وداعاً محمود العربي.. قصة الشاب الطموح وشهبندر التجار!
رحل عنا بالأمس شخصية من الشخصيات المميزة في مجال التجارة والأعمال في مصر، وهو "محمود العربي" مؤسس مجموعة العربي جروب ومصانع توشيبا العربي ورئيس مجلس إدارتها ونموذج من نماذج النجاح المُشرفة التي يُحتذى بها في مجال الأعمال.
لم يكن "محمود العربي" من عائلة ثرية أو مالكة لشركات، لكنه ترك وراءه ثروة تتجاوز المليار ونصف جنيه، ومؤسسة ضخمة يعمل بها أكثر من 40 ألف موظف، واستحق بجدارة لقب "شهبندر التُجار" واحترام كل من عرفه من قريب أو بعيد.
قصة هذا الرجل، من القصص المُلهمة التي لا تقل عن قصص نجاح المشاهير مثل جيف بيزوس وإيلون ماسك، فنحن هنا أمام طفل من قرية أبو رقية التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، بدأ تجارته في الصغر ببيع الألعاب النارية والبالونات في عيد الفطر، شأنه شأن الكثير من المحال الصغيرة في القُرى المصرية حتى الآن، لكن طموح "محمود" كان أبعد من حياة قريته الصغيرة.
ويحكي الراحل في كتابه "سر حياتي" أنه كان يوفر 30 أو 40 قرشا سنويا ليعطيها لأخيه الأكبر الذي كان يعمل في القاهرة، ليجلب له بضاعة من هُناك قبل عيد الفطر، وكان يتكسّب من وراء بيعها 15 قرشا.
وبالفعل انتقل إلى القاهرة عام 1942وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وبدأ في العمل بمصنع للعطور، لكنه سرعان ما تركه بعد أقل من شهر، وانتقل للعمل في محل بحي الحُسيني وكان راتبه 120 قرشاً في الشهر واستمر في ذلك المحل حتى عام 1949 ووصل راتبه حينها إلى 390 قرش.
لكن الشاب الطموح أراد أن يتعلم المزيد، فقرر الانتقال من محل القطاعي الذي كان يعمل به إلى محل جُملة لتعلم المزيد من أساسيات التجارة وظل في ذلك المحل لمدة 15 عام كاملة، بدأها براتب 4 جنيهات، واستمر حتى وصل راتبه إلى 27 جنيهاً وهو مبلغ كبير وقتها.
أول مشروع مُستقل
وفي عام 1963 كان لدى الشاب الناضج ما يكفي من المعرفة والطموح ليشق طريقه بنفسه ويبدأ رحلة عمله المُستقل، ولم يكن لديه ما يكفي من المال ليبدأ تجارته، فقام هو وصديق له بمشاركة شخص ثالث لديه المال، وهما بالمجهود وبالفعل أصبح لدى "محمود" أول محل بمنطقة "الموسكي" بالقاهرة. وكان رأس مال المحل وقتها 5 آلاف جنيه مصري.
وفي مشهد من المشاهد التي لا نراها سوى في الدراما المصرية، لكننا هنا نتحدث عن أحداث واقعية، مرض الشريك الثالث صاحب رأس المال بعد ثلاث أيام من بداية العمل، وكذلك مرض صديقه لمدة عامين، وهنا ظهر معدن الشاب الريفي الأصيل الذي أدار المحل بمفرده كان حريصاً على أن يُعطي شُركائه حقهم.
حقق "العربي" من محله الصغير أرباحاً عالية، وبعد فترة حدث خلاف بين الشُركاء وانفضت الشراكة، وكانت هذه النهاية هي نقطة انطلاق رحلة "محمود العربي" الحقيقية التي لم يوقفها شيئ سوى الموت.
اشترى الرجل الطموح محله الخاص به، وجلب أخوته للعمل معه، وكانت تجارته تقوم على الأدوات المكتبية والمدرسية، وسارت الأمور على وجه جيد حتى قررت الحكومة أن تصرف الأدوات المدرسية مجاناً للطُلاب فكانت ضربة موجعة لتجارة العربي.
لكن، رُب ضارة نافعة، أزمة تجارة الأدوات المدرسية جعلت العربي يتجه لمجال الأجهزة الكهربائية الذي استمر فيه حتى وفاته.
في ذلك الوقت كانت الأجهزة الكهربائية مثل التلفزيون والراديو والكاسيت في بداية انتشارها المُوسع داخل مصر، ومع "الانفتاح الاقتصادي" الذي شهدته الدولة في منتصف السبعينيات، وجد رجل الأعمال الصغير فرصته الذهبية في التوسع في تجارته.
توكيل توشيبا وبداية إمبراطورية توشيبا العربي
حصول "العربي" على توكيل توشيبا اليابانية له قصة لطيفة، توضح أن لكل مُجتهد نصيب، كان العربي يريد الحصول على توكيل لإحدى الشركات العالمية، وكان يتردد على محل من محلاته للأدوات المكتبية أحد الدارسين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو شاب ياباني يعمل لدى شركة "توشيبا" اليابانية، وتعرف على محمود العربي بشكل شخصي، وساعده على الحصول على توكيل توشيبا.
حيث كتب الشاب تقريراً لشركته، أكد فيه أن العربي أفضل من يُمثل توشيبا في مصر، فوافقت الشركة وبدأت رحلة "توشيبا العربي".
لكن الجزء الأكثر تميزاً في رحلة العربي لم يأت بعد، فمصانع توشيبا العربي بأيدي مصرية كانت الإنجاز الحقيقي الذي نفتخر بوجوده على أرض مصر.
في عام 1975 زار العربي اليابان وشاهد مصانع توشيبا الضخمة في مسقط رأسها، وقتها طلب إنشاء مصنع لتصنيع الأأجهزة الكهربائية في مصر، وهو ما تم فعلا، على أن يكون المكون المحلي من الإنتاج 40% رفعت لاحقا إلى 60% ثم 65% حتى وصلت إلى 95%، ومع تطور الإنتاج أنشأ شركة "توشيبا العربي" عام 1978.
منذ ذلك التاريخ بدأت قصة نجاح توشيبا العربي التي لا تخف على أي مصري، ويصل رأس مالها الآن مليار ونصف المليار وتًصدر مُنتجاتها إلى أكثر من 60 دولة حول العالم تحت شعار "صُنع في مصر"، ويصل عدد العاملين بها أكثر من 40 ألف عامل ومهندس وإداري، وكان الراحل يأمل أن يصلوا إلى 200 ألف.
وفي عام 1980، انتخب رجل الأعمال المصري محمود العربي عضوا بمجلس إدارة "غرفة القاهرة"، واختير أمينا للصندوق، ثم انتخبت رئيسا "لاتحاد الغرف التجارية" عام 1995.
وداعا محمود العربي 1932-2021
بعد رحلة كفاح استمرت 57 عام، انطفأت أمس شمس العربي، وأعلنت شركة العربي جروب رحيل "محمود العربي"، الخميس التاسع من سبتمبر 2021، ونعت الشركة مؤسسها قائلة" "لقد كان نموذجا مُشرفا للعطاء وحب الناس، وكان محل تقدير واحترام كل المصريين، وكان لنا نعم الأب والقائد الراشد الذي ستبقى سيرته العطرة وريادته في مجال التجارة والصناعة نموذجا فريدا تقتدي به الأجيال المقبلة، وستبقى أعماله الخيرية والإنسانية حاضرة في الوجدان".
لم يحصل "محمود العربي" على الشهادة الإبتدائية لكنه حصل على أعلى الأوسمة وحصل على أرفع وسام ياباني (وسام الشمس المشرقة) من الإمبراطور الياباني أكيهيتو في مايو 2009 لدوره في دعم وتحسين العلاقات الاقتصادية المصرية اليابانية.
لم يملك والد "محمود العربي" قطعة أرض يزرعها وكان فلاح مصري بسيط، لكن أبنه أنشأ إمبراطورية ووظف الآلاف من أبناء بلده، ومول العديد من الأعمال الخيرية ومن ضمنها جامع العربي في مسقط رأسه، الذي نودعه إلى مثواه الأخير منه.
?xml>