الدولار الرقمي: سر العملة التي ستقضي على الأموال كما نعرفها!
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن قرار جديد منذ أيام يدعو فيه المؤسسات الفدرالية الأمريكية لدراسة سوق العملات الرقمية، وعملية إطلاق دولار رقمي وتأثيرها على مختلف الجهات في الولايات المتحدة الأمريكية والاقتصاد العالمي.
القرار ومنذ إصداره أثار الكثير من ردود الفعل بين مؤيد ومعارض، خاصة أن تأييد المؤسسات الفدرالية له قد يسرع من وتيرة تنفيذه. فلماذا كل هذا الاهتمام بالأمر؟ وما هو الدولار الرقمي أصلًا؟ وهل يغير فكرتنا عن الأموال كما نعرفها الآن؟
ما وراء الدولار؟
قبل أن نبدأ الحديث عن الدولار الرقمي أو الأموال الرقمية عمومًا، دعونا نناقش معكم بشكل مبسط فكرة النقود وكيف تسيطر اليوم على حياتنا.
في الماضي وأثناء الحياة البدائية للإنسان كانت تستخدم المقايضة كوسيلة للحصول على أي شيء، مثلاً أنت مزارع وأنا صياد للسمك، سأعطيك مما أزرعه في مقابل أن تعطيني ما أحتاج من الأسماك.
هذه الفكرة البدائية استمرت لفترة لا بأس بها من التاريخ البشري ولكن مع تمدن وتحضر الإنسان اختفت وحل محلها الذهب والفضة. كل شخص يحدد قيمة منتجه ويبيعه في مقابل الذهب والفضة.
تطور الأمر قليلاً وأصبح البشر يسكّون العملة. العملة كانت ذهب أو فضة يتم سكّها (عملية حفر الوزن/ القيمة/ شعار الدولة إلخ…) ولكنها ما زالت في النهاية ذهب وفضة، معادن ثمينة عليها طلب مرتفع ويعترف بها جميع سكان الكوكب، فإذا انتقلت من دولة لأخرى بعملتك سيقبلها تجار الدول الأخرى بعد وزنها وكأنك تبيع ذهباً في مقابل الحصول على أي شيء.
في القرون القليلة الماضية ازداد حجم التجارة بصورة تجعل من الاعتماد على معادن ثمينة مثل الذهب والفضة أمراً مستحيلاً. هنا برزت فكرة أن يتم الاعتماد على العملات المعدنية الأخرى أو الأوراق المالية.
عملات ذهبية تم سكها في عصر الدولة الرومانية. نقلاً عن وزارة الثقافة الإيطالية
سيذهب الناس إلى البنك ليبدلوا الذهب والفضة التي يمتلكونها بأوراق مالية، وسيتعهد البنك أنه في مقابل كل عملة هناك قيمة ثابتة من الذهب يمكن لأي شخص في أي وقت أن يبدل عملته بهذه القيمة.
ظلت قيمة العملات مرتبطة بكمية الذهب المحتفظ به في البنك المركزي لكل دولة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى والثانية حيث اتجهت أغلب دول العالم ولأسباب سياسية واقتصادية، لن نتطرق إليها، لربط عملتها بالدولار الأمريكي الذي كان واحدًا من العملات القليلة التي ما زالت قيمتها مرتبطة بالذهب.
وظل الوضع لعدد قليل من السنوات حتى خرج الرئيس الأمريكي نيكسون في خطاب شهير ليعلن أن الدولار لم يعد مرتبطًا بالذهب لتستمد العملة الأشهر في العالم منذ حينها قيمتها من الطلب المرتفع عليها في المقام الأول بجانب عدد من العوامل الأخرى.
وحالياً تعتمد قيمة أي عملة على مقدار الطلب عليها، فكلما زاد الطلب ازدادت القيمة كأي شيء في عالمنا. هناك بالتأكيد عوامل أخرى مثل التضخم، والحروب، والسياسات الاقتصادية والسياسة ولكننا كما ذكرنا هذا شرح بسيط بدون التطرق إلى تفاصيل اقتصادية.
ما هو الدولار الرقمي أو العملات الرقمية للبنوك المركزية؟
من حيث القيمة فإن الدولار الرقمي له نفس قيمة الدولار الذي يطبع على ورقة خضراء ويتداولها الناس فيما بينهم. إذا كنت ستشتري رغيف خبز قيمته 1 دولار فإنك ستدفع إما ورقة خضراء مدون عليها 1 دولار أو سيتم تحويل دولار إلكتروني من حسابك إلى حساب التاجر.
حسناً قد يأتي في ذهنك أنه لا جديد في الأمر لأنه ببساطة يمكنك استخدام بطاقتك المصرفية وتحويل 1 دولار إلى حساب التاجر!
للأسف عزيزي القارئ أنت مخطئ. عندما تحول 1 دولار من حسابك البنكي يقوم البنك بإرسال ورقة بنكنوت 1 دولار إلى البنك الذي يتعامل معه التاجر. ما حدث هنا هو أنه بدلاً من أن تحمل أنت المال للتاجر حمله البنك نيابة عنك وأوصله إلى البنك الآخر نيابة عنك وسيقوم البنك الثاني بتوصيل هذه الورقة إلى التاجر نيابة عنك.
في السيناريو الذي تخيلته عزيزي القارئ تم نقل ورقة بنكنوت بقيمة 1 دولار بين 4 أطراف. ببساطة هذا لن يحدث مع الدولار الرقمي.
الدولار الرقمي هو عملة رقمية تماماً، لا يتم طباعتها ولا تمتلك رقماً مرجعياً أو علامة مائية، هي كود برمجي في Blockchain يريده البنك المركزي الفيدرالي الأمريكي أو أي بنك مركزي في أي دولة في العالم.
ما الفائدة من استخدام عملة رقمية؟
هناك فوائد بحسب Business Insider كثيرة ستعود على الحكومات من استخدام عملات رقمية. أولاً ستوفر الحكومات الأموال الطائلة المستخدمة في سك العملة. ثانياً ستنتهي فكرة تزوير العملة وخطرها الذي يهدد اقتصادات دول في أي لحظة. ستختفي من عالمنا فكرة نقل الأموال، لن تحتاج لنقل أموال من البنك إلى ماكينات الصراف الآلي ATM ولن تحتاج لتأمينها ولن تحتاج لنقل الأموال في طائرات بين الدول وبين بعضها.
سيتم التضييق على الفساد، والصفقات المشبوهة وغسيل الأموال. كل عملة تحرك ساكناً سيكون كل شيء مسجل عنها ويمكن للسلطات الوصول إليه في ثوان معدودة. ستنخفض كذلك رسوم التحويل من عملة لأخرى لأننا وكما ذكرنا لن يتم نقل الأموال من بلد لآخر بل سيتم تحريك شحنة كهربية فقط بين البلدين.
سيسهل كذلك على الحكومات مراجعة الضرائب المختلفة لسهولة الوصول لكل ما يتعلق بأي أموال يمتلكها الأفراد أو المؤسسات. سيسهل الأمر كذلك من وصول الإعانات المادية في حال حدوث الكوارث والأوبئة.
ما الفارق بين الدولار الرقمي والبيتكوين؟
ذكرنا في الأعلى أنه سيتم الاعتماد على تقنية الـ Blockchain في إنشاء الدولار الرقمي فهل ستكون هذه العملة مماثلة للبيتكوين والإيثيريوم مثلاً؟
الإجابة لا، العملات المشفرة مثل البيتكوين والإيثريوم تعتمد على الطلب عليها فقط في تحديد قيمتها. على النقيض فالدولار الرقمي لن يعتمد فقط على الطلب عليه بل على قرارات الحكومة الأمريكية الاقتصادية والسياسية وستكون له قيمة ثابتة أو لنكون أدق قيمة مستقرة ولا تقفز أو تهبط بين ليلة وضحاها.
لا تخضع العملات المشفرة لأي جهة حكومية ومن الصعب تتبع مستخدميها، على عكس الدولار الرقمي الذي سيلزم تداوله توافر مستندات حكومية من أجل فتح الحسابات البنكية والمحافظ الإلكترونية. وكما ذكرنا فإن كافة معاملات الأخير ستكون تحت أعين الحكومات.
فكرة التعدين لن تكون متاحة في العملات الحكومية الرقمية. الحكومات لن تعطِ الناس الأموال في مقابل تشغيل حواسبهم الشخصية!
اليوان الصيني الرقمي
الدولار الأمريكي الرقمي لن يكون أول عملة حكومية رقمية بل سبقه كل من اليوان الصيني والكرونا السويدية. لن نتطرق إلى الكرونا السويدية اليوم ولكننا سنلق نظرة على سعي الصين لإطلاق نسخة إلكترونية من عملتها بهذه السرعة.
تهدف الصين وبحسب The Wall Street Journal من وراء هذه الخطوة إلى نشر عملتها على نطاق أوسع. إذا كنت تريد شراء شيء باليوان الصيني أو كنت تريد السفر إلى الصين وتريد شراء اليوان فإنك غالباً لن تجده في البنوك المحيطة بك. ستجد الدولار أو اليورو الذي يمكنك شرائهم وتبديلهم فيما بعد باليوان عندما تذهب إلى الصين.
مع توافر محافظ اليوان الصيني الرقمي في كافة دول العالم سيسهل لأي مستخدم اقتناء اليوان ومع الكم المهول من المنتجات التي تبيعها الصين لكافة دول العالم سيكون من السهل أن تطلب أن يكون الدفع باستخدام اليوان وليس بالدولار فهو الآن متاح للجميع بصورة سهلة وآمنة.
هذه الخطوة ستزيد من الطلب على عملتها وستقلل من هيمنة الدولار الأمريكي على أسواق التجارة العالمية وهو شيء يصب سياسياً وعسكرياً في مصلحة الصين.
لماذا تفكر الولايات المتحدة في الدولار الرقمي؟
حسناً أظن أنه يمكنك الآن الإجابة على هذا السؤال. بخلاف فوائد استخدام العملات الرقمية فالسبب الأهم هو اللحاق بالصين والتضييق عليها في محاولة نشر عملتها خشية من كسر هيمنة الدولار على أسواق التجارة العالمية. هناك سبب آخر وهو تيقن الحكومة الأمريكية أن العملات الرقمية والمحتوى الرقمي بشكل عام هو سوق هام ولديه مستقبل واعد ومن الضروري أن تتواجد به كحكومة وكعملة حتى لا تذهب هيمنتها الاقتصادية على العالم مع الريح.
هل تتحول كافة الأموال إلى أموال رقمية في المستقبل؟
بالنظر حولنا وبالنظر إلى التطور الذي حدث في مجال المدفوعات خلال العشرون عاماً الماضية فإن تحول الأموال إلى أموال رقمية في المستقبل هو أمر حتمي. قد لا يحدث الأمر خلال السنوات القليلة المقبلة ولكن على الأقل بحلول عام 2040 أو 2050 لن تبقى النقود كما هي عليها اليوم، فالمعاملات النقدية الورقية لم يعد لها مكان كبير اليوم فما بالك بعد 20 أو 30 عام كيف سيكون الوضع؟
هل تكون العملات الرقمية نهاية الخصوصية؟
انتهاء الخصوصية قد يكون مصطلح بسيط مقارنة بما سيحدث. تخيل أن جهة ما يمكنها أن تعرف فيما تنفق أموالك، ماذا يتبقى لك، ورقة التوت؟
في دولة مثل الصين تقوم الحكومة منذ فترة بتقييم المواطنين بناء على تصرفاتهم عبر الإنترنت. تخيل أن حياتك يتم تقييمها بالمعلومات المتاحة حاليًا فماذا سيكون الوضع عندما تتاح المعلومات حول مدفوعاتك؟
قد ترى أن هذا يحدث فقط في الصين ولكن عزيزي القارئ هذا الأمر سيتكرر في كل الدول. في الوضع الحالي إذا أرادت أي جهة حكومية معرفة أي معلومات عن حسابك سيحتاج الأمر فتح تحقيق رسمي تشارك فيه جهات رقابية وقضائية. عند استخدام العملات الرقمية ستمر كافة العمليات عبر الحكومة أي أنها ستمتلك تلك المعلومات ولن تحتاج لإذنك من أجل استخدامها!
لذا يبدو أن بداية إطلاق الدولار الرقمي ستكون بداية النهاية للأموال الورقية التي تعودنا عليها!
?xml>