ان الكلمة كاملة تعني Transfer Resistor او مقاوم النقل .. نقل التيار الكهربي بالطبع.
وهي فائدة كل دارة في المعالج بالفعل .. اعاقة سريان التيار الكهربي انتظارا لوصول إشارة تحكم تسمح بسريانه. والفكرة كلها تتلخص في ان التيار الكهربي هو كشلال المياه والنهر ذو التيار السريع، او قل كالسيل الجارف .. الماء يجري ولا سبيل لايقافه والتحكم فيه الا ببناء سدود وبوابات ومواسير بمحابس خاصة .. توقف تيار الماء وتخزنه ثم تفتح بوابات ومحابس لتعيد توجيهه نحو مناطق معينة بحسب الحاجة.
كذا الامر مع المعالج والدارات الكهربية، انت تشغل الحاسب فينقض تيار الكهرباء كالسيل الجارف علي المعالج لتستقبله الدارات الكهربية وتمنع سريانه او تخزنه ما لم تتلقي اشارة المستخدم. هل تريد أداء عمليات حسابية؟ مثلا جمع رقمين معا؟ حسنا ستاتي إلاشارة لتفتح الدارات الكهربية التي تكون الجزء المسئول عن الجمع في المعالج وتسمح بسريان التيار الكهربي اليها ليعمل ويجمع لك ما تريد .. ومرة أخري، إن التيار الكهربي هو كالسيل الجارف، ينتشر في كل مكان، ولا يبدو أنه ينفد أبدا، بل يستمر في السريان والانتشار .. لذا يحتاج التيار الي شئ ما يوقفه ويمتصه ثم يعيد توجيه لاداء اعمال محددة في أوقات محددة.
هذا باختصار مخل وظيفة الدارات Transistors.
اما الاختصار غير المخل فيكون كالاتي:
-انت تشغل الحاسب أو جهاز الالعاب، أو هاتفك الجوال .. -التيار الكهربي ينقض علي ذاكرة التشغيل الأساسية BIOS اولا فيشغلها .. -ذاكرة التشغيل تحتوي معلومات مخزنة بداخلها عن كيفية تشغيل الحاسب .. -تقوم الذاكرة ببث المعلومات المخزنة في صورة تيار كهربي بقيم محددة .. -يذهب هذا البث الي المعالج لكنه لا ينتشر في كل اجزاءه، بل تستوقفه الدارات الكهربية في المعالج وتسمح له بالذهاب الي اجزاء معينة فقط .. تتطابق هذه الاجزاء مع قيمة البث الكهربي .. -الان اصبحت هذه الاجزاء حية بالتيار الكهربي .. فتتولي العمل .. تبدأ بارسال بث كهربي للذاكرة الثابتة (القرص الصلب) لتقرأ ما فيها .. -تستقبل الذاكرة الثابتة قيمة البث وتفتح نفسها للقراءة .. تبث الذاكرة الثابتة محتواها لبدء اقلاع نظام التشغيل .. يستقبل المعالج البث ويبدا في فتح اجزاؤه المسئولة عن اقلاع نظام التشغيل .. -بعد الاقلاع يبدأ المستخدم في مخاطبة المعالج باستخدام اجهزة التحكم .. فيفتح ما فيه من اجزاء ويغلق ما فيه من اجزاء كما يشاء ..
ان التيار الكهربي هو كالسيل الجارف تماما، غبي وعديم الفهم يسير في اي مجري امامه فيشغل أي شئ، لذا فالاصل في عالم الحاسب هو المنع .. منع سريان التيار الكهربي الا في الاجزاء التي نريدها .. وفي الوقت الذي نريده .. وهي الوظيفة التي تقوم بها الدارات الكهربية (مقاوم التيار Transistors) بكفاءة.
ومقاوم التيار يتكون من ثلاثة اجزاء تافهة حقا لا يستعصي علي فهمها طفل صغير .. منبع Soure وبوابة Gate ومصب Drain .. ألم أقل لك ان الامر يشبه تيار النهر الجارف؟ المنبع يحبس الماء اقصد الكهرباء .. حتي تأتي اشارة فتح البوابة فيسير التيار الي المصب ..المنبع والمصب يقعان في الاسفل وتقبع فوقهم البوابة .. والبوابة Gate تفتح عن طريق استقبال اشارة فرق جهد Voltage .. الامر بسيط للغاية .. يطلق علي كل هذا اسم أكثر بساطة، هو الدارة المسطحة Planar Transistor.
كانت هذه المنظومة تعمل بكفاءة تامة .. لعقود طويلة، نصنع كل دارة من منبع وبوابة ومصب ونضع الملايين منهم الي جوار بعضهم البعض في صفوف، تصطف فوق بعضها البعض في عمليات تصنيع manufacturing process معقدة .. وبهذا نحصل علي معالجاتنا التي اعتدناها وألفناها.
وفي كل عام كنا نصغر حجم الدارة الكهربية اكثر واكثر حتي يتسني لنا حشر المليارات منهم في معالج صغير .. المنبع يصير اصغر حجما والبوابة تصير اصغر حجما وكذلك المصب .. وظل كل شئ يعمل كما ينبغي ..
في العشرين سنة الأخيرة، كان الدافع الرئيسي لتطور سرعة الحاسب هو عملية التصنيع Manufacturing Process الاصغر تلك، أو بمعني أخر: حجم الدارة الكهربية Transistor الأصغر. ان الحاسب يعتمد في عمله علي المعالجات، والمعالجات تعتمد في عملها علي عدد الدارات الكهربية وكلما زاد هذا العدد كلما زادت قدرات هذه المعالجات. كلما زاد عدد الدارات الكهربية كلما اصبح للمعالج وحدات اكثر لمعالجة انواع اكثر من البيانات، وكلما زاد حجم وكمية الذواكر المساعدة Caches بداخله، وكلما زادت سرعة تردده وتشغيله، فالتردد العالي يحتاج لعدد كبير من الدارات كي تتفادي مشكلات التشوش واختلاط الإشارات الكهربية. حتي الذاكرة تحتاج الي عدد دارات كبير كي تأتي بأحجام تخزينية كبيرة.
ولاننا محدودون بمساحة ثابتة للمعالج وللذاكرة، فان زيادة العدد تحتاج الي تصغير حجم كل دارة كهربية كي نتمكن من حشر عدد كبير منها في سطح المعالج. وهذا التصغير لا يتحقق إلا باستخدام عمليات تصنيع صغيره، تتم في مصانع ومسابك مزودة باجهزة تصنيع ذات ادوات دقيقة وميكروسكوبية، كي تتمكن من تقليص حجم كل دارة كهربية الي أحجام أصغر وأصغر. التصغير أيضا يقلل من الحرارة الناتجة من كل دارة، فالدارة الصغيرة تحوي قدرا اقل من الموصلات التي تخرج حرارة مع مرور الكهرباء خلالها، ومع حجم الموصلات الصغير تكون الحرارة الناتجة قليلة. يمكن هذا مصنعي المعالجات من حشر عدد اكبر واكبر من الدارات في مساحة صغيرة دون القلق أو الخوف من خرج حراري كبير منها. كما يمكنهم من تشغيل الدارات بتردد عالي دون القلق من تعرضها للتلف جراء السخونة العالية. فطالما كان حجم الدارة صغير، كانت الحرارة الناتجة صغيرة. ويأتي فوق كل ذلك فائدة سهولة تصميم وسائل تبريد بسيطة تبرد المعالج بكفاءة.
والحجم الصغير للدوائر يقلل من استهلاكها للطاقة أيضا، فالدارة الصغيرة تحتاج فرق جهد Voltage أقل لتشغيلها، مما يعني ان سحبها للطاقة الكهربية يكون أقل، ويمكن هذا مصنعي المعالجات من استخدام عدد كبير من الدارات دون القلق من شراهة استهلاكهم للطاقة، كما يمكنهم من زيادة تردد تشغيل هذه الدارات دون ان يزيد هذا من استهلاكها للكهرباء. مما يعني أن مصممي الحاسب لن يحتاجوا الي تصميم دوائر طاقة أو مزودات طاقة Power Supplies معقدة لامداد هذه المعالجات بالكهرباء.
باختصار التصغير يزود المعالج بعدد اكبر من الدارات، وبتردد اعلي وبحرارة اقل واستهلاك طاقة اقل. اربعة عناصر محورية لا غني عنها لعمل اي معالج ذو سرعة وقدرة عالية.
ولقد ظللنا نصغر في حجم كل شئ حتي لم يعد اي شئ يعمل كما ينبغي .. لقد صغرت البوابات Gates للغاية فلم تعد تمنع سريان التيار، الذي صار يتسرب خلالها رغما عن انف الجميع! يتسرب مسببا خللا في عمل الدارات وزيادة في جريان التيار وبالتالي استهلاك الطاقة. إن وظيفة الدارة الرئيسية هي منع سريان التيار، فان لم تمنعه اختل المعالج كله.
وبسرعة تمالك العلماء انفسهم وقرروا زيادة حجم البوابة Gate بسرعة وصنعها من مواد جديدة عالية الجودة لتعود لعملها الاصلي كما ينبغي .. فتضاعف حجم البوابة وصارت اكبر بوضوح من المنبع والمصب .. وزاد هذا من تكلفة عملية التصنيع وتعقيدها .. لكن المقابل يستحق، تسريب الكهرباء سيختفي، و سيتسني لنا الاستمرار في تصغير الدارات اكثر واكثر .. فنحصل علي تردد اعلي وعدد دارات اكثر و قدرة حسابية اعلي .. سميت هذه العملية باسم شهير هو High K Gate Transistor، أو High K Gate FET نسبة الي المادة الخام الجديدة التي تصنع منها البوابة.
لكن نجاح عملية High K لم يدم طويلا، فسرعان ما انتابها الفشل الذريع مع التصغير المستمر في حجم الدارة، والذي ادي الي عودة التسريب من البوابات من جديد. واضطر العلماء الي البحث عن طريق آخر جديد، هذا الطريق هو الزعانف Fin .. بدلا من ملامسة البوابة للمنبع والمصب ملامسة سطحية، ستبرز من المنبع زوائد تدخل في البوابة مباشرة و كذلك الامر مع المصب .. الان صار لدينا اندماج شبه كامل ما بين البوابة وما بين المنبع والمصب، فالبوابة الان تعمل كاليد القابضة علي المنبع والمصب معا، يمكن هذا البوابة من التحكم بقوة في التيار ومنع التسريب .. وبالتالي زيادة الاداء وزيادة مقدار التوفير في استهلاك الطاقة، سميت هذه الزوائد باسم الزعانف Fin، وسميت هذه العملية باسم Fin Transistor او FinFET اصطلاحا.
ولان شكل الدارة قد اصبح اكثر تعقيدا، فان عملية التصنيع تصير أكثر صعوبة وتزداد التكلفة الكلية أكثر وأكثر، لكن المصنعون مضوا قدما في تركيبة الزعانف Fin رغم ذلك، لما لها من فوائد جمة. لكن هذا بدوره لم يعد كافيا، فمع استمرار التصغير، وعند عملية تصنيع 7 نانو، صارت تركيبة الزعانف غير مجدية في إيقاف التسريب .. واصبح النزول الي عملية تصنيع 5 نانو صعبا للغاية دون التفكير في طريقة جديدة لتغيير شكل الدارات.
والطريقة الجديدة هي إضافة المزيد من الزعانف والأجنحة فوق بعضها البعض، في هيئة طوابق متعددة .. تخترق البوابة اختراقا، بحيث تعمل البوابة كحائط سد حقيقي يحيط بطوابق المنبع والمصب من جميع الجهات، ويمنح تسريب الشحنات والكهرباء تماما. سميت هذه الطريقة باسم البوابة المحيطة Gate All Around Transistor او GAAFET اصطلاحا. البعض يسميها الطوابق المتعددة Multi Bridge Transistor أيضا أو MBCFET.
وينتوي غالبية مصنعي العتاد الانتقال لها فورا، مع عملية تصنيع 5 نانو .. بعض المصنعين لن ينتقل اليها الا مع عملية تصنيع 3 نانو .. وهؤلاء سيخسرون الكثير من الاداء والقدرة علي توفير الطاقة في عملية 5 نانو، لانهم سيستخدمون الشكل القديم ذو الزعانف FinFET .. وهو الشكل الذي لن يوفر سوي قدرا محدودا للغاية من زيادة الاداء وتوفير الطاقة علي 5 نانو، مما يعني ان عملية 5 نانو لن تكون ذات فعالية كبيرة مقارنة بعملية 7 نانو لديهم.
وسبب تأخر هؤلاء المصنعين هو التكلفة العالية لتصنيع الدارات بالشكل الجديد، والتي ستزيد من تعقيد عملية التصنيع ومن سعرها النهائي علي المستخدم.
أما المصنعين الذي سينتقلون للشكل الجديد ذو الطوابق GAAFET مع 5 نانو فسيحصلون علي دفعة كبيرة في اداء المعالجات وفي توفير استهلاك الطاقة ستجعل الانتقال الي عملية 5 نانو مؤثرا للغاية.
من هنا نفهم لماذا اصبح التركيب الهندسي والشكل، أكثر أهمية بكثير من تصغير الدارات بالنانومتر، إن مستقبل الحاسب الشخصي يعتمد كليا الان علي الابتكار في هيئة الدارة الكهربية وليس مقدار صغرها بالنانومتر. في المرة القادمة التي تقرأ فيها عن دقة تصنيع جديدة مثل 5 نانو أو 3 نانو، لا تركز كثيرا علي الاسم وصغر الحجم ولكن اسع لمعرفة شكل الدارة الكهربية، هل هي الشكل القديم FinFET ذو الاداء القليل، أم الشكل الجديد GِِAAFET ذو الاداء العالي؟ فهذا هو الفارق الحقيقي والمحدد الرئيسي لأداء الحاسب من الآن وصاعدا.
تقنية تصنيع 7 نانو (7nm) .. تقنية تصنيع 5 نانو (5nm) .. تقنية تصنيع 3 نانو (3nm) .. كل هذا لم يعد مهما، ولم يعد مؤثرا في أداء المعالجات، لقد انتهي عصر النانومتر، غربت شمسه الي غير رجعة .. للأسف! لقد أن الأوان أن نكف عن النظر في مدي صغر الترانزيستور Transistor وان ندع اهتمامنا كله ينصب علي شكله وتركيبه، فمن هنا ستأتي كل قدراته، من هنا فقط ستتحدد سرعة وأداء المعالجات!