خلال العقد الأول من حياته المهنية، والذي صادف أيضًا أن يكون العقد الأول من حياته في سن البلوغ، كان بإمكان مارك زوكربيرج، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، التحرك بسرعة في الفراغ وكسر بعض الأشياء، كصناعة الأخبار على سبيل المثال، دون أن يُحاسَب على ما كسره في الطريق. يُصر مارك مرارًا وتكرارًا على أن فيسبوك هي منصة، وليست شركة نشر!

على أي حال، يمكنك أن تتوقع من الناشر، كالصحف مثلًا، أن يتحيز ويتخذ صف أحد الأطراف؛ سيتعين على الناشر أن يقف وراء ما ينشره، وسيكون مسؤولًا، أخلاقيًا أو حتى من الناحية القانونية، عمّا يفعله محتواه بالمجتمع. لكن المنصة، على الأقل وفقًا للتعبير المجازي، لم تكن سوى مساحةً فارغةً نقية، تستوعب كل ما يُلقى بداخلها من أي مكان وأي شخص!

التعبير المجازي لا ينطبق هنا، بالطبع. فيسبوك لم تكن أبدًا منصةً محايدة؛ إنها شركة يعتمد نموذج أعمالها على مراقبة مستخدميها، وتعديل سلوكهم، وبيع انتباههم لمن يدفع أكثر!

تدّعي منصة فيسبوك باستمرار أنها منصةً محايدةً من جهة السياسة، لكنها في الواقع ليست كذلك؛ المنصة ومديريها التنفيذيين ورئيسها وخوارزمياتها تتخذ جانبًا سياسيًا. الشركة تتخذ قرارات سياسية دون الاستناد إلى قيم أو معايير إنسانية أو محايدة، بل تستند إلى مصلحة الأقوى. لكنها تخبرك في النهاية أن تلك هي "معايير المجتمع"!

كي لا تغضب الخوارزميات!

Facebook فيسبوك - Arabhardware Generic Photos

لسنوات، كان اعتراض النشطاء وجماعات حقوق الإنسان في فلسطين وفي أنحاء الشرق الأوسط على استهداف فيسبوك المجحف والعبثي ضد المحتوى الذي تقدمه المجتمعات المهمشة والمضطهدة. الفضاء الإلكتروني أصبح هو المتنفس الوحيد لتلك المجتمعات للتعبير بحرية عن آرائهم، ونشر أخبارهم وما يحدث هناك، وتجاوز الرقابة والقمع التي تفرضها دولة الاحتلال.

عام 2016، بعد أن عقدت المنصة اتفاقية مع السلطات الإسرائيلية، ازداد استهداف المحتوى الفلسطيني على المنصة، تحت إطار مجموعة مخصصة من السياسات، ليتضمن إغلاق أو تعليق حسابات الصحفيين والمؤسسات الإعلامية والنشطاء وأي صفحة تتحدث عن القضية، بالإضافة لحسابات المستخدمين العاديين، بحجة إزالة "خطاب الكراهية" أو "المحتوى المتطرف"!

كما استهدفت فيسبوك تعبيرات أو محتوى ينتقد السياسات الإسرائيلية وانتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين، مما دفع المستخدمين الفلسطينيين إلى إطلاق حملات احتجاج على الرقابة المفروضة على أصواتهم على منصة التواصل الاجتماعي.

والآن مع القصف والعدوان الإسرائيلي على غزة والأراضي المحتلة، يواجه المجتمع العربي بأكمله تلك المخاوف من كتمان الأصوات ونشر رسائلهم حتى على حساباتهم الشخصية، خوفًا من خوارزميات فيسبوك والتعرض للإيقاف!

المشكلة الحالية أن المنصة تستخدم خوارزمياتها بشكل عشوائي تمامًا، فمجرد أن تظهر كلمات مثل إسرائيل أو فلسطين، فإن الأمر يتحول إلى ما يشبه العقاب، حتى بدون رؤية سياق الكلام نفسه!

الشبكة الاجتماعية تنفذ ما صُنعت من أجله بالضبط؛ لا تحاول خوارزميات فيسبوك البحث عن الحقيقة وإظهارها، أو محاسبة المخطئ، أو تمثيل مصالح مستخدميها أو حتى تطبيق "معايير المجتمع" المزعومة. هل يمكنك مثلًا أن تتخيل، مجرد تخيل، أن تحذف فيسبوك منشورات لأشخاص من إسرائيل يدعون إلى زيادة العنف والقمع ضد الفلسطينيين؟ هذا السؤال يجيب عن نفسه على كل الأحوال!

يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي الآن الحجر على ما نقول بصورة أكثر فعالية من أي حكومة على مر التاريخ، لن تتمكن بالطبع من سجن واعتقال المعارضين، لكن بإمكانها إسكاتهم وقمع أصواتهم. تعتمد تلك المنصات مثل فيسبوك على الخوارزميات التي يمكنها مراقبة كل ما نكتبه، ثم توجيهه للمراجعة، أو كما يحدث حذف الكلمات أو الصور أو المنشورات تلقائيًا بناءً على رغبة من يملك تلك الخوارزمية!

ما الذي يحدث عندما تتوقف منصات التواصل الاجتماعي عن نشر التواصل؟

Facebook فيسبوك - Arabhardware Generic Photos

فيسبوك شركة خاصة، والهدف من الشركة هي زيادة الأرباح، ولهذا يمكنها أن تفسر المفاهيم المعقدة والشائكة للغاية مثل "خطاب الكراهية" و"التحريض على العنف" بما يُرضي من يتمتع بالقوة والنفوذ الأكبر. وبالتالي لا يمكن تصور أن تقوم الشركة بحذف هذا النوع من المنشورات التي تحرض على العنف فعلًا!

صحيح أن مثل هذه الشركات الخاصة تملك الحق القانوني في فرض رقابة على ما تريد، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، وهذا الاقتراح يتجاهل السيطرة الضخمة، غير المسبوقة، التي تمارسها هذه المجموعة الصغيرة من الشركات الآن على عالم الاتصالات في أرجاء الكوكب!

وربما لا نبالغ عندما نقول أن منصة فيسبوك، في هذه المرحلة من تاريخنا، هي القوة الأكثر هيمنة في عالم الصحافة. وفي الأيام التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي، قرر مارك زوكربيرج تعديل خوارزمية فيسبوك بحيث تحصل مصادر الأخبار عالية الدقة على أفضلية الظهور في صفحات المستخدمين الرئيسية على المنصة، مع دفن الصفحات شديدة الحزبية والتطرف، وفقًا لما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز، وهو ما يقدم دليلًا واضحًا على أن فيسبوك يمكنها، إن أرادت، تقليل انتشار المعلومات المضللة والكاذبة، ويقدم دليلًا أكبر على أن فيسبوك تملك القدرة على التحكم وتغيير ما يراه المليارات من الأشخاص على شبكة الإنترنت!

كانت المهمة الأولى للشركة، وربما أكثر ما يميزها عن وسائل الإعلام التقليدية، هي “منح الأشخاص القدرة على المشاركة وجعل العالم أكثر انفتاحًا وتواصلًا”؛ القدرة على تحقيق المساواة بين الجميع، وإعطاء من يعجز عن التواصل فرصة لكي يصرخ بأعلى صوته بحرية مثلما يفعل الأقوياء، أن يعبر عن نفسه ويخبر العالم بما يحدث على أرضه، وربما دون منصات التواصل لما عرف العالم أو تضامن مع القضية الفلسطينية كما يحدث الآن. لكن ما تفعله منصات مثل فيسبوك من حظر وإخفاء وقمع للأصوات والمنشورات يتعارض بشدة مع تلك الحرية المُفترضة!

حتى محاولات تخطي تلك الخوارزميات لن تفلح كثيرًا، کالکٮاٮه ٮدوں ٮٯاط مٮلا، وهي مجرد حلول مؤقتة! الهدف من تلك المنصات هي مشاركة الآخرين ما يحدث معك، ما الذي يدور في حياتك، هذا هو مفهوم التواصل. لكن ما الذي يحدث عندما تمنعك منصات التواصل الاجتماعي عن نشر التواصل؟

أن يصنع مارك زوكربيرج أكبر ميكروفون في العالم، ومن ثم يختار استئجار هذا الميكروفون للكاذبين والمستبدين أو أي شخص آخر يمكنه دفع سعر السوق، بلغة الأعمال والمكاسب المادية هذا الأمر منطقي، فالعالم ليس خيرًا وشرًا، أو أبيض وأسود فحسب، لكن الأمر المضحك والمثير للقلق هو أن يدّعي مارك أنه يفعل ذلك لصالح الجميع!

عمومًا، يبدو أن الهدف الأساسي من تلك المنصات على وشك الاختفاء، وما نراه الآن من تعسف ضد طرف، لا يملك سوى تلك المنصات ليوصل صوته إلى العالم، هو أكبر دليل على ذلك!

وفي النهاية، إن حاولت البحث عن بديل مناسب، فلن تجده للأسف. ببساطة، لأن شركة فيسبوك قررت أن تقضي على أي منافس حقيقي لها في مجال التواصل الاجتماعي!