في الماضي، كانت صناعة ألعاب الفيديو تُدار مثل أفلام السينما ذات الميزانية الضخمة؛ كانت تخضع الألعاب لسنوات من التطوير، مع اختبارات صارمة ووقت كافٍ لتصحيح أخطاء البرمجة قبل إصدار المنتج النهائي.

ثم بدأت ثورة جديدة في صناعة ألعاب الفيديو من خلال مفهوم الاتصال والتفاعل عبر الإنترنت، وقد ثبت أن بعض الإضافات، مثل المحتوى القابل للتحميل (DLC)، مفيدة في جعل اللاعبين يدفعون الأموال للشراء من داخل اللعبة بعد إطلاقها. هذا المحتوى القابل للتحميل هو جزء من السوق الثانوية للألعاب، وهو مؤشر لما يعرفه اللاعبون الآن باسم المعاملات التجارية المُصغّرة (Microtransactions).

المعاملات التجارية المُصغّرة هي نموذج أعمال تجارية يمكن فيه للمستخدمين شراء موادًا افتراضيةً بمبالغ صغيرة من المال. وغالبًا ما تظهر في ألعاب الفيديو المجانية، مما يعني أنه لا توجد تكلفة مالية لتحميل اللعبة نفسها، ولكن التكلفة في شراء المنتجات الافتراضية على الإنترنت من داخل اللعبة.

وتشتهر هذه المعاملات أكثر في ألعاب الهواتف، مثل "كاندي كراش" و"صراع العشائر"، ووجدت دراسة عام 2013، أن أكثر من 90% من كل إيرادات متاجر App store وGoogle Play جاءت من المعاملات التجارية المصغرة داخل ألعاب مجانية التحميل.

وبصفة عامة، يُشار إلى المعاملات التجارية المُصغّرة في ألعاب الفيديو على أنها ألعاب “ادفع كي تربح”. فإن كنت تدفع لتحصل على أفضل عتاد في اللعبة ستملك فرصةً أفضل للفوز على شخص آخر لم يدفع من أجل شراء نفس الأشياء. من المفترض أن الألعاب متعددة اللاعبين تدور حول من هو أفضل لاعب، وليس من يمكنه شراء أفضل العتاد أو التجهيزات، ومن هنا يأتي التأثير المؤسف.

تحول مصادر الإيرادات داخل صناعة ألعاب الفيديو

صناعة ألعاب الفيديو في حالة دائمة من التغير، وهذه المعاملات التجارية المُصغّرة كان لها التأثير الأكبر على الصناعة، إذ تعلّم مطورو اللعبة الاستفادة من هذا المصدر الجديد للإيرادات.

بلغت عائدات صناعة ألعاب الفيديو في أمريكا رقمًا قياسيًا، نحو 36 مليار دولار، في عام 2017، أعلى بنسبة 18 في المئة من عام 2016، ثم في عام 2018 وصلت إلى رقم قياسي جديد، قدره 43.8 مليار دولار، بزيادة 18 في المئة عن العام السابق. متجاوزةً الإجمالي المتوقع لشباك التذاكر العالمي لصناعة الأفلام (41.7 مليار دولار)، وفقًا للبيانات التي أصدرتها جمعية البرامج الترفيهية (ESA) ومجموعة (NPD).

ألعاب الفيديو والمحتوى المتعلق بها أصبحت المصدر الجديد للترفيه لأجيال بأكملها، وهو شيء يُقلق المدير التنفيذي لشبكة نتفليكس ريد هاستينجز، الذي يرى أن لعبة فورتنايت (Fortnite) تمثل تهديدًا لشبكته أكثر من شبكة HBO.

إلى جانب النمو المستمر والذهل في الصناعة، من المثير للاهتمام أن نلاحظ تحولًا جديدًا في مصادر الإيرادات داخل مجال الألعاب مؤخرًا. سابقًا كانت تأتي معظم الأموال من خلال بيع الألعاب، ولكن اليوم تأتي إيراداتها من منظور مختلف.

شهدت السنوات الأخيرة نموًا متزايدًا في ألعاب الفيديو المجانية على الإنترنت، مثل فورتنايت (Fortnite) وأبيكس ليجندز (Apex Legends) وبابجي (Pubg)، حيث يمكن التسجيل واللعب مجانًا، لكن أثبت هذا النموذج من الألعاب أنه من الأكثر ربحًا في العصر الحديث. اليوم، تأتي معظم إيرادات الصناعة من الطلب المتزايد على شراء العتاد والتجهيزات داخل تلك الألعاب، والتي يمكن شراؤها بأموال حقيقية.

وتشمل أكثر المواد شيوعًا داخل الألعاب: السيارات والأسلحة وملابس الشخصيات وغيرها من التشكيلات. وبفضل المشتريات داخل اللعبة، تجلب لعبة مثل فورتنايت (Fortnite) مليارات الدولارات من الإيرادات سنويًا.

فعلى سبيل المثال، من أصل إيرادات فورتنايت البالغة 2.4 مليار دولار في عام 2018، جاء أكثر من مليار دولار بفضل بيع العتاد داخل اللعبة. ومع تصاعد هذا الاتجاه أكثر، فإن غالبية الألعاب على الإنترنت تتحول الآن إلى نموذج اللعب الحر مع التركيز على آلاف الدولارات التي يتم تداولها من خلال الشراء داخل اللعبة، وهو نموذج المعاملات التجارية المُصغّرة.

التأثير المؤسف للمعاملات التجارية المصغّرة على صناعة الألعاب!

التأثير على صناعة ألعاب الفيديو

هذا التغيير الحادث في نهج بيع ألعاب الفيديو ينتج آثارًا على كل من المطورين والشركات من جهة، وعلى اللاعبين، سواءً كانوا يستخدمون تلك المعاملات أو لا يستخدمونها، من جهة أخرى. ويمكن تقسيم تلك الآثار إلى مجموعتين رئيسيتين: آثار اقتصادية وآثار اجتماعية. وتبعًا لوجهة النظر، فإن بعض هذه الآثار يمكن اعتبارها إيجابية، في حين يمكن اعتبار البعض الآخر آثارًا سلبية وتخلق المشاكل. 

الآثار الاقتصادية

كان الدافع الاقتصادي حاسمًا لاعتماد نموذج المعاملات المُصغّرة لعدد كبير من شركات الألعاب. فبعد أن تحقق لعبة واحدة نجاحًا هائلًا في نوع معين، يظهر عدد كبير من النسخ التي تشبه طريقة اللعبة الأصلية. وفي مثل هذه الظروف، لم يحصل عدد كبير من الألعاب على حصة كافية من السوق بسبب وجود بدائل مباشرة.

في حالة شراء الألعاب بالكامل من البداية، ويأخذ اللاعبون فترة أطول من الوقت في عملية الاختيار والمقارنة عادةً بين مزيد من الألعاب. وبما أن عدد كبير من ألعاب الصف الأول تُنشر في نهاية السنة، فإن الشركات تخاطر إذا لم تستثمر جيدًا في التسويق، فإن ألعابها قد لا تُلاحظ من الأساس.

ولكن في حالة الدفع داخل اللعبة، يمكن للاعبين تحميل اللعبة بحرية في أي وقت والبدء في استخدامها. ويتوقف استعدادهم على لعب اللعبة، وبالتالي دفع مبلغ معين من المال عند الضرورة، على خصائص اللعبة التقنية ومدى جودة محتوياتها، وطريقة عملها.

لكن التأثير السلبي أنه في بعض الألعاب يكون التقدم في اللعبة مستحيل عمليًا بدون المعاملات المُصغّرة ودفع الأموال، مثل لعبة (Dungeon Keeper 2). غالبًا ما يتم وصم هذه الألعاب على الشبكات الاجتماعية ومنتديات الألعاب، وتساهم تلك العدوانية في طلب الأموال في ابتعاد اللاعبين الحاليين ومنع قدوم لاعبين جدد.

لذا يمكن بسهولة استنتاج أنه: في مثل هذه الحالات يجب أن يُخلق التوازن، لأن الطمع في الربح السريع عادةً ما يُنتج تأثيرًا عكسيًا، ويجلب أموالًا أقل من المتوقع.

وثمة مثال سلبي آخر، وهو الجمع بين بيع اللعبة نفسها بسعر مرتفع وبين شراء المحتوى داخل اللعبة بسعر مرتفع أيضًا. وهو النموذج المُستخدم في بعض ألعاب الفئة الأولى، مثل (Mortal Combat X).

التأثير المؤسف للمعاملات التجارية المصغّرة على صناعة الألعاب!

الآثار الاجتماعية

عندما نتحدث عن الآثار الاجتماعية، عادةً ما يأتي ذكر الثقافة الخاصة للاعبين العاطفيين أو “الجيمرز”. وهذه الثقافة الخاصة تواجدت بالفعل خلال العقود الثلاثة الماضية، بلغتها وعاداتها وقواعدها الخاصة بها.

في بداية الأمر، كان الجيمرز يعتبرون أشخاصًا غير اجتماعيين، يركزون بدقة على ألعاب الفيديو، ومنعزلين عن الحياة اليومية. وكانت طبيعة ألعاب الفيديو هي التي شكلت جزئيًا هذه المعتقدات، لأنه في البداية كانت جميع الألعاب للاعب واحد فحسب، لذا كان ينعزل كل شخص في الغالب بمفرده.

عندما ظهرت الألعاب متعددة اللاعبين، أصبح الجيمرز أكثر انفتاحًا، وتواصلوا عبر الإنترنت مع أشخاص بنفس اهتماماتهم من جميع أنحاء العالم. ظهرت الفرق والعشائر أو التحالفات والتي تضم عدد كبير من اللاعبين من مختلف قارات العالم. وقد ساهم كل هذا في تغيير جزئي في وجهة النظر حول الجيمرز، لكنهم ما زالوا يحتفظون بمعظم مبادئهم، مع مواقف واضحة تجاه المعاملات التجارية المُصغّرة.

قديمًا في ألعاب اللاعب الواحد، كانت هناك طرق للغش لإنهاء اللعبة، أو ما يُعرف بأكواد الغش (cheat codes)، لكن في الألعاب متعددة اللاعبين، الغش الكلاسيكي مستحيل، وبالتالي فإن اللاعبين بحاجة لاستخدام مهاراتهم الخاصة للفوز. ومع ذلك، غالبًا ما تنتج المعاملات المُصغّرة نفس التأثير بالضبط، الذي أنتجته أكواد الغش سابقًا.

اللاعب الذي يشتري تحسينات لشخصيته يملك أفضلية أكبر على لاعبين آخرين بمساعدة من هذه التحسينات، والتي، كما هو الحال في لعبة عالم الدبابات (World of Tanks)، تخلّ بتوازن اللعبة. في لعبة تساهم فيها الأموال بوضوح في ترجيح كفة طرف على الآخر، فإن الفائز لن يكون أكثر لاعب ماهر، ولكنه الشخص الذي ينفق أموالًا أكثر.

لعبة World of Tanks

بما أن تكاليف إنتاج الألعاب الضخمة مثل Red Dead Redemption II، التي قُدرت بنحو 200 إلى 300 مليون دولار، بدأت في الوصول إلى نفس تكاليف الأفلام الضخمة، فسوف يبحث المطورون والشركات عن طرق مختلفة للحفاظ على اللاعبين داخل ألعابهم لأطول مدة ممكنة، وعلى وجه التحديد حتى يتمكنوا من كسب المزيد من الأموال من خلالهم.

في نهاية المطاف، على الرغم من نفور اللاعبين من تلك المعاملات التجارية المُصغّرة، إلا أنها في الحقيقة ستبقى قائمة طالما استمر اللاعبون في الشراء، ومدام الأمر مربحًا للشركات وللمطورين، مهما كانت تأثيراتها على صناعة ألعاب الفيديو.

هل ترى عزيزي القارئ أن تلك المعاملات لها تأثير سلبي أم إيجابي على صناعة الألعاب؟ شاركنا برأيك في التعليقات.