دليلك لفهم الاقتصاد: اليد الخفية وكيف بدأت الأنظمة الاقتصادية الحديثة؟
[quote الغرض من دراسة الاقتصاد ليس الحصول على إجابات جاهزة للأسئلة الاقتصادية المعقدة، لكن لكي نتعلم كيف لا يخدعنا الاقتصاديون! ]
الاقتصادية البريطانية جوان روبنسون..
"أحمد"، شاب في الثلاثينيات من عمره، متزوج ولديه طفلة صغيرة، ينطلق في رحلته الصباحية المعتادة إلى العمل في إحدى الشركات الخاصة، ثم في طريق عودته إلى المنزل يمر على السوق، لشراء مستلزمات البيت من السوبر ماركت أولًا، ربما بعض الجبن وأكياس الشيبسي وعلبة اللبن كامل الدسم كما أكدت عليه زوجته. ثم ينطلق إلى بائع الخضروات، ليشتري اليوم كيلو من البطاطس، ونصف كيلو من الطماطم، وربما ربع فلفل. يبدو أن المدام تنوي صنع صينية بطاطس في الفرن!
كل هذا يعدّ روتينًا يوميًا لـ "أحمد"، لكن اليوم عند دخوله إلى السوبر ماركت وجد أن أسعار البضائع تزداد، كيلو الجبن لم يكن بهذا السعر أمس، لحظة من فضلك، كيف ازداد سعر كيس الشيبسي وعلبة اللبن بهذه السرعة؟ ما الذي يحدث هنا؟
"أحمد" لا يملك سوى راتبه البسيط، ويضع ميزانية محدودة للأكل والشرب، لكي يتمكن هو وأسرته من استكمال الشهر بهذا الراتب. لكن الأسعار في زيادة مستمرة، و"أحمد" لا يفهم ما الذي يحدث، ولتزداد الحيرة، يخبره البائع أن الدولار يرتفع يا أستاذ "أحمد"، ثم يشاهد في الأخبار أن البنك الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة، وأن التضخم هو ما يفعل بنا كل هذا!
تضخم؟ أسعار الفائدة الأمريكية؟ دولار يرتفع؟ أزمة عالمية في الشحن؟ أنظمة اقتصادية مختلفة؟ العرض والطلب؟ استثمار مباشر؟ أسواق الأسهم والبورصة والأموال؟ البطالة والكساد؟ ما كل هذا الصداع؟
"أحمد" لا يفهم كل هذا، لكن للأسف كل تلك المصطلحات الاقتصادية تؤثر فعلًا على حياته، وعلى حياة الملايين في بلده وفي العالم أجمع.. لهذا نحن هنا! سنخوض معًا رحلة قصيرة إلى عالم الاقتصاد المعقد، ونتعرف إلى أهم المصطلحات الاقتصادية، التي نسمعها يوميًا في نشرات الأخبار وفي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، في سلسلة "دليلك المبسط لفهم المصطلحات الاقتصادية المعقدة"، لكي نفهم الوضع الاقتصادي الحالي لبلداننا وللعالم.
والبداية مع تاريخ سريع لعلم الاقتصاد، وكيف ظهرت الأنظمة الاقتصادية الحالية كالرأسمالية، وكيف يمكننا تقسيم الاقتصاد. هيا بنا!
كيف بدأ علم الاقتصاد؟
بداية علم الاقتصاد، في أبسط أشكاله، ربما ترجع إلى العصر البرونزي، تحديدًا بين عامي 4000 إلى 2500 قبل الميلاد، في مناطق مختلفة من العالم القديم، مثل حضارة بابل والحضارة المصرية القديمة. تطورت حينها أنظمة التأشير عبر وضع علامات على ألواح الطين وأوراق البردي والمواد الأخرى، بهدف حساب المحاصيل والماشية وقطع الأراضي. نشأت تلك الأنظمة الحسابية بجانب اللغة المكتوبة، وتضمنت في النهاية وسائل لتتبع بيع الممتلكات، وتسجيل الديون، وحساب الفوائد المركبة، وغيرها من الأدوات الاقتصادية التي لا تزل تُستخدم حتى اليوم.
ولكن إن نظرنا إلى اقتصاد العالم الحديث، سنجد أن بدايته كانت مع الفيلسوف والمفكر الإسكتلندي آدم سميث. منذ القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر تقريبًا، كان النظام الاقتصادي المسيطر على العالم حينها هو المذهب التجاري، وهو يستند إلى مبدأ أن ثروة العالم كانت ثابتة، ولهذا حاولت عديد من الدول الأوروبية تجميع أكبر حصة ممكنة من تلك الثروة، عبر زيادة صادراتها والتقليل من وارداتها بفرض التعريفة الجمركية.
اعتقد آدم سميث أن المنافسة في السوق تنظم نفسها ذاتيًا، ولا يجب أن تشارك الحكومات في التجارة والأعمال عبر فرض الجمارك أو الضرائب أو أي وسائل أخرى، إلا إن كانت ستحمي المنافسة في السوق الحرة. تعدّ كثير من النظريات الاقتصادية اليوم، على الأقل جزئيًا، رد فعل على فرضيات آدم سميث المحورية في هذا المجال، أو كتابه الشهير الذي نشره عام 1776 تحت اسم "ثروة الأمم - The Wealth of Nations". وهو نفس العام الذي نشأت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، لتتخذه مرجعًا لتأسيس الدولة الحديثة.
في هذا الكتاب، وضع سميث كثير من آليات الإنتاج الرأسمالي والأسواق الحرة والقيمة. وأظهر أن الأفراد الذين يتصرفون بناءً على مصلحتهم الشخصية يمكنهم، كما لو كانت تقودهم "يد خفية"، خلق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والازدهار للجميع. ومن هنا ظهرت الأنظمة الاقتصادية الحديثة، والبداية كانت بالرأسمالية!
اليد الخفية.. كيف بدأت الأنظمة الاقتصادية الحديثة؟
تعدّ الرأسمالية نظامًا اقتصاديًا يمتلك فيه الأشخاص ويسيطرون على الممتلكات وفقًا لما يخدم مصالحهم، ويحدد العرض والطلب قيمة الأسعار بحرية في الأسواق، وليس كما كانت تحددها الحكومات في السابق، بصورة تخدم مصالح المجتمع. كما يمكن للقطاع الخاص شراء خدمات العمالة مقابل دفع الأجور.
أهم ما يميز الرأسمالية هو الدافع لتحقيق الربح، كما ذكر آدم سميث: "ليس من إحسان الجزار أو الخباز أن نحصل على عشاءنا، ولكن من نظرتهم إلى مصلحتهم الخاصة".
تلك المصلحة الذاتية المنطقية هي التي قد تؤدي إلى الرخاء الاقتصادي في النهاية. على مدار القرن الماضي، كان المنافس الأساسي لها هي نظام الاشتراكية، الذي تمتلك فيه الدولة كل وسائل الإنتاج، وتسعى المؤسسات المملوكة للدولة إلى زيادة المصلحة الاجتماعية بدلًا من زيادة الأرباح.
بالعودة إلى "أحمد"، فإن الرأسمالية تتمثل في ذهابه إلى السوبر ماركت، الذي يملكه شخص ما، أو شركة خاصة، يعمل بها موظفون، يتقاضون أجورهم، ويبيعون المنتجات المختلفة، التي ينتجها مصنع ما، يملكه شخص آخر، وينقل البضائع عبر شاحنات يملكها شخص ثالث. وتتحدد الأسعار بناءً على العرض والطلب. "أحمد" نفسه يعمل في شركة خاصة ويتقاضى راتبه ويقدم خدمات أخرى للمجتمع!
اليد الخفية للنظام الرأسمالي!
تحدث تلك العملية لأن كل شخص من هؤلاء يبحث عن مصلحته ومكاسبه الخاصة. وفي النهاية يكون الناتج هو وصول المنتج النهائي للمستهلك، "أحمد" في هذه الحالة. وكل تلك الأحداث هي ما أطلق عليه آدم سميث مصطلح "اليد الخفية". أي إن النظام الرأسمالي والسوق الحرة لا تحتج إلى يد تنظمها لكنها تنظم نفسها تلقائيًا، دون تدخل من الحكومات، وهو ما أطلق عليه مبدأ "Laissez-Faire" أو اترك كل شيء لمجراه الطبيعي.
من المفترض أن يكون دور الحكومات هنا محدود، ويقتصر على حماية حقوق المواطنين والحفاظ على نظام الأسواق والتأكد من حماية المنافسة. اليوم معظم الاقتصادات الرأسمالية تعدّ خليطًا بين الأسواق الحرة وبين التنظيم الحكومي.
قد يتجاوز النمو الاقتصادي، في ظل الاقتصادات الرأسمالية، كثيرًا النظم الاقتصادية الأخرى، ولكن تظل الفجوة الضخمة في الثروة أحد أكثر مشاكلها المثيرة للجدل. هل يؤدي تراكم رأس المال الخاص إلى تركيز الثروة في أيدي بعض الأشخاص المختارين، أم تقلل قوى النمو والمنافسة والتقدم التكنولوجي من تلك الفجوة؟
تلك الأسئلة تضيف مزيدًا من النيران إلى الجدل الدائر حول توزيع الثروة في الأنظمة الرأسمالية، وتشجع اعتقاد الكثيرين بضرورة تدخل الحكومات وتوجيه الاقتصاد في الاتجاه الصحيح عبر السياسات الحكومية، لضمان استمرار عمل "اليد الخفية" لمصلحة المجتمع، وليس لمصلحة القلة التي تملك رأس المال!
الاقتصاد الكلي والجزئي.. كيف ينقسم الاقتصاد؟
في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1929، حدث أكبر انهيار للبورصة الأمريكية في التاريخ، حتى إن اليوم أُطلق عليه "الخميس الأسود". هذا الانهيار كان بداية انهيار الاقتصاد الأمريكي حينها، والدخول في مدّة من الكساد والبطالة دامت لأكثر من عقد من الزمن، وهي الحِقْبَة المعروفة تاريخيًا باسم "الكساد العظيم".
خلال حِقْبَة الكساد العظيم، لم تتمكن النظرية الاقتصادية وقتها من شرح أسباب الانهيار الاقتصادي الحاد في مختلف أرجاء العالم، أو حتى توفر حلًا سياسيًا عامًا ومناسبًا لإعادة الإنتاج وإعادة الوظائف والعمل للملايين من الأشخاص.
وهنا ظهر المفكر والاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بثورته الجديدة في التفكير الاقتصادي، وظهر مفهوم تقسيم الاقتصاد إلى الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي!
ولكن، كما يقول العجوز رفعت إسماعيل دومًا، هذه قصة أخرى!
انتظرونا مع صديقنا "أحمد" في المقال القادم لنكمل شرح المفاهيم الاقتصادية المعقدة، وكيف يمكننا أن نفهمها!
?xml>