
ما وراء الرقائق الفائقة… وهل ستصنع من السعودية قوة عظمى في المستقبل؟
لا أعلم لماذا يلاحقني فيلم The Matrix كلما قرأت خبرًا عن قفزة تقنية أو سباق عالمي جديد نحو الذكاء الاصطناعي. ربما لأن هذا الفيلم، الذي صدر في أواخر التسعينات، كان نبوءة ملفوفة في ثوب الخيال العلمي. عالم افتراضي مُحكم الصنع، تتحكم فيه الآلات، وتُزيَّف فيه الحقيقة لصالح واقع منسوج بالخداع.
يومها بدت الفكرة بعيدة، مجرد خيال متطرّف. لكننا اليوم نعيش على أعتاب ذلك العالم، ليس من خلال كبسولة حمراء أو زرقاء، بل عبر بوابة صغيرة تُدعى الرقائق الفائقة. هذه الشرائح الإلكترونية المتناهية الصغر التي تستطيع تشغيل منظومة ذكاء اصطناعي عملاقة، أو تشغيل دولة بأكملها، أو حتى ترجيح كفة صراع عالمي!
لم تعد تلك الرقائق مجرّد مكوّن في معمل بحثي أو سلعة في سوق التكنولوجيا، بل تحوّلت إلى سلاح استراتيجي، تتحرك من أجله الحكومات وتُعقد من أجله التحالفات.

وسط هذا السباق المحموم، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب جديد، يحمل طموحًا لا يقل عن إعادة رسم خريطة القوى العالمية. ومن هنا، تكتسب زيارة الرئيس ترامب الأخيرة للرياض بُعدًا أكبر من مجرد زيارة سياسية. إنها لحظة فاصلة في مستقبل تكنولوجي تُعيد فيه الرقائق الفائقة تعريف كل شيء.
فما حقيقة هذه الرقائق؟ ولماذا أصبحت ساحة الصراع المقبلة؟ وكيف تستعد السعودية للدخول إلى هذا العالم من أوسع أبوابه؟ لنبدأ معًا تلك القصة من بدايتها.
ما هي الرقائق الفائقة؟ وما الفرق بينها وبين الرقائق التقليدية؟
تُعد الرقائق التقليدية، أو المعالجات الدقيقة، هي أساس كل الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها يوميًا مثل الحواسيب والهواتف المحمولة. تُصنع هذه الرقائق أساسًا من مادة السيليكون، وهو من أشهر عناصر أشباه الموصلات، الذي يُستخدم لتصميم دوائر متناهية الصغر.
داخل الرقاقة، توجد ملايين إلى مليارات الترانزستورات الصغيرة التي تعمل كمفاتيح إلكترونية. تُفتح هذه الترانزستورات وتُغلق لتتحكم في تدفق التيار الكهربائي، مما يسمح للمعالج بتنفيذ الأوامر والعمليات الحسابية بسرعة عالية. تُعالج الرقائق التقليدية البيانات وتُنفذ الأوامر البرمجية مثل الحسابات البسيطة، وإدارة الذاكرة، وتشغيل التطبيقات. لكنها ليست مخصصة لمعالجة كمّيات ضخمة من البيانات أو تنفيذ العمليات المعقدة التي تحتاجها تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة.
لهذا السبب، ظهرت الحاجة لتطوير الرقائق الفائقة التي تقدم سرعة وكفاءة أعلى بكثير، خاصة في التعامل مع الخوارزميات المتطورة والبيانات الضخمة.
الرقائق الإلكترونية الفائقة

تمثل الرقائق الإلكترونية المتقدمة أو الفائقة جيلًا جديدًا من المعالجات، صُممت لتلبية احتياجات التكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وتحليل البيانات الضخمة. وبخلاف الرقائق التقليدية المصنوعة فقط من السيليكون، تستخدم هذه الرقائق تقنيات متطورة ومكونات مبتكرة ترفع من أدائها بدرجة كبيرة.
أولًا، تتميز الرقائق الفائقة بأنها تستخدم مواد وأشباه موصلات متعددة بجانب السيليكون، مثل الجاليوم أرسينيد (GaAs) أو الجرمانيوم، مما يسمح بسرعات أكبر وكفاءة طاقة أعلى. كما تعتمد على تقنيات تصنيع دقيقة جدًا (نانو تكنولوجي)، تصل أحيانًا إلى مقاييس أصغر من 3 نانومتر، وهذا يعني إمكانية وضع عدد أكبر من الترانزستورات في مساحة أصغر.
ثانيًا، تحتوي هذه الرقائق على معالجات متخصصة (accelerators) مثل معالجات الذكاء الاصطناعي (AI chips) أو وحدات معالجة الرسومات (GPUs) مدمجة، مما يجعلها قادرة على تنفيذ عمليات معقدة ومتوازية بسرعة مذهلة مقارنة بالرقائق التقليدية.
ثالثًا، تستخدم الرقائق الفائقة تصميمات متقدمة لتحسين سرعة نقل البيانات وتقليل استهلاك الطاقة، وهو أمر حيوي لتشغيل مراكز البيانات الضخمة والتطبيقات المتقدمة دون هدر طاقة أو ارتفاع حرارة مفرط.
المعادن الأرضية النادرة والصراع العالمي عليها
تعتمد الرقائق الفائقة بشكل رئيسي على مكونات متقدمة، تشمل معادن أرضية نادرة وأشباه موصلات عالية الجودة. إذ تلعب المعادن النادرة مثل التنتالوم، والنيوديميوم، والتيلوريوم دورًا حيويًا في تحسين كفاءة وأداء هذه الرقائق. بينما تُستخدم أشباه الموصلات، خصوصًا السيليكون والكاربيد والجرمانيوم، كأساس لتوصيل الكهرباء والتحكم في تدفق التيار داخل الرقاقة. يجتمع هذا التنوع من المواد ليمنح الرقائق الفائقة القدرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات بسرعة وكفاءة.
ربما لهذا السبب تهتم الولايات المتحدة بشكل متزايد بالمعادن النادرة لأنها تعتبر العمود الفقري للتقنيات المتقدمة. كما يُعد وجود هذه المعادن ضرورة قصوى لصنع مكونات إلكترونية ذات أداء عالٍ لا يمكن الاستغناء عنها في تطوير التكنولوجيا الحديثة. ومع تصاعد المنافسة العالمية، خصوصًا مع الصين، أصبحت السيطرة على مصادر هذه المعادن النادرة وتأمين سلاسل الإمداد الخاصة بها أولوية استراتيجية لواشنطن، لضمان تفوقها التقني وحماية صناعاتها الحيوية من أي أزمات محتملة في الإمداد.
السباق العالمي على الرقائق
تتنافس اليوم ثلاث قوى كبرى للسيطرة على سوق الرقائق الإلكترونية: الولايات المتحدة، وتايوان، والصين. لكل دولة موقعها وأهدافها، لكن الرقائق أصبحت القلب النابض لأي اقتصاد متقدم أو جيش حديث.

تهيمن تايوان على تصنيع الرقائق المتقدمة بفضل شركة TSMC، التي تعد أكبر وأهم مُصنّع للشرائح في العالم. أما الولايات المتحدة فتبرز في مجالات التصميم والتقنيات الابتكارية، وتمتلك شركات عملاقة مثل NVIDIA وIntel و AMD. في المقابل، تسعى الصين لتقليل اعتمادها على الخارج وتطوير صناعتها المحلية، لكنها ما زالت تعتمد على التكنولوجيا الغربية في المراحل المتقدمة من التصنيع.
تحوّل هذا السباق إلى قضية أمن قومي، لأن الرقائق تدخل في كل شيء: بدايةً من الهواتف الذكية ووصولًا إلى الأقمار الصناعية، ومن السيارات إلى أنظمة التوجيه في الطائرات الحربية وحتى الأسلحة النووية. أي خلل أو نقص في الإمدادات يمكن أن يوقف الإنتاج، ويؤثر سلبًا على الاقتصاد وحتى على الاستقرار العسكري. ولهذا السبب، أصبحت الدول تستثمر مليارات الدولارات في سلاسل التوريد، وتحاول فرض سيطرتها على المواد الخام والتقنيات الأساسية.
تُعدّ الصين القوة العالمية الأولى في مجال المعادن النادرة، إذ تمتلك أكبر احتياطي في العالم يُقدّر بنحو 44 مليون طن متري، وتنتج أكثر من 270 ألف طن سنويًا، مع سيطرة تتجاوز 80٪ على عمليات التكرير العالمية. في المقابل، تحاول الولايات المتحدة اللحاق بهذا السباق، إذ تمتلك احتياطيات تُقدّر بـ1.8 مليون طن، وقد أعلنت مؤخرًا عن اكتشاف ضخم في ولاية وايومنغ قد يغيّر الكثير. ورغم ذلك، لا تزال تعتمد بقدر كبير على استيراد هذه المعادن، خاصة من الصين.
أما تايوان، فتمثل حالة مختلفة تمامًا، إذ لا تمتلك سوى نسبة ضئيلة جدًا من الاحتياطي العالمي وتعتمد بالكامل تقريبًا على استيراد المعادن النادرة لتغذية صناعاتها التقنية الحساسة. يعكس هذا التفاوت الكبير في الموارد مدى النفوذ الجيوسياسي الذي تمنحه هذه المعادن للدول، خاصة في ظل تصاعد الطلب العالمي على الرقائق المتقدمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
السعودية والإمارات تدخلان المشهد
بدأت السعودية خلال السنوات الأخيرة في اتخاذ خطوات واسعة نحو التحول إلى قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، عبر استثمارات ضخمة في البنية التحتية التقنية. من أبرز هذه المبادرات، إطلاق شركة "Humain" بدعم من صندوق الاستثمارات العامة، التي تهدف إلى إنشاء مراكز بيانات عملاقة تعمل بأحدث رقائق الذكاء الاصطناعي. وقد أعلنت الشركة عن شراكات استراتيجية مع شركات أمريكية كبرى مثل NVIDIA، التي ستزودها بأكثر من 18 ألف شريحة من الجيل الجديد، ووقّعت AMD اتفاقية بقيمة 10 مليارات دولار.
شركة G42 الإماراتية

شركة G42 هي شركة تكنولوجيا متقدمة مقرها أبوظبي، وتعمل في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وتحليل البيانات. يرأس مجلس إدارتها الشيخ طحنون بن زايد، وهو أحد أبرز الشخصيات السياسية والأمنية في الإمارات، مما يمنح الشركة وزنًا سياسيًا كبيرًا.
في السنوات الأخيرة، أصبحت G42 حلقة وصل مهمة بين شركات التكنولوجيا الأمريكية ودول الخليج. فهي تمتلك البنية التحتية، والخبرة، والعلاقات السياسية التي تمكّنها من تنفيذ مشاريع ضخمة في الذكاء الاصطناعي، مثل مراكز البيانات العملاقة.
خطوة فك الارتباط بالصين
بدأت الولايات المتحدة تشعر بالقلق من العلاقة بين G42 وشركات صينية محظورة مثل هواوي وBeijing Genomics Institute. إذ تعتبر واشنطن هذه الشركات خطرة على الأمن القومي الأمريكي، بسبب احتمال مشاركة بيانات أو تقنيات مع الحكومة الصينية.
نتيجة لذلك، فرضت واشنطن ضغوطًا على G42 لفك ارتباطها بالصين. وبالفعل، أعلنت الشركة في 2024 أنها تخلّت عن استثماراتها الصينية وأنها لم تعد تمتلك وجودًا فعليًا في الصين، مما فتح المجال لاستئناف التعاون مع شركات أمريكية كبرى، مثل مايكروسوفت، التي استثمرت مؤخرًا 1.5 مليار دولار في G42، وأصبح رئيسها ضمن مجلس إدارتها.
استفادت السعودية من هذا الوضع في بناء تحالفات تقنية قوية مع الولايات المتحدة من جهة، ومع الإمارات من جهة أخرى. وبما أن G42 أصبحت وسيطًا مقبولًا أمريكيًا بعد تحجيم نفوذها الصيني، فمن الممكن أن تصبح قناة حيوية تمرّ عبرها التقنيات الحساسة مثل رقائق الذكاء الاصطناعي، خاصة في ظل القيود الأميركية على تصديرها المباشر إلى بعض الدول.
زيارة ترامب واتفاق الرقائق

لفتت الجولة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الشرق الأوسط كثيرًا من الأنظار، خاصة بعد زيارته إلى السعودية والإمارات، حيث رافقه في الزيارة عدد من القادة والمسؤولين في قطاع التكنولوجيا بالولايات المتحدة.
ففي حين يرى البعض أن الشراكات التكنولوجية تمثّل فرصة اقتصادية واعدة قد تدرّ على الاقتصاد الأمريكي قرابة التريليون دولار، يرى البعض الآخر أنها تهديد أمني محتمَل، خاصة في ظل تزايد التوترات العالمية حول التكنولوجيا الفائقة. إذ يخشى قادة الأمن القومي بواشنطن من تسرب التقنيات أو استخدامها في سياقات لا تتماشى مع المصالح الأمريكية، كما عبّر عدد من أعضاء الكونجرس، خصوصًا من الحزب الديمقراطي، عن قلقهم من أن تصدير هذه التقنيات المتقدمة قد يؤدي إلى فقدان واشنطن تفوقها الاستراتيجي في مجال الذكاء الاصطناعي.
هل تساعد الرقائق المتقدمة في التسليح النووي؟
من المهم أيضًا معرفة، أن الرقائق الفائقة تلعب دورًا حيويًا في تطوير وتعزيز قدرات التسليح النووي، رغم أنها ليست سلاحًا نوويًا بحد ذاتها. حيث تعتمد الدول النووية على هذه الرقائق في تشغيل الحواسيب الفائقة التي تمكنها من إجراء محاكاة دقيقة للتفجيرات النووية دون الحاجة إلى تجارب فعلية، مما يساهم في تطوير الأسلحة بأمن وسرية. كما تُستخدم هذه الرقائق لتحسين أنظمة التوجيه الدقيقة للصواريخ الباليستية العابرة للقارات، ما يزيد من دقة وكفاءة الأسلحة النووية.
إضافة إلى ذلك، تُعد الرقائق الفائقة ضرورة لا غنى عنها في مجال الدفاع والهجوم السيبراني، حيث تعتمد عليها الدول في حماية بنيتها التحتية النووية وتأمين أنظمة التحكم والسيطرة. وبسبب هذه الأهمية، تفرض الولايات المتحدة قيودًا صارمة على تصدير هذه الرقائق إلى الخارج، خوفًا من استخدامها في مجالات عسكرية نووية أو تهديدات أمنية. لذلك، تشكل هذه الرقائق جزءًا أساسيًا من منظومة التسليح النووي المتقدمة، ويُخضع أي تعاون أو صفقة تتعلق بها إلى رقابة أمنية مشددة.
كيف سيبدو مستقبل السعودية بعد هذه الخطوة؟
في السنوات القليلة القادمة، قد تتحول السعودية إلى واحدة من أبرز مراكز الذكاء الاصطناعي، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في العالم بأسره. فمع توقيع الاتفاقات مع كبرى شركات التقنية مثل NVIDIA وOpenAI، ستشهد المملكة ولادة مدن ذكية حقيقية تعتمد على أنظمة ذكاء اصطناعي في كل شيء، من النقل إلى التعليم إلى الأمن. سنرى مراكز بيانات ضخمة تعمل على مدار الساعة، ومصانع متطورة تنتج شرائح فائقة محليًا أو بالشراكة مع حلفاء دوليين.

سنرى السعودية مثل سنغافرة وكوريا الجنوبية، وسيزداد الطلب على العقول السعودية في مجالات البرمجة والبحث العلمي، وقد تصبح الرياض وجهة للمواهب العالمية كما أصبحت دبي قِبلة للأعمال. حتى سياسات الدولة واقتصادها سيعاد تشكيلهما لمواكبة هذا التحول، حيث لن تبقى السعودية دولة نفط فقط.
قد تبدو الطريق طويلة، والتحديات هائلة، من توفير الكفاءات التقنية، إلى تأمين الطاقة والمياه لمراكز البيانات، لكن التاريخ لا يُصنع بسهولة. فالسعودية، التي وضعت رؤية 2030 لتتحول من اقتصاد نفطي إلى اقتصاد علمي، تعرف تمامًا أن الرقائق الفائقة قد تكون نفط المستقبل، وأن السيطرة عليها قد تعني امتلاك مفاتيح القوة لعقود قادمة.
في السنوات المقبلة، قد نرى مدينة نيوم تتحول إلى وادٍ جديد للسيليكون، وقد تظهر مراكز سعودية تُخرج من جامعاتها عقول عربية واعدة تضع بصمتها على عالم الغد.
?xml>