في عالم المافيا هناك مبادئ وقوانين لا يجرؤ أحدٌ على انتهاكها، الشرف والعائلة فوق كل شيء، وما دونهما فرعي في الحياة! العنف أساس كل شيء، وهي اللغة التي يعرفونها جميعًا، ولا يوجد طريق للخروج سوى بالموت أو بـ"العار". الدون هو ملك تلك المملكة الشاسعة، والآمر والناهي فيها، يتمنى الجميع رضاه، ويخشى الجميع سخطه. هذا هو عالم المافيا باختصار كما عرفناه، ولطالما برعت سلسلة مافيا في تجسيده بعبقرية وأداء تمثيلي قوي يتفوق على معظم الأفلام التي تتناول هذا العالم. لعبة Mafia الجديدة لا تختلف عن سابقاتها في ذلك، بل وتتفوق على بعضهم في جوانب معينة، ولكن بين كونها فيلمًا تفاعليًا ولعبة فيديو، هل تستحق التجربة؟

أولًا: القصة (دون حرق)

تدور أحداث القصة في صقلّية، مرتع المافيا في بداية القرن العشرين، وتحديدًا عام 1903، وتكون البداية مع مراهقة قاسية يعيشها "إنزو فافارا" كعامل في أحد مناجم الكبريت التي يتزعمها زعيم إجرامي معروف في المنطقة، اسمه "سبادارو". تبدأ القصة بطموح بسيط يلمع في عيون البطل إنزو وصديقه المُقرب Gaetano إذ يطمحان للرحيل عن المنجم والهروب إلى مكان بعيد حيث لا يلاحقهم أحد، وينالان حريتهما. لكن الأمور تسوء إلى أن يستطيع إنزو الهرب والالتحاق بأسرة "توريسي"، الأسرة الثانية في تلك المنطقة التي تقسم نفوذها مع أسرة "سبادارو" في صقلية، ويصبح إنزو ملزمًا بخدمة هذه الأسرة والانخراط معهم في أنشطتهم الإجرامية مهما كانت.

نظرًا لتعقّد الأمور على الصعيد الأخلاقي، وحلم إنزو في الهرب بعيدًا عن كل شيء في عالم لا يؤذي فيه أحدًا وأن يحظى بحياة أسرية عادية، فسرعان ما تتعارض الطرق ويضطر إنزو إلى الاختيار، وتضعه الأحداث أمام خيارات عدة في آن واحد لا شيء مشترك فيما بينهم سوى أن أحلاهم مُر، وأفضلهم يحمل في طيّاته أطيافًا من المعاناة وألوانًا من العذاب النفسي، فماذا سيكون الاختيار؟

الحقيقة أن قصة Mafia: The Old Country قصة قصيرة، تمتد إلى 15-17 ساعة لعب فقط، وقُدمت بصورة مُكثّفة دون لحظات جانبية. جميع أحداث اللعبة أساسية ومهمة وجميعها يصب في صالح الحبكة الأساسية، وقد يُسعد هذا البعض أو المعظم. أما أنا، فقد تمنيت لو أنه كان هناك فرصة للتطرق للعناصر الجانبية في القصة ومعرفة المزيد حول قصص الشخصيات الفرعية مثل "تشيزري" و"لوكا" وحتى "الدون توريسي" الذين لم نرهم كثيرًا بحلول نهاية الأحداث. هؤلاء كانوا شخصيات أساسية مكتوبة بعناية لكنهم أدوا دورهم فقط، وقد تمنيت أن نتعرف أكثر على ماضيهم وأن نقضي معهم لحظات أكثر تعزز من شعور وجودهم وكأنهم أشخاص حقيقيون.

على الجانب الآخر، القصة المُكثفة والسرد سريع الوتيرة خدموا القصة كثيرًا وجعلوها أروع وأكثر جاذبية. القصة مقسمة إلى 14 فصل، كل فصل يمتد لحوالي ساعة إلى ساعة ونصف، ويأخذك إلى مناطق وأماكن مختلفة. الاعتماد كبير جدًا على المقاطع السينمائية في سرد الأحداث، ولمن يزعجهم التنقل المستمر بين الجيم بلاي والمقاطع السينمائية فإن هذا الأمر يتم هنا كثيرًا نظرًا لأنها لعبة خطية سينمائية قصصية، وهنا تظهر أهم مشكلات اللعبة، وهي أسلوب اللعب.

شعرت أن الخط الفاصل بين أسلوب اللعب والمقاطع السينمائية هو خط فاصل صغير وضئيل جدًا بالمعنى السيء، أي أنه يجعلك تشعر بأن أسلوب اللعب موجود فقط حتى يُطلق على هذا المُنتج "لعبة"، ولكنه في واقع الأمر لا يخدم الأحداث ولا يدفعها للأمام كثيرًا. كل المعارك والمواقف في الجيم بلاي كان من الممكن تضمينها في مقاطع سينمائية وتحويلها إلى فيلم، وهو أسوأ فخ تقع فيه الألعاب الخطية.

أسلوب اللعب: أضعف جوانب اللعبة

يقع المطور Hanger 13 في معضلة كبيرة في أسلوب اللعب، وهي محاولة المزج بين "تبسيط التجربة" مع جعل ساعات اللعب "ذات قيمة حقيقية". ففي النهاية نحن نلعب الألعاب من أجل تفاعلنا ومدخلاتنا على التجربة، وليس فقط من أجل أن نشهد القصة تجري أحداثها أمامنا على الشاشة. لا أستطيع إنكار أن لعبة Mafia: The Old Country حاولت أن تقدم بعض الأنظمة الفرعية التي من شأنها تنويع التجربة، ولكن في الوقت نفسه لا أجد تفسيرًا لفشلهم في فعل ذلك!

تجربة اللعبة تمتلك ثلاث أعمدة أساسية:

  1. التنقل بالمركبات كالخيول أو السيارات.
  2. التخفي.
  3. القتال المباشر الذي ينقسم إلى شقين: القتال بالأسلحة النارية، والقتال بالسكين (المطوة كما تُعرف في مصرنا الحبيبة)، وهي سلاح كلاسيكي يعتبر من أهم الأسلحة والأدوات الشخصية في صقلية في تلك الحقبة التاريخية.

أما السيارات والخيول، فهناك إمكانية للتنويع والتغيير بينهم. لكن في الوقت نفسه، لا تمنحك اللعبة فرصة للاختيار من بين أسطول سياراتك الذي اشتريته واكتنزته سوى في فرص معدودة. هناك عملة داخلية في اللعبة وهي الديناري، يمكنك جمعها من الأعداء لشراء الإكسسوارات والمركبات والخيول، وحتى الأسلحة والسكاكين، ولكن ما قيمة هذا إذا كان اختيارك لهم لا يعني أنك ستختار مركبتك قبل كل مهمة؟

الأسلحة النارية في اللعبة محدودة، ويعتبر ذلك دقيقًا بالنظر للحقبة الزمنية التي تجري فيها أحداث اللعبة. ففي ذلك الوقت، كانت الأسلحة النارية مُكلّفة وكان مداها ضئيل وكفائتها أقل بكثير من الآن. القتال في معظم أحيانه سيكون يدوي بالسكاكين، ويشبه هذا النظام في اللعبة نظام ألعاب القتال، حيث يقف البطل وخصمه في مكان أشبه بالحلبة القتالية، ويهاجمون بعضهم. يمكنك خلال هذه المعركة صد الضربات أو تنفيذ واحدة من ثلاثة أنواع مختلفة من الهجمات، إحداهم يكسر دفاعات العدو، والآخرين يشكلان ضررًا كبيرًا، غير أن هناك ضربات لا يمكنك صدّها، ووقتها ستلجأ إلى التفادي (دودج). نظام القتال هذا ممتع ويقدم تحدّيًا متوسطًا، لكنه ليس بالشيء المتنوع الكافي لجعل التجربة أقل تكرارًا.

أما التخفي، فهو الأضعف بين الأعمدة الثلاثة لأسلوب اللعب، حيث يقدم تجربة بدائية. تصميم البيئات التي تتيح لك التخفي محدود، ولا يوجد خيارات للوصول إلى هدفك. في 100% من مهمات التخفي كنت أواجه رسالة "عد إلى منطقة المهمة وإلا فشلت" وكان هناك طريقًا واحدًا مرسومًا لإتمام المهمة والوصول للهدف. في ذلك الطريق هناك حراس، ليسوا أذكياء ولا تلتقي طرقهم ببعضهم البعض، وبالتالي، لا يكتشف أحدهم أن زميله مقتول في مكانه سوى نادرًا جدًا!

في حالة قتلت أو طرحت خصمًا لك أرضًا، يمكنك حمله جثته وإخفائها في صناديق مخصصة على غرار لعبة Hitman، ولكن هل يكفي هذا لجعل التخفي ذو معنىً حقيقي؟ الإجابة: لا، ولكن حتى مع كل هذه العيوب التي سردتها، فإن التخفي لم يكن "سيئًا" وإنما أكتفي بوصفه فقط بأنه سطحي. فهناك ألعاب تقدم تسلل "سيء" فعلًا دون أي وجه من أوجه المتعة فيه، وآخر هذه الألعاب كان Unknown 8 الصادرة في أواخر 2024. الميزة الوحيدة للتخفي في اللعبة هو إتاحة إمكانية سرقة ونهب الأعداء والاستحواذ على ما لديهم من ذخيرة وضمادات للعلاج وأموال.

أنصح الجميع بتجربة اللعبة على أعلى صعوبة، لأن معارك إطلاق النار تكون فيها أصعب، ويتحرك الأعداء بطرق تجبرك على التحرك دومًا، وتحتاج عادةً إلى عدد طلقات قليل جدًا للموت. ضع ذلك بجانب أن معدل اهتزاز الأسلحة وارتدادها مرتفع، ليكون أمامك حل وحيد وهو محاولة الاقتراب من الأعداء. على الصعوبات العالية يضغط عليك الأعداء ويُحصروك من أكثر من اتجاه، ويكون القتال معهم أكثر متعة لأنه سيكون عليك التعامل مع تحركاتهم في نفس توقيت علاجك لنفسك، والتأكد من أن أحدًا منهم لن يصيبك، وقتها فقط تصبح المعارك ممتعة وذات تحدٍ مرتفع.

أما عن الإكسسوارات، فهناك قلادة يرتديها إنزو يمكنك تخصيصها بحيث تؤثر بشكل محدود على أسلوب اللعب، مثل أن تضيف لها قطعة تزيد من مقاومتك للرصاص أو تقلل من ضرر السكاكين عليك، ومميزات مشابهة. أما عن الأنشطة الجانبية، فهي عبارة عن أشياء قابلة للجمع فقط لا غير. بدايةً من مجلات تعرض أحداثًا حقيقية من هذه الحقبة، إلى تماثيل على شكل ذئب، ومقتنى على شكل شعار ما يمكنك تبديله لدى التجار مقابل المال، الذي يُمكّنك من شراء المزيد من المركبات أو الإكسسوارات أو الأسلحة، التي لا يوجد لها تأثير حقيقي في أسلوب اللعب.

الرسوم والصوتيات: متعة للعين والأذن في معظم الأوقات

تقدم لعبة Mafia: The Old Country واحدة من أفضل الموسيقى التصويرية في ألعاب هذا العام. لا شيء يفوق لحظات القصة المتوترة مع الموسيقى ذات الطابع الصقلي القديم، وكأننا عدنا مجددًا إلى فلاشباك فيتو كورليوني من فيلم The Godfather 2. صقلية نفسها جميلة جدًا بصريًا وإن افتقرت للتنوع، ولكن يجب التنويه بأن الافتقار للتنوع البيئي هنا ليس بسبب كسل من المطور وإنما لأن أحداث القصة تجري على قطعة أرض صغيرة عبارة عن منطقة ريفية، وأرض زراعية واسعة، مع مناطق جبلية وتجمعات مدنية بسيطة وبدائية.

هذه البيئة قدمت شيئان: الأول، وهو التنويع الكبير جدًا عن الأجزاء الماضية، وقد كسبت اللعبة من خلف ذلك تقديم تجربة ليس لها مثيل، والثاني هو ربما العكس تمامًا، فالابتعاد الزائد عن ما قدمته الأجزاء الماضية أعطاني شعور أنني أمام نسخة أقرب من RDR2 من مافيا، وذلك بالطبع لأن الأسلحة قديمة، والخيول تلعب دورًا أساسيًا.

الشخصيات من بين الأجمل في السلسلة، من حيث التصميم البصري والأداءات الصوتية والتمثيل. كل شيء مثالي فيما عدا شخصية إيزابيلا أبنة الدون توريسي، التي شعرت أن وجهها يبدو آليًا، وأن شكلها ليس واقعيًا كما كنت أتوقع أو أريد. لكن على الناحية الأخرى، أدائها التمثيلي كان ممتازًا ولا تشوبه شائبة. أعجبني أن الأداءات الصوتية قُدمت بالإنجليزية بلهجة إيطالية تشعرك وأنك فعلًا في صقلية أو على الأقل تستمع لحوارات بين شخصيات إيطالية الأصل.

الأداء التقني:

تقدم اللعبة طورين تقنين، هما الأداء والدقة. يستهدف الأول 60 إطار بالثانية، ويستهدف الثاني حوالي 30 إطار بالثانية مع دقة عرض أعلى. لكن كلا الطورين يعاني من أداء متذبذب يبين لنا أن اللعبة تحتاج إلى المزيد من التحسين على الصعيد التقني، وأنها ربما لم تكن جاهزة 100% للإطلاق. لكن في الوقت نفسه، لم أشعر أن التجربة تأثرت أو أنني أنزعجت كثيرًا من تساقط الإطارات الذي صادفته.

الترجمة العربية: أين هي؟

للأسف، لا تدعم اللعبة اللغة العربية، وتتطلب لغة إنجليزية قوية جدًا لفهم الأحداث كاملةً دون مشكلات. كون اللعبة بـ50$ يجعل من الصعب التساؤل عن غياب دعم التعريب، ولكن في الوقت نفسه هناك ألعاب مستقلة بأسعار أقل تدعم اللغة العربية، وحتى مافيا نفسها تدعم لغات لأسواق حجمها أقل بكثير من حجم السوق العربي من حيث القوة الشرائية.

من وجهة نظرنا، لا مبرر لعدم ترجمة اللعبة، ونتمنى من المطور في المستقبل أن يقدم ترجمة عربية للنصوص والقوائم ليستطيع الجميع الاستمتاع باللعبة.

عودة للجذور

في النهاية، تعتبر تجربة Mafia: The Old Country امتدادًا للسلسلة - فيما عدا MAFIA 3 - تقدم قصة خطية وبيئة غير مفتوحة وخيارات أسلوب لعب محدودة. هي أقرب إلى Uncharted من GTA، ولكن في الوقت نفسه هي الأقل تنوعًا في تصميم المهمات في السلسلة بأكملها. تحمل القصة مع شخصياتها التجربة على أكتافها، لتُقدَّم كواحدة من أقوى قصص هذا العام بما تحويه من شخصيات رائعة. وإذا كنت من محبي السلسلة القدامى، فهذه اللعبة خيار سهل لترشيحها لك.