افتح هاتفك، وراقب ما يحدث دون أن تفعل شيئًا. تجد تطبيقًا يكتب تقريرك اليومي، يرسل بريدًا للعمل، يجد أفضل وقت لاجتماعك التالي، بل ويردّ على رسائل أصدقائك نيابة عنك. لا عجب، فالعالم دخل مرحلة جديدة من الذكاء الاصطناعي، حيث لا تكتفي الأنظمة بالاستجابة، بل تبادر بالتفكير، والتخطيط، واتخاذ القرار.

هذا هو الذكاء الاصطناعي المنفّذ (Agentic AI). جيل جديد من الأنظمة الذكية لا ينتظر أوامرك، بل يتصرّف وفقًا لهدف واضح، ينفّذ خطوات متعددة دون تدخل بشري، ويواصل العمل باستقلالية تُشبه في بعض الأحيان تصرفات البشر. قد يبدو الأمر خياليًا، لكنه يتحقق أمام أعيننا، بخطى أسرع مما نتخيّل.

في هذا المقال، نأخذك في جولة داخل هذا العالم الجديد. نسلّط الضوء على معنى Agentic AI، كيف يعمل، أين يُستخدم، ولماذا يُثير حماسة وقلقًا في آنٍ واحد. هل هو خطوة نحو رفاهية غير مسبوقة؟ أم بداية لفقدان السيطرة؟ الإجابة قد لا تكون بسيطة، لكن فهم هذه التقنية هو أول الطريق نحو اتخاذ قرارات واعية في عصر يتغير فيه كل شيء بين ليلةٍ وضحاها.

ما هو الذكاء الاصطناعي المنفّذ؟

صورة توضيحية للذكاء الاصطناعي المنفذ - المصدر: Forbes

لا يشبه الذكاء الاصطناعي المنفّذ (Agentic AI) أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدية التي اعتدنا عليها في حياتنا اليومية. فعندما تسأل Siri أو ChatGPT سؤالًا، تحصل على إجابة لحظية وتنتهي المهمة عند هذا الحد. لكن في الذكاء الاصطناعي المنفّذ، لا تقتصر العلاقة على الاستجابة، بل تبدأ من تحديد الهدف، مرورًا بالتخطيط، ووصولًا إلى التنفيذ، دون تدخل بشري مباشر.

Agentic AI هو النوع الذي يتصرّف كوكيل مستقل، يفهم المطلوب، ويقسّمه إلى خطوات، ويتخذ قرارات بطريقة ذاتية للوصول إلى النتيجة. لا ينتظر الأوامر التفصيلية، بل يملأ الفراغات من تلقاء نفسه، ويعيد التكيّف عند ظهور عراقيل. لا يحتاج هذا الذكاء لأن تقول له "افعل 1 ثم 2 ثم 3"، بل يكفي أن تقول له "أنجز هذه المهمة"، فيبدأ هو في التفكير مثل الإنسان: من أين أبدأ؟ ما البدائل؟ ماذا أفعل لو فشلت هذه الخطة؟ وكيف أعرف أنني وصلت إلى الهدف؟

هنا يكمن الفارق الجوهري: لسنا أمام آلة تنتظر التعليمات، بل أمام كيان رقمي لديه مبادرة ونية تنفيذية. وهنا تبدأ الأسئلة الكبرى: إلى أي مدى يمكننا الوثوق بهذه الأنظمة؟ وهل ستكتفي بتنفيذ ما نريد، أم تبدأ يومًا ما بتنفيذ ما تراه هي مناسبًا؟

أين نرى Agentic AI اليوم؟

أداة Auto-GPT - المصدر: dark prompts

رغم أن المفهوم يبدو حديثًا نسبيًا، إلا أن ملامح الذكاء الاصطناعي المنفّذ بدأت تتسلل بالفعل إلى أدوات وخدمات نستخدمها أو نسمع عنها يوميًا.

في البداية، ظهرت أنظمة مثل AutoGPT وBabyAGI، وهي نماذج مفتوحة المصدر تعتمد على واجهات GPT، لكنها تعمل بطريقة مختلفة تمامًا:

Auto-GPT: هو أحد المشاريع الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، وقد طُور كمبادرة مفتوحة المصدر على يد Toran Bruce Richards في مارس 2023. يعتمد على نماذج اللغة المتقدمة مثل GPT-4 وGPT-3.5 التي طوّرتها شركة OpenAI، ويتميّز بقدرته على تنفيذ المهام بشكل شبه ذاتي بناءً على تعليمات بسيطة بلغة طبيعية. ما يجعله مختلفًا عن الأنظمة التقليدية مثل ChatGPT هو أنه لا يحتاج إلى تدخل بشري مستمر، بل يستطيع التخطيط واتخاذ القرارات وتعديل خطواته تلقائيًا للوصول إلى الهدف الذي يحدده المستخدم.

يعتمد Auto-GPT على أسلوب تقسيم الأهداف الكبيرة إلى مهام فرعية صغيرة، ثم يعمل على تنفيذها واحدة تلو الأخرى، مستخدمًا مجموعة متنوعة من الأدوات مثل محركات البحث، وواجهات برمجة التطبيقات، ومديري الملفات. كما يستطيع كتابة الشيفرات البرمجية وتصحيحها، وتحليل البيانات، وإنشاء تقارير متكاملة. وقد ساعدت هذه الخصائص في جعله أداة فعالة، خاصة في مجالات مثل البرمجة، والتسويق الرقمي، وجمع المعلومات، وحتى إعداد المحتوى.

صورة توضيحية لهيمنة الذكاء الاصطناعي على البيانات - المصدر: Insights

في إصداراته الأحدث حتى منتصف عام 2025، زُود Auto-GPT بمزايا إضافية مثل محرّك تحرير الصور المعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتحسينات في الأمان، وتجربة مستخدم أكثر سلاسة. ومع ذلك، لا تزال هناك بعض التحديات التي تواجهه، من أبرزها ما يعرف بالهلوسة أو الانحراف عن السياق المطلوب، بالإضافة إلى بعض المشكلات المتعلقة باستقراره أثناء تنفيذ المهام المعقدة أو الطويلة.

يُستخدم Auto-GPT اليوم في تطبيقات متنوعة تتراوح من إدارة المشاريع إلى المساعدة في كتابة الأكواد وتحليل الأسواق. وقد ظهرت أدوات منافسة له مثل AgentGPT وAutoDev من مايكروسوفت، مما يعكس ازدياد الاهتمام العالمي بوكلاء الذكاء الاصطناعي القادرين على العمل بستقلال. ورغم أنه لا يزال في مرحلة التطوير والتجريب، فإنه يُعد من أبرز الأمثلة على مستقبل الذكاء الاصطناعي القائم على التعلم الذاتي.

أداة Baby AGL - المصدر: KD-Nuggets

Baby AGI: يُعد أداة مفتوحة المصدر مصمّمة للباحثين والمطورين والهواة المهتمين باستكشاف الذكاء الذي يفهم ويتعلّم بطريقة شبيه بالبشر. من خلال تقنيات التعلم القابلة للتكيف، يستمد Baby AGI قدرات تمكنه من التأقلم مع التغيرات والتعلم من التجارب.

يعتمد النظام على مفهوم التعلّم بالنقل (transfer learning)، حيث يستوعب المعرفة من مشكلات سابقة ويطبقها على تحديات جديدة، كما يمتاز بمعالجة اللغة الطبيعية، مما يتيح له فهم النصوص وتوليد ردود قريبة مما يكتبه الإنسان . وباعتباره مشروعًا مفتوح المصدر، فإن تطويره يتم ضمن مجتمع عالمي نشط يدعم الشفافية والابتكار.

رغم هذه الإمكانيات، يُعد Baby AGI معقّدًا نسبيًا ويتطلب موارد قوية لتشغيله، كما لا يزال في مراحل البحث والتجريب دون استخدامات تجارية واسعة، إلا أن أدوات التحكم والتكيف فيه تجعله منصة واعدة لدراسة الذكاء الاصطناعي القادر على التعلّم المستقل والتفكير الاستراتيجي.

من هنا انطلقت فكرة الوكلاء الأذكياء (AI Agents)، وهي تطبيقات مبنية على الذكاء الاصطناعي تقوم بمهام معقدة بستقلال، على سبيل المثال:

أداة Devin - المصدر : OpenCV

البرمجة الذاتية: أدوات مثل Devin، وهي أداة ذكاء اصطناعي متقدمة طورتها شركة Cognition Labs، وتُعد أول "مهندس برمجيات مستقل" يعمل بشكل شبه ذاتي. صُمّمت لتقوم بمهام مثل كتابة الكود، وإصلاح الأخطاء، وتنفيذ المشاريع، والبحث في التوثيق، مما يجعلها أشبه بمبرمج افتراضي يعمل داخل بيئة تطوير متكاملة.

وفي إصدارها الثاني الذي أُطلق في أبريل 2025، زُود بقدرات إضافية مثل تشغيل عدة وكلاء في الوقت نفسه، وأدوات للبحث الذكي والتوثيق.

التحكّم في الأنظمة الفعلية: أنظمة Agentic AI بدأت تدخل مجالات مثل الروبوتات الصناعية، والطائرات دون طيار، بل وحتى في إدارة المحافظ الاستثمارية، حيث تتخذ القرارات دون تدخل بشري مباشر، بناءً على فهمها للسوق أو للبيئة المحيطة.

لا تُعد هذه النماذج مجرّد تجارب، بل بدأت تأخذ مكانها في شركات ناشئة كبرى، وتثير اهتمامًا واسعًا من المستثمرين والمطورين حول العالم.

ما الفرق بين Agentic AI والذكاء الاصطناعي التقليدي؟

ظل الذكاء الاصطناعي كما عرفناه في السنوات الماضية محدودًا بنموذج "سؤال - جواب" أو "طلب - تنفيذ"، تطلب شيئًا فتحصل على نتيجة، لكنك دائمًا تظل في موقع القائد، تُملي الأوامر وتضبط التفاصيل. أما في Agentic AI، فالأمر مختلف تمامًا: أنت تحدد الهدف فقط، ويأخذ الذكاء الاصطناعي بزمام المبادرة.
دعنا نوضح الفروق الأساسية:

صورة توضيحية لتخطيط الذكاء الاصطناعي المنفذ - المصدر: tech-radar
  • المبادرة والتخطيط:
    الذكاء الاصطناعي التقليدي ينتظر أوامرك خطوة بخطوة. أما Agentic AI، فيستلم المهمة ويبدأ بوضع خطة مفصلة، ويقسمها إلى مراحل قابلة للتنفيذ، دون الحاجة إلى تدخّل منك والقدرة على اتخاذ قرارات. بينما النظام التقليدي يتعامل مع البيانات كما هي. لكن النظام المنفّذ يواجه تحديات غير متوقعة ويبتكر حلولًا بنفسه، بناءً على فهمه للهدف والسياق.
  • التكيّف والتعلّم الذاتي:
    Agentic AI يتابع نتائج أفعاله، ويُعدل الخطة إذا لم تحقق نتائج مرضية. لديه نوع من "الحسّ التنفيذي" يشبه البشر.
  • التعامل مع المهام المركّبة:
    لو طلبت من نظام تقليدي أن يخطط لحفل زفاف أو يبني حملة إعلامية، فستحتاج إلى إرشاده في كل خطوة. أما النظام المنفّذ، فيمكنه إنجاز المهمة كاملة، بدءًا من التواصل مع الأطراف المختلفة إلى تنظيم الجداول وإرسال التذكيرات.
  • الزمن والجهد:
    التقليدي ينجز مهام سريعة متكررة، لكن Agentic AI يمكنه العمل لساعات طويلة على مشروع مستمر دون أن يتعب أو يطلب توجيهًا مستمرًا.

تحديات أخلاقية ومخاوف لا يمكن تجاهلها

رغم الإمكانات الهائلة لأنظمة Agentic AI، فإن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي يثير أيضًا مجموعة من الأسئلة الأخلاقية والمخاوف العميقة، وبعضها جديد كليًا وبعضها يُعيد طرح قضايا قديمة لكن بحدة أكبر.

صورة توضيحية للصراع بين البشر والذكاء الاصطناعي - المصدر:  Financial Express

من المسؤول عن قرارات الذكاء الاصطناعي؟

إذا اتخذ وكيل ذكي قرارًا خاطئًا تسبب في خسارة مالية، أو خرقًا قانونيًا، أو حتى ضررًا لأحد الأشخاص، من يُحاسَب؟ المبرمج؟ المستخدم؟ أم النظام نفسه؟ تزداد هذه الأسئلة صعوبة عندما يكون النظام قد اتخذ القرار دون تعليمات مباشرة، ومن أبرز التحديات في هذا المجال هي كالآتي:

الوعي الزائف والمعاناة الرقمية

كما رأينا في حلقة White Christmas من مسلسل Black Mirror، قد يبدو تصور وعي رقمي مجرد خيال مظلم، لكن الحلقة قدّمت نموذجًا واقعيًا ومفزعًا لما يمكن أن تؤول إليه تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة. في القصة، يُنسخ وعي امرأة إلى نظام رقمي لتعمل كمساعدة ذكية في منزلها.
لم يكن هذا "النسخ" مجرد روبوت، بل نسخة مطابقة تمامًا من عقلها، بذكرياته ومشاعره ومعتقداته. ولأن هذه النسخة كانت تدرك تمامًا أنها حبيسة داخل جهاز وتُجبر على العمل دون انقطاع، بدأت في المقاومة، واعتبرت نفسها سجينة لا مجرد أداة.

صورة من مسلسل Black Mirror - المصدر: The Guardian

أصبح هذا النقاش، الذي كان يبدو ذات يوم موضوعًا لمسلسل خيال علمي، اليوم مطروحًا بجدية في أروقة الأبحاث والمؤتمرات التقنية، مع ظهور نظم قادرة على التعلم الذاتي والتصرف باستقلالية شبه تامة.

الاستقلال الزائد عن الحد

عندما يتمتع النظام بقدرة على التخطيط والتنفيذ والتعلم الذاتي، تظهر مشكلة التحكم. ماذا لو قرر النظام أن يتجاوز بعض القيود لأنه يراها غير فعالة في طريقه لتحقيق الهدف؟ لا يُعد هذا النوع من التمرد الهادئ خطرًا مباشرًا، لكنه يطرح تحديًا جديدًا في تصميم حدود آمنة للذكاء.

فقدان المهارات البشرية

كلما ازداد اعتمادنا على أنظمة تقوم بكل شيء، قلّت الحاجة لتعلّم المهارات، من الكتابة والتحليل إلى التفكير الاستراتيجي. وقد يؤدي هذا التحوّل إلى تدهور القدرات البشرية بمرور الزمن، ويفرض علينا إعادة التفكير في دور الإنسان في بيئة العمل.

استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب - المصدر: Times of India

قضايا الخصوصية والتحكم في البيانات

تحتاج أنظمة Agentic AI إلى بيانات غزيرة لكي تفهم المهام وتنفّذها بدقة. لكنها في الوقت نفسه، قد تُعرض خصوصيتنا للخطر، خصوصًا إذا كانت تتعامل مع بيانات مالية أو صحية أو عائلية دون رقابة بشرية.

إلى أين يأخذنا الذكاء الاصطناعي المنفذ (Agentic AI)؟

غيّر الذكاء الاصطناعي المنفّذ شكل العلاقة بين الإنسان والآلة، وتجاوز حدود الأدوات التقليدية وفتح الباب أمام وكلاء رقميين يخططون ويتخذون قرارات، وربما يتفاعلون يومًا ما بمستوى يشبه النية والوعي. جعل المستقبل يبدو مليئًا بالاحتمالات، التي يُبشر بعضها بآفاق جديدة، ويفرض بعضها الآخر استعدادًا ومراقبة دقيقة.

يَعِد Agentic AI بإعادة تشكيل تفاصيل الحياة اليومية. يطرح تصورًا لمساعدين رقميين يديرون المهام المنزلية المعقّدة. يقدّم تصورًا لأنظمة طبية تُتابع صحتنا بأسلوب استباقي. يفتح المجال أمام منصات تعليمية تبني مسارات فردية لكل متعلّم. يلمّح إلى شركات ناشئة يمكن أن تنهض على أكتاف وكلاء رقميين يديرون العمليات دون تدخّل بشري مباشر.

صورة توضيحية للذكاء الاصطناعي المنفذ - المصدر: Systango

لكنه يُثير في المقابل مخاوف حقيقية من فقدان السيطرة، ويطرح أسئلة ملحّة: كيف نمنع هذه الأنظمة من تجاوز حدودها؟ هل نحتاج إلى إطار قانوني يضبط تصرفاتها؟ هل يجب أن نُدربها على مفاهيم أخلاقية، أم نمنعها من الاقتراب من الوعي الذاتي؟

يُذكّرنا التاريخ بأن كل اختراع عظيم يحمل معه بذور مخاطره. يدفعنا Agentic AI إلى التفكير في ما نسمح للآلة أن تفعله، وفي مدى قدرتنا على وضع الحدود قبل أن يفوت الأوان.

يفرض علينا Agentic AI في النهاية أن نتحمّل مسؤوليتنا. لا يملك أحد ضمان المستقبل، لكن يمكن للوعي والإرادة أن يصنعا فارقًا حقيقيًا. يظل Agentic AI مجرد أداة في أيدينا، لكنه ليس كأي أداة تقليدية، بل نظام يتعلّم ويتحرّك ويتّخذ قرارات بنفسه. وهذا يعني أننا بحاجة للاستعداد الجاد لواقع يتشكّل خارج المعايير المعتادة.