في يوم من الأيام لم أكن من محبي Apple، وكنت اكره تلك الشركة التي أُشيع عنها أنها تقوم باستغلال علامتها التجارية الفاخرة والعريقة لخداع عملائها ودفعهم لشراء منتجاتها السيئة التي ليس لها قيمة حقيقية ولا تستحق تكلفتها، ولأكون صريحًا: لم اكن متعمقاً بالقدر الكافي في مجال التقنية لأضع رأيي الخاص في الحواسيب والهواتف التي تقدمها آبل، لكن هناك من دفعني للتفكير مرة أخرى في أمر تلك الشركة وغيّر رؤيتي لها، بل ولصناعة التكنولوجيا بشكل عام، وترك تأثيره في حياتي بكلامه الملهم ونصائحه الرشيدة التي ساعدتني على إنتاج الأفكار التي غيرت مسار حياتي بالكامل — إنه قدوتي ومن اعتز به والعبقري حقاً - جوني آيف، المصمم الصناعي الحاصل على وسام "الفارس القائد" من الإمبراطورية البريطانية الذي قاد فريق التصميم في آبل لأكثر من 26 عاماً. هو الرجل الذي استطاع تحقيق رؤية ستيف جوبز وكان سبباً رئيسيًا في النجاح الساحق لآبل!

صاحب الرؤية الإبداعية:

في أواخر التسعينيات كانت شركة Apple في منعطف حرج وعلى وشك الإفلاس وفي حاجة ماسة إلى أي فكرة تنقذها من السقوط، وفي خلال هذه الفترة المضطربة وقبل إفلاس الشركة اتي صباح يوم التاسع من يوليو 1997، اليوم الذي اجتمع فيه مجموعة من أعلى موظفي الشركة في صالة عملاقة داخل مقر الشركة الرئيسي ليصعد جيلبرت أميليو  (رئيس أبل التنفيذي في ذاك الوقت) على المنصة ليقول: "حسناً، إنه من المحزن لي أن اقول أنه حان الوقت لي للرحيل"، لينزل هادئاً من على المنصة بعد قول هذه الكلمات ويصعد بعده فريد أندرسون (الرئيس التنفيذي المؤقت الذي تم تعيينه من قبل مجلس إدارة الشركة) ليلقي خطابًا سريعاً قبل أن تأتي المفاجأة الكبرى - ستيف جوبز يصعد على المنصة مرتدياً بنطاله القصير وزوجاً من الأحذية الرياضية معلناً عودته لآبل. 

في هذه اللحظة التاريخية الهامة - لحظة رجوع ستيف جوبز إلى آبل، كان يجلس جوني آيف وسط الجمهور أمام جوبز في منطقة بعيدة على وشك النعاس من كثرة التفكير حول ما سيفعله بعد تقديم استقالته من هذه الشركة الكئيبة، وبينما يثرثر ستيف جوبز كان جوني يفكر ما إذا كان سيعود لإنجلترا مع زوجته أم سيقوم بالتقدم لوظيفة أخرى في كاليفورنيا، لكن استوقفه قول جوبز بأن الشركة ستتحول فلسفتها من التركيز على النواحي المادية وجمع الأموال إلى التركيز على صناعة منتجات قوية كهدفها الأول، وقال جوني لاحقاً أن هذا ما دفعه لإعادة التفكير والصبر قليلاً؛ لأن هذه الفلسفة كانت مختلفة تماماً عما كانت تتبعه آبل حينها، ويبدو أيضاً أنه أُعجب بمدى بساطة خطة ستيف جوبز التي رسمها لاحقاً أمام المهندسين على السبورة البيضاء، حيث سخر أولاً من تنوع منتجات آبل المبالغ فيها وكثرة موديلاتها وأسمائها التي تحمل رموزاً معقدة مثل "5210CD" و "5215CD" وغيرها، وقال أن كل ما سيحدث هو التركيز على أربع منتجات فقط، إثنين للمستهلك العادي وإثنين للمحترفين، وقام بإنهاء مقدمته.

رغم تحدث Steve Jobs ملياً عن رغبته في إرجاع Apple إلى كونها شركة يقودها التصميم في المقام الأول، لم يزر ستوديو التصميم التابع للشركة بعد رجوعه، ولم يحدث ذلك إلا عندما أحس جوني آيف أن فريقه في خطر وأن عليهم التحرك لاستعراض أنفسهم ومواهبهم وما يمكنهم القيام به أمام الرئيس الجديد؛ فقاموا بتجهيز أفضل كتيبات التصميم الخاصة بهم، والتي تحتوي على أفكارهم لتطوير لغة التصميم الخاصة بـ Apple وجعلها لامعة وبها عناصر شفافة - الأفكار التي كانت فريدة جداً من نوعها في ذلك الوقت بالنسبة لصناعة الحواسيب، وقد ابهرت بالفعل ستيف جوبز عندما قام أخيراً بزيارة ستوديو التصميم، لقد ذُهل بمستوى الإبداع لدى الفريق، وخطفت عيناه النماذج المثيرة التي لم تظهر للنور من قبل، وأشاد بروعة ماكينات الـ CNC وفريق الـ CAD، واعجب جداً بجوني آيف شخصياً، وحدث بينهم ارتباط وثيق منذ اللحظة الأولى. 

هنا وجدت آبل صاحب الرؤية الإبداعية التي كانت تحتاجه منذ البداية، حيث أصبح لجوني آيف مكانة مرموقة في آبل، أكد استحقاقها بكل الإنجازات التي حققها لاحقاً مع مرور الوقت وظهور التحديات، فهو أول من عامل الحواسيب على أنها: قطعة فنية، وجزء من الحياة اليومية لكل الأفراد بمختلف أعمارهم وعقلياتهم، وأعطاها لمسة إنسانية بسيطة لتخفيف صرامتها وجعلها تبدو لطيفة أو انيقة. 

بعيداً عن مدى حداثة تصميم الـ iMac G3 بالنسبة للوقت الذي أطلق فيه والتحديات الضخمة التي واجهتها الشركة لجعل هذا الكمبيوتر شفافاً ومحتوياً على كل تلك الانحناءات، لفتت آبل انتباه الناس لتنوع ألوانه وأهميتها ذوقياً، وكانت هذه المرة الأولى التي أصبحت فيها الحواسيب جزءاً من الموضة، ولا يُنكر أن بعض عمالقة التقنية مثل Bill Gates و Michael Dell سخروا من تلك الفكرة وقالوا عنها أنها استراتيجية ضعيفة لجذب انتباه العملاء وأنها لن تدوم، لكن الأمر كان يعود للرؤية التي وضعها جوني آيف في فلسفة التصميم الخاصة بالشركة التي تركز على المستخدم وتجربته وسُبل تقديم منتجات مصممة بشكل إنسانيٌ حقاً. 

كيف سيطر جوني آيف على توجه آبل:

باعتماد جوني آيف على فكرة "الوحداوية" في التصميم وإيمانه بإمكانية التوازن بين البساطة في التصميم والعملية استطاع فرض هيمنة آبل على عالم التصميم بالكامل، وكل هذا تم بالتعاون مع فريقه الأساسي المكون مِما لا يزيد عن 17 فردًا فقط!

جوني آيف هو الشخص الذي صمم الـ iPhone - المنتج الذي أعجب به المليارات وأصبح علامة تعبر عن المستوى الإجتماعي الراقي لممتلكيه رغم أنه لم يكن مصمماً لهذا الهدف، لكن جمال التصميم الذي عُرف به الآيفون على مدار السنوات والبريق الذي كان يعكسه على أعين الناس اوصله لهذه المكانة وأصبح هناك من يقدسوه رغم بساطته في الأصل، وهذا ليس بفضل التصميم الظاهري فقط، وإنما يأتي أيضاً بفضل ما يتيحه هذا الجهاز للمستخدم، حيث أوضح جوني آيف في احدى اللقاءات أن جمال التصميم لا يأتي فقط من الشكل الخارجي وإنما من أيضاً من قدرته على العمل بشكل جيد، ولا يمكن المهاودة في أيٍ من الإثنين، حيث قال أن التصميم الجميل الذي لا يعمل بشكل جيد قبيح في الواقع، فهناك ميزان يحافظ عليه جوني آيف بين التصميم الجيد والتجربة الجيدة، وهذا سر نجاح آبل، إنها هذه الفكرة البسيطة التي لم تستطع الشركات الأخرى تنفيذها إلا مؤخراً عندما أصبحت التكنولوجيا بالكفاءة اللازمة لإرضاء جميع المستخدمين بمختلف فئاتهم.

للعلم: لم يقتصر دور جوني آيف في آبل على إدارة فريق التصميم، وإنما على رؤية الشركة بشكل عام، فكان له تأثير على ما يتاح استخدامه من تكنولوجيات في الأجهزة التي تقدمها الشركة بالإضافة إلى تحكمه في ميزات أنظمة التشغيل والبرمجيات، فكان لا يقبل بما هو "متوسط" أو "مقبول"، وإنما كان يطمح دائماً لأن تكون آبل متقدمة بكل ما تقدمه، وأن لا تقدم ميزات عديمة الفائدة في منتجاتها، حتى وإن تأخرت الشركة في مواكبة المنافسين، فكان دائماً يريد من آبل الحرص في كل خطواتها، ولذلك كنا نلاحظ تأخر آبل في تقديم بعض الميزات والتقنيات الجديدة، لكن.. دائماً ما كنا نلاحظ عند تقديمها أخيرًا أنها مقدمة بشكل أفضل وأكثر مثالية عن كل الباقين، فكانت تتحرك الشركة بحكمة لابتكار وسائل تجعل من تلك الميزات الجديدة أكثر راحة وجمالاً وإندماجاً وسط التجربة العامة للمنتج.

رحيل جوني آيف عن آبل:

في يوليو 2019 أعلنت Apple استقالة رئيس التصميم - جوني آيف في خبر مفاجئ صادم للمجتمع التقني بالكامل، بعد كل هذه الرحلة الطويلة والفرص الرائعة التي حظي بها جوني وإنجازاته الضخمة التي ساهمت في جعل آبل الشركة الأكبر والأقيَم في العالم!

في المنشور الذي نشرته آبل على موقعها الإلكتروني لإعلان رحيل جوني آيف أشاد الرئيس التنفيذي تيم كوك بتأثير جوني على عالم التصميم وطموحاته العالية في كل مشاريعه، منذ عمله على الـ iMac والـ iPhone وحتى مساعدته في تصميم الـ Apple Park (مقر الشركة الحالي)، وقال حينها جوني آيف مصرحاً: 

بعد ما يقرب من 30 عاماً ومشاريع لا حصر لها أنا فخور جداً بالعمل الدائم الذي قمنا به لإنشاء فريق تصميم ونهج وثقافة في Apple ليس لها نظير، هي اليوم أقوى وأكثر حيوية وأكثر موهبة من أي وقت مضى في تاريخ Apple. سوف يزدهر الفريق بالتأكيد تحت القيادة الممتازة لـ Evans Hankey و Alan Dye و Jeff Williams الذين كانوا من بين أقرب المتعاونين معي. لدي ثقة تامة في زملائي المصممين في Apple الذين سيظلون أقرب أصدقائي.

وأُوضح في المنشور أن سبب ترك جوني آيف لأبل هو رغبته في إنشاء شركة تصميم خاصة به مع صديقه مارك نيوسن، وأنه سيبقى متعاقداً مع آبل من خلال تلك الشركة للعمل على بعض المشاريع المعينة لهم، لكن يبدو أن هذا لم يكن واقعياً، وإنما كانت فقط لترويض المستثمرين وتهدئتهم من رحيل جوني آيف المفاجئ وفقدان آبل لمصدر إلهامها وقيادتها الإبداعية الرشيدة.

لماذا ترك جوني آيف آبل بعد كل هذه السنوات والمغامرات الرائعة؟:

الحجة التي نشرتها آبل لترك جوني آيف لها لم تكن مقنعة بالقدر الكافي، وبعد أيام من انفصاله عن آبل نُشر مقال على The Wall Street Journal يحلل القصة، وذُكر فيه أن جوني كان قد ملّ من نظام الشركة تحت رئاسة تيم كوك، وأنه بدأ عدم الاكتراث للحضور بشكل منتظم للعمل منذ 2017، وكان يجتمع في بعض الأحيان مع الفريق خارج مقر الشركة، والرسالة بمنتهى الخلاصة أن جوني آيف ترك آبل "للمحاسبين"، أي أن الشركة أصبحت لا تكترث بأي شيء غير تأدية الوظائف على نهج منتظم وجمع الأموال، أما بالنسبة للإبداع - لم يعد من أولويات الشركة.

رد تيم كوك على ادعاءات الوول ستريت جورنال في تصريح مكتوب للـ CNBC وصف فيه القصة التي سُردت بأنها "سخيفة"، وقال أنها تبين افتقار الكاتب لفهم آلية عمل فريق التصميم وأنه لا يصف الشركة بتاتاً، وقد يكون تيم كوك صادقاً فيما كتبه في التصريح، لكن إن نظرنا لـ Apple بعد رحيل جوني آيف؛ سنلاحظ أنها أصبحت شركة مختلفة تماماً تتحرك نحو ما يريده العامة بشكل أعمى وكأن ليس لها رؤية خاصة أو فلسفة معينة، وكل ما يحكمها هو قدرة خطوط الإنتاج والموظفين على تقديم كل ما يريده الناس بشكل أهوج، ولذلك أصبحنا نرى أخطاء كثيرة لآبل في منتجاتها الملموسة وبرمجياتها، ولم تعد آبل ذات المكانة الراقية التي كانت عليها من قبل، وإنما تدنت إلى مستوى يجعلها توضع في المقارنة مع شركات أخرى، وفقدت صورتها المقدسة التي كانت تجذب أعين الناس. 

قد تكون آبل في مرحلة ازدهار مادي حالياً وتبيع أجهزتها بمعدل أسرع من براميل البترول، لكن قريباً عندما تحدث نقلة كبيرة في سوق التكنولوجيا وتتحول حواسيبنا إلى هيئة جديدة (كالنظارات مثلاً) لن تجد آبل البنية الصحيحة لدخول السوق بشكل قوي كما كانت تفعل في السابق في عهد جوني آيف، وستقف أمام طريق مسدود عاجزة عن مواكبة التغيرات، وقد نرى هذا قريباً إن أصبحت نظارات الواقع الإفتراضي (التي نرى لها ترقباً لمستقبلها في أيامنا هذه) مهيمنة على عالمنا، فلن تستطيع آبل تصميم نظارة ثورية مميزة، ولن تُلفت انتباه العامة حتى وإن حاولت بشتى الطرق بيعها للناس كما فعلت في الماضي مع الآيفون.

للعلم: جوني آيف كان من المعترضين على فكرة تقديم نظارة واقع افتراضي وفقاً لبعض المصادر الداخلية في الشركة التي سربت بعض المعلومات بشأن خلاف مديري آبل حول هذه الفكرة، وقيل أن جوني آيف هو من تسبب في تأخير المشروع آملاً في تحقيق الفريق لإنجازٍ يُحسَب لجعل تجربة استخدام تلك النظارة مريحة، وأن لا تؤثر على حياة الأفراد المستخدمين لها بالسلب (مثل أن تجعلهم منعزلين عن الواقع)، وأن تكون ذات فائدة حقيقية في المقام الأول، لكن يبدو أنهم قللوا من رأيه، واستكملوا المشروع على هيئته؛ بسبب رضا كريج فيدريجي (مسؤول الـ Software Engineering) وجيف ويليمز (رئيس الـ Operations في الشركة) عن النموذج الحالي، وهذا ما دفع جوني آيف للرحيل، بعد أن شعر باليأس من وضع الشركة التي أصبحت تسعى نحو تحقيق الربح وإرضاء المستثمرين فوق كل شيء. 

مستقبل آبل بدون جوني آيف:

فقدان آبل لحامل رايتها نحو الإبداع والتقدم أثر بالفعل عليها وجعلها متأخرة عن ما كانت عليه، ورُغم أن بعض الصحفيين والنقاد المهمين في عالم التقنية مثل Nilay Patel و Sara Dietchy و غيرهم قالوا أن رحيل جوني آيف من آبل يُعد أمراً جيداً؛ بسبب غياب التحكمات الصارمة (غير الضرورية بالنسبة لهم) وإرجاع آبل لبعض التقنيات القديمة التي كانت قد تخلت عنها في عهد جوني آيف، إلا أنني وبكل ثقة ارى أنهم لا ينظرون إلى الصورة الكاملة، وأنا متأكد بلا شك أن آبل في تحديها القادم لن تستطيع النجاة بدون جوني آيف، فنحن الآن نشهد فترة إنتقالية، نرى فيها العالم يتجه نحو الواقع الإفتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي والأتمتة، ولا نرى دوراً لآبل في كل هذه الأمور حتى الآن، وأشك فيما إذا كانت آبل لديها خطة جيدة لإطلاق منتج جديد مبتكر قادر على الهيمنة في المستقبل مثل ما فعل الآيفون في الـ 15 عاماً الماضية، وأعتقد أن آبل فقدت طريقها ولن تستطيع النجاة في الـ 10 سنوات القادمين. هذه الشركة ستضمحل مع مرور الوقت وستتقلص بدون شخص مبتكر عظيم مثل جوني آيف، واخشى أن الأجيال الجديدة ستراها وترى منتجاتها كما نرى نحن Kodak و Blackberry - شركات عفى عنها الزمن؛ لأنها لم تستطع تطوير نفسها بشكل صحيح.

جوني آيف غير قابل للتعويض. لقد ترك بصمة لا تمحى في عالمنا وتأثيراً قوياً على طباع البشر أجمعين ورؤيتهم لكل شيء، فهو من نشر البساطة في أرقى صورها بعبقريته الإبداعية، وساعد في صنع أدوات هي أساس حضارتنا وعلامة عصرنا. لقد كان من أوائل من فهموا أن التصميم ليس مجرد طبقة سطحية، بل لغة إنسانية عميقة تخاطبنا بشكل لا واعي وتؤثر على عواطفنا ومشاعرنا تجاه الأشياء، وبهذه الفلسفة استطاع نسج التكنولوجيا بسهولة في نسيج حياتنا.

مستقبل آبل لا يبدو عليه الإشراق بدون جوني آيف.