الوجه الآخر للألعاب: كيف تُستخدم في علاج مرض التوحد؟
"أبريل 1999"..يقتحم المراهقان Eric Harris وDylan Klebold مدرسة كولومباين الثانوية بالولايات المتحدة، لتبدأ عملية إطلاق نيران هيستيرية على التلاميذ والمدرسين!
أدى هذا الهجوم الدموي إلى مقتل 12 طالب بالإضافة إلى مُعلم وبعد ذلك قام المراهقان بقتل بعضهما بواسطة أسلحتهم النارية، الحادثة هزت الولايات المتحدة وقتها وجعلت الكثير من العلماء والباحثين يعملون على معرفة الأسباب التي دفعتهم إلى القيام بهذا الفعل.
بعد الكثير من الأبحاث اكتشف العلماء أن الأمر قد يكون مربوط بلعبة التصويب الشهيرة DOOM ، لأن المراهقان كانا يعشقان هذه اللعبة لدرجة الجنون، لدرجة أن Harris كان يستوحي من اللعبة أفكار المشاريع الأدبية المطلوبة منه في المدرسة، كما كان يعمل على تصميم مراحل خاصة من اللعبة وينشرها عبر الإنترنت.
حادثة مدرسة كولومباين ليست الحادثة الوحيدة التي تم ربطها بشكل مباشر بالألعاب الإلكترونية، القائمة طويلة جدًا فمثلًا لدينا حادثة المراهق Nathon Brooks ، حيث قام Brooks بإطلاق النار على والديه أثناء نومهم بسبب معاقبتهم له ومنعه عن الألعاب الإلكترونية.
هذه الحوادث العديدة ساهمت في تشويه صورة الألعاب الإلكترونية بشكل كبير جدًا، الكثير يعتقد أن الألعاب تُزيد العنف لدى الأطفال وتجعلهم يميلون أكثر إلى العزلة والوحدة.
على الرغم من أن تناول الألعاب الإلكترونية بشكل خاطئ قد يسبب بالفعل مشاكل نفسية جسيمة، إلا أن الألعاب الإلكترونية قد يكون لها وجه أخر تمامًا، وجه معاكس للصورة السائدة في أذهاننا عن الألعاب الإلكترونية، فمن الممكن أن تكون الألعاب ملاك رحمة يُساعد على علاج مرض مثل التوحد!
يُعد التوحد أحد المجالات التي تحاول الألعاب الإلكترونية طرقها، عبر الكثير من المحاولات لتقديم علاجات فعالة باستخدام ألعاب إلكترونية، وخلال السنوات الماضية بدأ هذا المجال يشهد تقدما ملحوظَا، فمن كان يصدق أن الألعاب قد تكون أحد الأدوات المساعدة في التأقلم مع التوحد!
ما هو التوحد؟ وماهى الاعراض؟
التوحد أو "الذاتوية" عبارة عن اضطراب للنمو العصبي يتصف بضعف التفاعل الاجتماعي والتواصل سواء كان لفظي أو غير لفظي، إلى جانب وجود بعض التعبيرات الحركات المكررة والمقيدة.
يمكن اكتشاف طيف التوحد في الثلاث سنوات الأولى من عمر الطفل، ومُصباب اضطراب التوحد قد يعاني من ضعف الانتباه أو وجود بعض المشاكل في التواصل والتعبيرات اللفظية والغير لفظية.
الطيف التوحدي يحتوي على أكثر من اضطراب مثل: متلازمة اسبرجر، اضطراب المهارات العامة الغير محددة، التوحد، واضطراب الطفولة التحليلية، وكل هذه الاضطرابات تشترك في أنها أمراض نماء عصبي ويُطلق عليها جميعًا طيف التوحد "الطيف التوحدي".
هذا يعني وجود العديد من اضطرابات النمو العصبي التي تشترك جميعها في الكثير من الأعراض وتختلف في نفس الوقت في أعراض أخرى، وكل هذه الاضطرابات تقع تحت مصطلح الطيف التوحدي.
على سبيل المثال مصابي متلازمة اسبرجر لا يعانون من التأخر في الكلام مثل مرضى التوحد، كذلك مصابي متلازمة اسبرجر كان لديهم تأخر إدراكي ولكن أقل بكثير من التأخر الإدراكي لدى مرضى التوحد.
للأسف الشديد لا نعرف علميًا على وجه الدقة أسباب الطيف التوحدي ولكن الكثير من العلماء يعتقدون أن الوراثة والجينات قد تلعب دورًا هامًا جدًا في ظهور هذا الاضطراب.
أيضًا التوحد يُصيب 1% تقريبًا من الأطفال والإصابة عند الذكور تكون أعلى من الإناث، كذلك الطيف التوحدي الواسع المدى يضم العديد من الأعراض ويجعل كل حالة تكون مختلفة عن الأخرى بشكل ما، مما يجعل علاج الاضطراب أمر أكثر صعوبة.
حتى الآن لا يوجد دواء لعلاج اضطرابات التوحد ولكن يوجد الكثير من العقاقير والأدوية التي تساعد على التأقلم مع حالات الطيف التوحدي خصوصا الحالات التي تعمد إلى إيذاء نفسها عن طريق العض الذاتي أو ضجيج الرأس، كذلك توجد مجموعة عريضة من العلاجات السلوكية والنفسية التي تساعد على تطوير مهارات مُصاب التوحد وبالتحديد في مجال الإدراك والتواصل.
هل يمكن علاج التوحد بواسطة الألعاب؟
بالقرب من معسكر جامعة كاليفورنيا يقع مختبر The Research on Autism and Development RAD ، المختبر الذي تم التحدث عنه في تقرير كامل تم نشره على موقع Spectrum.
اقتبس من التقرير الأصلي:
[quote "المختبر يمتلك تصميم مثل أحد المتاهات المستوحاة من لعبة Tetris بمباني خشبية بنية اللون، أحد المتدربين هناك يرتدي قميص مكتوب عليه "نحن نلعب ألعاب العقل"، بينما الأخر يرتدي قميص مطبوع عليه شخصية ماريو الشهيرة".]
نحن نتحدث عن مختبر يهتم بعلاج أطياف التوحد، ولكن هذا المختبر يرى أن الألعاب الإلكترونية قد تكون وسيلة لتحسين مؤشرات الإدراك والانتباه لدى أطفال التوحد.
حسب الإحصائيات فإن أولاد التوحد لديهم القدرة على استغراق ضعف الوقت أمام الألعاب الإلكترونية بالمقارنة مع الأطفال العاديين، ومن هنا جاءت فكرة المختبر.
بما أن أطفال طيف التوحد ينجذبون إلى الألعاب الإلكترونية، فلم لا نقدم ألعاب تساعد على تحسين الإدراك والتركيز، خصوصًا وأن هذه الألعاب تحتوي على أهداف معينة يجب تحقيقها في كل مرحلة من المراحل؟
لكن نحن نتحدث هنا عن ألعاب علمية يتم تطويرها لغرض طبي بحت ولذلك فهذه الألعاب تأخذ وقت أطول بكثير من عملية تطوير الألعاب التجارية التي تحظى في معظم الوقت بدورة تطوير زمنية سريعة جدًا.
لعبة Let's Face It وعلاج طيف التوحد!
العالم James Tanaka المتخصص في الطب النفسي الإدراكي بجامعة فيكتوريا بكندا، كان له تجربة مثيرة مع علاج الطيف التوحدي عبر الألعاب الإلكترونية، حيث قام بتصميم لعبة بعنوان Let's Face It.
تهدف اللعبة إلى مساعدة أطفال الطيف التوحدي في التعرف على الأوجه وتمييز التعبيرات المختلفة، وهنا يقول James Tanaka أن عملية تطوير الالعاب لم تكن هدفه الأساسي، ولكنه اكتشف أنه إذا أراد تقديم حلول قوية يجب تقديمها في صورة ألعاب لأنها يجب أن تكون ممتعة للأطفال.
ألعاب Let's Face It أظهرت نتائج جيدة بشكل كبير حيث وجد Tanaka أن اللعبة أظهرت نتائج إيجابية على 42 طفل مصاب بالطيف التوحدي بعد استغراق 20 ساعة تقريبًا داخل اللعبة، حيث أصبح لديهم قدرة أفضل على تحديد تعبيرات الوجه والتعامل معها.
على الرغم من البطء الكبير في عملية تطوير مثل هذه الألعاب إلا أن لعبة Let's Face It متاحة الآن عبر تطبيق خاص بها على متجر APP Store ويمكن تحميلها وتجربتها.
نظراتهم مميزة
الكثير من أطفال الطيف التوحدي لا يستطيعون تقديم تعبيرات وجه طبيعية، فهي دائمًا ما تتأثر بسبب حركة العين الغير طبيعية، النظرات في الكثير من الأوقات تكون في الاتجاه الخاطئ وتدل على مشكلة في التواصل.
لذلك عمل مختبر (RAD) على لعبة تعتمد على تقنيات تتبع النظر، هذه اللعبة من المفترض أن تساعد أطفال التوحد على تمرين نظراتهم بحيث تصبح نظرات أكثر طبيعية وسريعة مثل الشخص الطبيعي.
اللعبة تدعى Mole Whack وهي لعبة كلاسيكية جدًا حيث يجب عليك ضرب خلد الماء الذي يخرج من الحفرة وتجنب خلد الماء الذي يحمل زجاجة، لكن الجديد هنا أن اللعبة يتم التحكم بها عن طريق التتبع البصري.
كلما تقدمت في اللعبة كلما ازدادت سرعة خلد الماء وبدأ يخرج من فتحات أكثر عشوائية على الشاشة، وبالتالي نجد أن الطفل يقوم بتحريك عينه بشكل أسرع ويركز على الهدف بشكل أكبر حتى يفوز في اللعبة، ومع الوقت يحدث السحر وتبدأ حركة العين في التأقلم وتصبح أسرع وتميل أكثر إلى الحركة الطبيعية، ووجد علماء المختبر أنه مع الوقت تنتقل هذه المهارات إلى الحياة ولا تظل حبيسة اللعبة فقط، وهو ما حمس المختبر لتقديم ألعاب أخرى في نفس النطاق مثل لعبة Shroom Digger و Space Race.
في تجربة علمية محدودة تم إجرائها على 8 أبطال من أبطال الطيف التوحدي، لعبوا خلال التجربة ألعاب Mole Whack، Shroom Digger، و Space Race لمدة 30 دقيقة يوميًا خمس أيام أسبوعيًا، ولمدة 8 أسابيع متواصلة.
وجد العلماء أن الأطفال الستة الذين أنهوا البرنامج تحسن لديهم الإدراك البصري بشكل ملحوظ جدًا وأصبحوا قادرين على التحكم في نظراتهم وهذا الأمر لم يقتصر على الاختبارات الطبية فقط بل انعكس على المهارات اليومية، وكذلك الآباء الذين لاحظوا تحسن في مستوى الإدراك وحركة العين وبعض المهارات الأخرى اليومية.
لعبة Project EVO
على الرغم من روعة الأمثلة السابقة، إلا أنها تعتبر نماذج تجريبية أو طُرق ييتم تجربتها وتطبيقها بشكل منفصل، حيث يقوم كل مركز باتباع النظرية أو الطريقة التي يَعتقد في فعاليتها.
ولكن لعبة Project EVO مختلفة تمامًا فهذه اللعبة هي أول لعبة إلكترونية لعلاج الطيف التوحدي تأخذ موافقة من هيئة الغذاء والأدوية بالولايات المتحدة "FDA".
إدارة الغذاء والدواء الفيدرالية هي الإدارة التي تعهد بضبط سوق الأدوية والغذاء حيث تعطي التصريحات للأغذية والأدوية القابلة للتداول وتمنع المنتجات المُضرة بالصحة، أي أننا بهذا الشكل نكون أمام أول لعبة تعتبر دواء لعلاج الطيف التوحدي، لا نتحدث عن لعبة غير مضرة لأطفال التوحد بل نتحدث عن لعبة هي في حد ذاتها علاج.
أعلم أنني أكرر الجملة كثيرًا ولكننا أمام خطوة عظيمة في تاريخ الألعاب، فنحن لا نتحدث عن لعبة مساعدة أو ممتعة لأطفال التوحد فقط بل نتحدث عن لعبة قد تكون الأمل في خفض مشاكل الإدراك والوعي التي يُعاني منها أطفال الطيف التوحدي.
اللعبة تحتوي على عدد من المهام المترابطة التي تجعل المريض يقوم بالعديد من الأشياء في نفس الوقت، وهو ما يساعد على رفع التركيز والوعي عند أطفال الطيف التوحدي.
الكثير أشاد بنتائج اللعبة على الأطفال لدرجة أن أكثر من 95% ممن جربوا اللعبة ينصحون باستخدامها باستمرار كأحد علاجات مرض الطيف التوحدي.
أيضًا تم إجراء دراسة صغيرة على 19 طفل من عمر 9 سنوات إلى 13 سنة، حيث تم إعطاء لعبة Project EVO إلى 11 طفل والباقي تم إعطائهم برامج تعليمية تقليدية بديلة.
في لعبة Project EVO الطفل يحتاج إلى الانتقال بشكل سريع جدًا بين أكثر من لعبة وتمرين الذاكرة وحركة العين وحتى فكرة القيادة والتحكم في عجلة القيادة.
هذه الأنشطة السريعة المركبة تساعد على رفع قدرات الإدراك عند الطفل بمعدلات أعلى من البرامج التعليمية التقليدية التي يتم تقديمها لمرضى التوحد.
اللعبة حصلت على العديد من الدراسات والتجارب الأخرى على أكثر من 600 طفل، واكتشف العلماء أمر مذهل تمامًا وهو أن لعب Project EVO لمدة 25 دقيقة يوميا، 5 أيام أسبوعيًا، لمدة 4 أسابيع تساعد الأطفال على تقليل نسب مشاكل الانتباه بشكل كبير جدًا، على الأقل مشاكل الانتباه المتعلقة بالتركيز على شيء واحد.
الأرقام واعدة جدًا والأكيد هو أنه مع الوقت وفي المستقبل الألعاب الإلكترونية ستكون واحدة من عناصر علاج الطيف التوحدي الهامة جدًا، وربما لا تعرف هذه المعلومة ولكن ظهر الآن مصطلح يدعى الأدوية الرقمية، والأدوية الرقمية هي الأدوية العلاجية التي تستخدم تطبيقات ذكية أو ألعاب لحل مشاكل طبية معينة ربما نتحدث عنها في وقت لاحق، على أي حال الغرض هو أن نبين مدى أهمية التقنيات الحديثة في العلاج في وقتنا الحالي.
تنويه هام!
على الرغم من أن المقال يحتوي على برامج علاجية سهل الوصول لها ويمكن تطبيقها، إلا أنني أنصح باستشارة الطبيب المعالج أولًا قبل اتخاذ قرار استخدام هذه البرامج على أطفالنا.
كما ذكرنا في البداية الطيف التوحدي يضم العديد من الحالات وكل حالة تضم العديد من الأمثلة، وينتج عن هذا التنوع اختلاف كبير في الحالات وبالتالي ردة الفعل تجاه هذه البرامج العلاجية ستكون مختلفة من حالة إلى أخرى ولا يمكن تعميمها، وبالتالي يجب أولًا استشارة الطبيب المعالج في حالة رغبتنا تجربة أحد هذه البرامج، حتى لا يأتي الأمر بنتائج عكسية لا نُريدها.
لا تضع البيض في سلة واحدة
مقالنا اليوم له أهداف عديدة، أول هذه الأهداف هو إعطاء الأمل لكل أب وأم لديهم بطل من أبطال الطيف التوحدي، الأمل موجود دائمًا والتقنيات في تطور مستمر ويومًا بعد يوم يتم اكتشاف حلول عملية بنتائج مذهلة.
أما الهدف الثاني فهو توصيل رسالة إلى منتقدي الألعاب الإلكترونية، الألعاب مثل أي شيء أخر في الدنيا حمالة أوجه، قد تكون في بعض الأوقات الألعاب مصدر العنف والغضب الخطير، وفي أوقات أخرى تكون مصدر للتسلية وتمضية الوقت، وفي أحيان تكون رسالة سامية تمد يد العون للكثير من المشاكل الاجتماعية الموجودة في عالمنا مثل علاج الطيف التوحدي وما تحدثنا عنه اليوم.
لذلك لا تكون حادًا في وجهة نظرك، وتذكر أن الاعتدال في كل شيء جيد، وعندما ترى طفلك يهتم بألعاب الكمبيوتر لا تعنفه بل حاول توجيهه فقط إلى ألعاب ذات قيمة فنية بارزة أو استفادة معينة، وبالطبع كن دائمًا متابع لمدى انجذابه للألعاب الإلكترونية فنحن لا نُريد أن يتحول الأمر إلى إدمان.
حسنًا، بعد كل هذا من كان يدري أن الألعاب التي يتهمها الكثير بأنها أحد أسباب التوحد، قد تكون هي فرصة فى علاج أعراض الطيف التوحدي؟
على أي حال يمكنني أن أؤكد لك أن الألعاب يمكن استخدامها في العديد من الأمراض الأخرى وليس التوحد فقط، ربما سنتطرق إلى هذه الحالات في مقالاتنا القادمة.
?xml>