بدأت البشرية حقبةً جديدةً من التطور التقني في تاريخها؛ حقبة الذكاء الاصطناعي بالطبع، إذ تربع الذكاء الاصطناعي على عرش التطورات التقنية في القرن الواحد والعشرين؛ حاملًا معه ثورةً تقنيةً قادرةً على تغيير مسار التاريخ البشري بشكل كامل. ولن إُبالغ أبدًا إذا اعتبرت الذكاء الاصطناعي ضمن أقوى الإنجازات البشرية على الإطلاق. فبخلاف التقنيات الأخرى؛ لا يستهدف الذكاء الاصطناعي تحسين الإنتاجية فحسب؛ بل يعمل جنبًا إلى جنب مع البشر ليُطلق العنان للإبداع البشري نحو آفاق واسعة من العلم والابتكار.

وكالعادة؛ بدأت الدول الكبرى منافسةً شرسةً على ريادة هذه التقنية؛ وسط مخاوف عالمية تُنذر من تسليح هذه التقنية واستخدامها في الحروب والأنظمة العسكرية؛ فطَبْع البشر لن يتغير أبدًا أمام كل تقنية جديدة!

وعمومًا؛ يُمكننا اختزال هذه المنافسة بين قطبي العالم في مجال التقنية؛ الصين، والولايات المُتحدة الأمريكية؛ إذ تتنافس القوتين على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على تحقيق مبدأ الذكاء الفائق؛ وهي مرحلة من الذكاء الاصطناعي قادرةٌ على تجاوز الذكاء البشري لتحقيق المستحيل!

تتميز الصين عالميًا بدعم حكومتها المباشر لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ إذ تعتبر حكومة الصين هذه المهمة مشروعًا قوميًا. وقد بدأت الحكومة بالفعل في وضع خارطة طريق لتطوير هذه التقنيات والوصول إلى تطورات غير مسبوقة عالميًا بحلول عام 2030. وبدأت الحكومة الصينية في تنفيذ عددًا من البرامج الداعمة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي منذ عام 2017، والتي تتضمن المبادارات التمويلية، ووضع الخطط الاستراتيجية للشركات الناشئة الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي؛ وذلك ضمن خطة قومية أطلقت عليها الحكومة الصينية اسم «خطة تطوير الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي».

تسابق الصين الزمن لتحقيق حلمها بِالسيطرة على عالم الذكاء الاصطناعي بحلولِ عام 2030؛ إذ تدرك الحكومة الصينية أهمية هذه التقنية الثورية وتعتبرها التزامًا قوميًا أمامَ شعبها.

وعلى صعيد آخر؛ تواجه الصين العديد من الانتقادات العالمية أو الغربية على وجه التحديد؛ إذ تنظر الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الصين باعتبارها قوةً شيوعيةً تسعى إلى استغلال الذكاء الاصطناعي في فرض المزيد من القيود على البشر؛ فالفِكر الرأسمالي يرى أن الشيوعية تبحث دائمًا عن أدوات جديدة لإحكام سيطرتها على البشر؛ حتى يتحولوا شيئًا فشيئًا إلى تروس منزوعة الإرادة والطموح داخل آلةٍ مُحكمةٍ من المجتمع اللا إنساني.

وبالفعل؛ طورت الصين تقنيات متخصصة من الذكاء الاصطناعي، في مجال التعرف على الوجوه؛ إذ تستخدمها الحكومة الصينية في أنظمة إنفاذ القانون وتطبيق خطة الرصيد الاجتماعي. ولهذا؛ فقد بدأت الصين منذ سنوات في توجيه أنظمتها المتطورة من الذكاء الاصطناعي نحو إحكام قبضتها الأمنية الرقابية على الشعب.

ورغم التطور الهائل والمتسارع الذي تشهده الصين في مجال الذكاء الاصطناعي؛ فإن الشركات التقنية الغربية تُحاول تجنب الاستثمار في الذكاء الاصطناعي الصيني قدر الإمكان. وذلك بعد الترويج الغربي حول انتهاك الصين للقوانين واللوائح التي تُنظم استخدام هذه التقنيات بما يتماشى مع أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.

قد يُهمك أيضًا:

تحتل الصين المركز الثاني عالميًا، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، من ناحية عدد الشركات الناشئة التي تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي؛ إذ تحتضن الصين 1337 شركة ناشئة في هذا المجال باستثمارات تصل إلى 95 مليار دولار.

وأمام هذا التقدم الهائل؛ هل تتفوق الصين فعلًا على الذكاء الاصطناعي الغربي؟ لا يُمكننا تقديم إجابة حاسمة على هذا السؤال؛ ولكننا شهدنا تفوق الذكاء الاصطناعي الصيني على الذكاء الاصطناعي الغربي في عدة مجالات؛ مثل مجال التعرف على الوجوه الذي تُطبقه الصين بالفعل في أنظمة إنفاذ القانون، ومجال القيادة الذاتية للسيارات. ولهذا؛ اضطر إيلون ماسك، الملياردير الأمريكي ومؤسس شركة تسلا، إلى التعاون مع الصين لتطوير هذه التقنية في سيارات تسلا الجديدة؛ خاصةً قبل إطلاق مشروع التاكسي الروبوتي في أغسطس القادم.

في هذه المقالة، نُسلّطُ الضوء على الذكاء الاصطناعي الصيني وتطوره، ونناقش القضايا الأخلاقية المثارةَ حوله؛ خاصةً في ظل الانتقادات الغربية اللاذعة المُوجهة نحو استخدام الحكومة الصينية لتقنيات الذكاء الاصطناعي الصيني.

الذكاء الاصطناعي الصيني..مستقبل واعد أم مخاطر مُحتملة؟

تهتم الحكومة الصينية اهتمامًا خاصًا بمشاريع الذكاء الاصطناعي؛ فهي تُمثل مشاريع قوميةً كما ذكرنا بالأعلى. وقد بدأت الصين في خطةٍ طويلة الأمد منذ عام 2017؛ وذلك لريادة مجال الذكاء الاصطناعي عالميًا من خلال تطبيق استراتيجيات شاملة تتضمن تمويل الأبحاث العلمية وتطوير البنية التحتية الخاصة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى اكتشاف الكفاءات الوطنية الطموحة وتنمية قدراتهم.

ومع ذلك؛ سيكون من الظلم تجاهل دور المؤسسات البحثية والشركات التقنية الرائدة في الصين؛ إذ ساهمت هذه المؤسسات والشركات في دفع عجلة البحث العلمي نحو اكتشاف المزيد من الاستخدامات الجديدة التي تُطوع تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل غير مسبوق؛ وتتضمن هذه الشركات بايدو (Baidu)، وعلي بابا (Alibaba)، وتنسنت (Tencent)، وغيرها.

الشركات الرائدة في الذكاء الاصطناعي الصيني

تعمل هذه المؤسسات على استقطاب الكفاءات التقنية في مجال الذكاء الاصطناعي عالميًا؛ إذ تضم هذه الشركات خبراء في برمجيات الذكاء الاصطناعي من الجنسيات المختلفة. وتُعد هذه الخطوة منافيةً لسياسة الصين التي تدعو دائمًا إلى الانغلاق والاكتفاء الذاتي على الكفاءات الوطنية؛ ما يعكس تصميم الحكومة الصينية على اتخاذ كافة السُبل التي يُمكن أن تؤدي بها إلى ريادة مجال الذكاء الاصطناعي عالميًا.

الصين تُحقق اكتفاءً ذاتيًا في البيانات!

يُساهم تعداد الصين السكاني أيضًا في تطوير الذكاء الاصطناعي الصيني بشكل كبير؛ إذ اعتمدت الشركات المُطورة للنماذج الصينية على مجموعات ضخمة من البيانات التي حصلت عليها بتصريحات من الحكومة الصينية. واعتمدت نماذج الذكاء الاصطناعي الصيني أيضًا على كميات ضخمة من البيانات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية. فمع هذا التعداد السكاني الضخم؛ يُمكن للمستخدمين الصينيين إنتاج مجموعات ضخمة من البيانات التي تستخدمها نماذج الذكاء الاصطناعي لصقل مهاراتها التوليدية.

تمكنت الشركات الصينية من الاعتماد على شعبها الضخم في تطوير الجوانب التوليدية للذكاء الاصطناعي؛ إذ يتربع الذكاء الاصطناعي الصيني على عرش تقنيات التعرف على الوجه، وإدارة المحادثات.

تواجه الشركات التقنية الكبرى في القطب الغربي مشكلةً كبيرةً في جمع البيانات الضخمة اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي؛ إذ تفرض هذه الدول قيودًا صارمةً على استخدام بيانات المواطنين لحماية خصوصيتهم، كما تمنع استخدام المحتوى العام المنشور على الإنترنت دون ترخيص. ولهذا؛ تحتاج الشركات الغربية إلى دفع ملايين الدولارات لشراء هذه التراخيص؛ حتى تتمكن فقط من البدء في تدريب وتعليم نماذجها للذكاء الاصطناعي؛ ما يضع الذكاء الاصطناعي الصيني في أفضلية طبيعية مقابل الذكاء الاصطناعي الغربي!

الصين نحو ريادة الذكاء الاصطناعي عالميًا

تعتمد الحكومة الصينية بشكل رسمي ومُعلن على تقنيات الذكاء الاصطناعي في العديد المجالات؛ بدايةً من النقل والمواصلات والرعاية الصحية؛ ووصولًا إلى الأنظمة الرقابية التنفيذية المُتمثلة في سلطات إنفاذ القانون؛ إذ تثق الحكومة الصينية في كفاءة الذكاء الاصطناعي الصيني بما يُمكنها من الاعتماد عليه كليًا في هذه المجالات. ويرى العالم الغربي أن وصول هذه التقنيات إلى سلطات إنفاذ القانون يُمثل انتهاكًا صارخًا لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؛ والتي تقضي بفصل هذه الأنظمة التقنية عن المنظومة الأمنية التي تحكم بين البشر؛ ذلك لتجنب وقوع الأخطاء التي لا مفر منها عند الاعتماد كليًا على الآلة.

من وجهة نظر الغرب؛ لن يتسامح المجتمع أبدًا مع وقوع حالة خطأ واحدة تؤدي إلى ظلم أحد الأبرياء. ولهذا؛ سيظل استخدام هذه التقنيات منافيًا لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي الغربية؛ حتى تنخفض نسبة الخطأ إلى الصفر بشكل مطلق!

استخدمت الحكومة الصينية الذكاء الاصطناعي في تطوير منظومة الخدمة العامة بشكل كبير؛ إذ لعبت هذه التقنيات الحديثة دورًا محوريًا في تحسين خدمات الرعاية الصحية. فقد اعتمتد المستشفيات والمؤسسات الطبية الصينية على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الكشف المُبكر وتشخيص الأمراض المستعصية؛ خاصةً السرطانات.

وبالفعل؛ تعمل الشركات الصينية المتخصصة في مجال التقنية الطبية على تدريب بعض النماذج على مجموعات ضخمة من بيانات المرضى لدراسة كافة الاحتمالات المُمكنة حول تحور الخلايا؛ ذلك حتى يتمكن النموذج من تقديم خريطة زمنية تتنبأ ببدء تكون الأورام السرطانية عند المرضى اعتمادًا على بعض المؤشرات التي قد تكون غير حاسمة بالنسبة للأساليب الطبية التقليدية. وتُعد شركة بينغ آن للرعاية الصحية (Ping An Healthcare)، وهي شركة صينية متخصصة في مجال التقنيات الطبية، ضمن الشركات الرائدة عالميًا في مجال الكشف المُبكر عن السرطان باستخدام الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي الصيني يقود العالم نحو القيادة الذاتية

تُعد القيادة الذاتية من أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي الصيني في مجال النقل والمواصلات؛ إذ تمكنت الصين من تطوير النظام الأول عالميًا الذي يُقدم هذه التقنية بشكل آمن وفعَّال يمكن الاعتماد عليه في المشروعات الكبرى للنقل والمواصلات. وتحتل شركة بايدو الصينية صدارة هذه التقنية؛ ذلك من خلال برنامج أبولو (Apollo) للنقل التشاركي، والذي يعتمد على أسطول من الحافلات ذاتية القيادة لنقل المواطنين.

تتربع بايدو على قمة الشركات التقنية الصينية؛ إذ تُقدم الشركة تقنيات رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ خاصةً بعد إطلاق نموذجها الأخير Ernie 4.0؛ إذ يزعم العملاق الصيني أن Ernie 4.0 قادر على سحق كافة النماذج المُنافسة، وعلى رأسها GPT-4.

بدأت بايدو مشروع أبولو في عام 2013، في تعاون متعدد الجنسيات مع الشركات الكبرى في مجالات التقنية وصناعة السيارات؛ مثل إنتل، وBMW، ومرسيدس بنز، وغيرها. واستمر العملاق التقني الصيني في أبحاثه حول تطوير منظومة القيادة الذاتية للمركبات؛ لتُعلن بايدو رسميًا عن بدء اختبار سياراتها ذاتية القيادة بين عامي 2017 و2018.

الحافلات الصينية ذاتية القيادة

وفي عام 2021؛ بدأت بايدو رسميًا تشغيل خطوط المواصلات العامة الخاصة ببرنامج أبولو في كوكب الصين الشقيق، والتي تتضمن حافلات بسعة 14 راكبًا تعمل على نماذج ذكاء اصطناعي مُتطورة لإدارة منظومة القيادة الذاتية. وأعلنت بايدو في عام 2022 عن نيتها لتطوير منظومة جديدة من التاكسي الروبوتي. وستعتمد الشركة التقنية الكبرى على تطوير تطبيقات على هواتف المحمول لاستدعاء سيارات التاكسي ذاتية القيادة؛ إذ سيكون العميل بمثابة القائد الخفي لهذه المركبات عن طريق التحكم الكامل في خط سير التاكسي عبر التطبيق.

عند ذكر التاكسي الروبوتي؛ لا نستطيع تجاهل الملياردير الأمريكي الطموح إيلون ماسك؛ إذ يسعى ماسك بكل الطرق إلى تطوير منظومة مُماثلة من التاكسي الروبوتي على الأراضي الأمريكية؛ قبل أن يتوسع بمشروعه الواعد عالميًا. ويعتمد ماسك على شركته تسلا في تطوير هذه المنظومة؛ إذ بدأ في تضمين أنظمة للقيادة الآلية بالفعل داخل سياراته الكهربائية. ومع ذلك؛ لم تُحقق هذه الأنظمة نجاحًا كافيًا ليتمكن ماسك من الاعتماد عليها كليًا في نظام شامل للقيادة الذاتية.

وفي خطوة مفاجئة للجميع؛ انطلق إيلون ماسك إلى بكين يوم 28 أبريل 2024؛ بهدف إطلاق مشروع تعاون ضخم بين شركة تسلا والصين. ويهدف هذا التعاون تحديدًا إلى الحصول على تقنيات الذكاء الاصطناعي الصينية المُستخدَمَة في منظومة القيادة الذاتية؛ إذ يسعى الملياردير الأمريكي إلى البدء في مشروع التاكسي الروبوتي الخاص بشركة تسلا في أغسطس 2024.

زيارة إيلون ماسك إلى الصين للحصول على الذكاء الاصطناعي الصيني في القيادة الذاتية

تُمثل هذه الخطوة اعترافًا واضحًا على تفوق الذكاء الاصطناعي الصيني في مجال القيادة الذاتية؛ إذ أصبحت الصين مركزًا عالميًا لهذه التقنيات التي قد تُغير من مفهوم النقل والمواصلات خلال السنوات المُقبلة.

والآن؛ تحدثنا عن الجانب المُشرق من الذكاء الاصطناعي الصيني. ولكن هل هذا كل شيء؟ بالطبع لا! فهناك جانب آخر مُظلم من الذكاء الاصطناعي الصيني يجعل الحياة هناك تجربةً سوداويةً وكأنها حلقة من ديستوبيا مسلسل Black Mirror!

الذكاء الاصطناعي الصيني..نظام شامل لمراقبة 1.5 مليار نسمة!

عادةً ما تسعى الأنظمة الشيوعية إلى إحكام قبضتها على الشعب؛ إذ تتمحور هذه الأنظمة بشكل أساسي حول إنهاء الطبقية الاجتماعية من خلال فرض قيود رقابية على شعوبها؛ وذلك لضمان الملكية المُشتركة وعدالة التوزيع. وقد تعددت الأدوات التي اعتمدت عليها الأنظمة الشيوعية على مر السنين؛ إذ أصبح الذكاء الاصطناعي الآن واحدًا من أهم الأدوات التي تعتمد عليها حكومة الصين الشيوعية في فرض الرقابة على شعبها.

ولتحقيق هذا الهدف؛ دفعت الحكومة الصينية عجلة البحث العلمي بكل قوتها في مجال الذكاء الاصطناعي؛ لتصبح الصين الآن على قمة الدول المُطورة لتقنيات التعرف على الوجوه؛ وهي إحدى تقنيات الذكاء الاصطناعي المُتخصصة التي تستخدمها الصين بشكل رئيسي في أنظمتها الرقابية الشاملة.

أمام التعداد السكاني الضخم عند 1.5 مليار نسمة تقريبًا؛ تحتم على الصين اللجوء إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي لإحكام قبضتها الرقابية على الشعب.

الذكاء الاصطناعي الصيني بين الرقابة الأمنية وإنفاذ القانون

بدأت الحكومة الصينية في الاهتمام بمجال التعرف على الوجوه بشكل خاص؛ إذ كانت الصين عازمةً من البداية على دعم منظومتها الأمنية بهذه التقنية المُتخصصة من الذكاء الاصطناعي؛ حتى تتمكن من فرض نظام رقابي شامل على مستوى الأراضي الصينية. وتزعم الصين أن غرضها الأساسي من تطبيق هذه المنظومة هو خفض معدلات الجريمة؛ ولكن تحولت هذه المنظومة مع الوقت إلى نظام رقابي شامل تفرضه الحكومة الديكتاتورية على مواطنيها.

كاميرات المُراقبة بالذكاء الاصطناعي الصيني تملأ الشوارع الصينية

وللبدء في تنفيذ هذه الخطةً؛ احتاجت الصين أولًا إلى تغطية الأراضية الصينية المأهولة بكاميرات المراقبة بشكل كامل؛ إذ أصبحت الصين الدولة الأولى عالميًا في عدد كاميرات المراقبة الموجودة بالأزقة والشوارع. وطبقًا لتقرير صحيفة Firstpost الهندية؛ تمكنت الصين من توفير كاميرا مراقبة واحدة على الأقل لكل مواطنَيْن؛ أي أن الشوارع الصينية تضم 700 مليون كاميرا تقريبًا! وقد ساهمت جائحة كوفيد 19 في تعجيل الصين بتفعيل هذه المنظومة بجميع المدن والقرى الصينية.

ترى الحكومة الصينية أن نجاحها في كبح تطور الجائحة بالصين ناتج عن الاعتماد على منظومة الكاميرات الرقابية المدعومة بالذكاء الاصطناعي؛ إذ ساهمت هذه المنظومة في ضبط أي مواطن يُخالف التعليمات الوقائية التي فرضتها السلطات لاحتواء الجائحة.

وعمومًا؛ ساهمت هذه المنظومة بالفعل في خفض معدلات الجريمة بالصين؛ ذلك بعد أن أصبحت كافة الشوارع الصينية على مرأى ومسمع من سلطات إنفاذ القانون. وكالعادة؛ بالغت الصين في تطوير هذه التقنية؛ حتى توصلت شركة Cloud Walk، وهي إحدى الشركات التقنية الصينية، إلى تطوير نموذج جديد قادر على تحليل السلوك البشري والاعتماد على تقنيات  التعرف على الوجوه للتنبؤ بمدى قابلية المواطنين للانخراط في الأنشطة الإجرامية! فهو نظام مُخصص لفرز المواطنين باستخدام الذكاء الاصطناعي.

وهنا يُصبح الأمر كارثيًا بعض الشيء؛ إذ تتخذ الحكومة الصينية من الذكاء الاصطناعي وسيلةً للتمييز العنصري بين المواطنين؛ ما يؤدي إلى انتهاكات ضد الأبرياء الذين يجدون أنفسهم ضحايا لأحكام تمييزية تفتقر إلى العدالة والتأمل في طبيعة الجرائم المزعومة.

الذكاء الاصطناعي الصيني مُتورط في قمع الأويغور!

استخدمت حكومة الصين الديكتاتورية هذه المنظومة في قمع الأقليات؛ خاصةً مسلمي الأيغور، إذ أشارت التقارير الغربية إلى استخدام هذه الكاميرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في الفصل والتمييز العنصري ضد الأقليات المسلمة في منطقة سنجان الصينية. وفي عام 2019؛ أدرجت الولايات المتحدة عددًا من الشركات التقنية الصينية في القائمة السوداء، وهي الشركات المُتورطة بتطوير التقنيات التي ساهمت في اضطهاد مسلمي الأويغور؛ مثل شركة Dahua، وSenseTime، وغيرها من شركات الذكاء الاصطناعي الصيني.

وطبقًا لتقرير مؤسسة IPVM، وهي مؤسسة بحثية في مجال كاميرات المراقبة؛ تحتوي الكاميرات المُطورة بواسطة شركة Dahua على نماذج مُتطورة من الذكاء الاصطناعي؛ إذ تتمكن هذه الأنظمة الذكية من تحديد أي «مخالفات» تضعها الحكومة الصينية، مع إبلاغ السلطات فورًا بموقع إلتقاط المُخالفة، بالإضافة إلى التعرف على هوية الجاني بشكل دقيق خلال 8 ثوانٍ فقط! وعلى سبيل المثال؛ تُبلغ هذه الأنظمة الشرطة الصينية إذا رفع أحد المواطنين أي لافتة بالشوارع الصينية؛ فهي ضمن الأدوات التي تعتمد عليها الصين في قمع حالات الاحتجاجات.

استمرت الصين في استخدام هذه التقنيات ضد شعب الأيغور؛ إذ اعتمدت على الكاميرات المُزودة بتقنيات التعرف على الوجوه بالذكاء الاصطناعي في دراسة تعابير الوجه وتحليلها. وذلك طبقًا لتقرير BBC الذي حصلت عليه من أحد مهندسي البرمجيات؛ إذ أفاد بتثبيت هذه المنظومة بأحد أقسام الشرطة بمقاطعة سنجان.

تستخدم الصين شعب الأيغور كفئران تجارب لأبحاثها في الذكاء الاصطناعي؛ كما تستخدم الصور المُلتقطة لوجوههم عُنوةً عبر هذه الكاميرات بشكل مستمر في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المُطوَّرة لفهم المشاعر الإنسانية.

نظام الرصيد الاجتماعي الصيني..يوتوبيا أم ديستوبيا؟

لا يمكننا ذكر الذكاء الاصطناعي الصيني دون التطرق إلى نظام الرصيد الاجتماعي؛ إذ خلقت الحكومة الصينية نظامًا دقيقًا يعتمد على تآزر متناغم بين العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي؛ وذلك لفرز المواطنين طبقًا لسلوكياتهم داخل المجتمع. وقد واجه هذا النظام عددًا من الانتقادات العالمية؛ إذ ترى منظمات حقوق الإنسان أن نظام الرصيد الاجتماعي يُستخدم في تعزيز منظومة الفصل العنصري التي تنتهجها الحكومة الصينية؛ خاصةً ضد الأقليات الدينية مثل مسلمي الأيغور.

نظام الرصيد الاجتماعي الصيني

تبدأ الحكومة الصينية تطبيق هذا النظام على المواطنين فور بلوغهم السن القانوني؛ حيث يضطر المواطن حينها إلى تسجيل حساب شخصي على برنامج الرصيد الاجتماعي الحكومي؛ والذي يمنح الأعضاء الجُدد ألف نقطة قابلة للزيادة أو النُقصان طبقًا لسلوكياتهم داخل المجتمع.

ويعتمد نظام الرصيد الاجتماعي على منظومة الكاميرات المُثبتة في الشوارع لتحديد السلوكيات التي تراها الحكومة الصينية إيجابيةً أو سلبيةً؛ إذ يعمل النظام على تحليل سلوكيات المواطنين بعد التعرف على هويتهم بالذكاء الاصطناعي ليبدأ في منح أو خصم النقاط من رصيدهم الاجتماعي طبقًا لتوجيهات الحكومة الصينية.

فعلى سبيل المثال؛ يُمكن أن يحصل المواطن على المزيد من النقاط عند إلقاء النفايات داخل سلة القمامة، أو عند مساعدة المُسنين والفقراء؛ بينما يتعرض المواطن للخصم عند إلقاء النفايات في الشارع، أو تعاطي الكحوليات بكميات كبيرة، أو حتى التصرف بشكل غير لائق مع رفاقه من المواطنين؛ فالكاميرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي قادرة على فهم وتحليل تعبيرات الوجه، بالإضافة أيضًا إلى قراءة حركة الشفتين!

يعمل هذا النظام على فرز المواطنين إلى شرائح طبقًا لرصيدهم الاجتماعي؛ إذ تحصل الشرائح العليا في هذا النظام على عددًا من الامتيازات التي تُحددها الصين؛ مثل الخصومات المُميزة في جميع المرافق كالنقل والمواصلات، بالإضافة أيضًا إلى بناء أحياء سكنية خاصة بالشرائح ذات الرصيد المرتفع؛ والتي تضمن حسن الجيرة مع المواطنين ذوي السلوكيات الحسنة.

وعلى النقيض؛ تُمارس الحكومة الصينية عددًا من القيود القمعية تجاه الشرائح الدُنيا من هذا النظام؛ إذ يستهدف هذا النظام الأقليات الدينية بشكل مباشر عن طريق خصم كميات كبيرة من النقاط مقابل كل دقيقة يقضيها المواطن داخل دور العبادة المختلفة؛ مثل المساجد بالطبع في حالة الأويغور. وتحظر الصين سفر المواطنين ذوي الرصيد المنخفض خارج البلاد؛ إذ ترى الحكومة الصينية أن هذه الشريحة من المواطنين قد تتسبب في تشويه صورة الصين فور مغادرتها الحدود الصينية.

يبدو نظام الرصيد الاجتماعي إيجابيًا في ظاهره؛ ولكنه يخفي العديد من المعاني القمعية التي تهدف إلى حصار البشر اعتمادًا على الآلات؛ إذ يُصبح المواطنين تحت رحمة نظام رقمي يُقيِّم سلوكياتهم، ويُحدد مصائرهم؛ دون إفساح أي مجال للخطأ أو التسامح!

بعد أن استعرضنا الذكاء الاصطناعي الصيني، ما له وما عليه؛ لا يسعنا أبدًا سوى تقدير هذه الطفرة التقنية التي حققتها الصين في ذلك المجال. والآن؛ أريدك أن تتأمل مقدار السخط العالمي؛ أو الغربي تحديدًا، تجاه الذكاء الاصطناعي الصيني. فهل يلتزم الذكاء الاصطناعي الأمريكي بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟

قد أحتاج إلى كتابة مقالة أخرى لإجابة هذا السؤال؛ فقط لأوضح لك مدى النفاق الذي أصبح شعارًا للحلم الأمريكي! ويكفيني إخبارك أن تلك الدولة التي تتشدق علينا بحقوق الإنسان وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي تدعم المشروعات العسكرية للاحتلال، والتي استخدمت بالفعل هذه التقنيات في قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والأبرياء على أرض غزة؛ فالدولة التي تعتبر الذكاء الاصطناعي الصيني لا أخلاقيًا بسبب استخدامه في الأنظمة الرقابية لا تُمانع أبدًا استخدام تقنياتها في استهداف وقتل الأطفال.

ختامًا؛ لن أستطيع أبدًا صياغة مقارنة أخلاقية بين الصين والدول الغربية في استخدامها لتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ فجميعهم مُجرمون إذا اقتضت المصلحة ذلك!