في العشرين سنة الأخيرة، كان الدافع الرئيسي لتطور سرعة الحاسب هو عملية التصنيع Manufacturing Process الاصغر، أو بمعني أخر: حجم الدارة الكهربية Transistor الأصغر.

والسبب في ذلك يعود الي ان الحاسب يعتمد في عمله علي المعالجات، والمعالجات تعتمد في عملها علي عدد الدارات الكهربية وكلما زاد هذا العدد كلما زادت قدرات هذه المعالجات.

كلما زاد عدد الدارات الكهربية كلما اصبح للمعالج وحدات اكثر لمعالجة انواع اكثر من البيانات، وكلما زاد حجم وكمية الذواكر المساعدة Caches بداخله، وكلما زادت سرعة تردده وتشغيله، فالتردد العالي يحتاج لعدد كبير من الدارات كي تتفادي مشكلات التشوش واختلاط الإشارات الكهربية.

حتي الذاكرة تحتاج الي عدد دارات كبير كي تأتي بأحجام تخزينية كبيرة. ولاننا محدودون بمساحة ثابتة للمعالج وللذاكرة، فان زيادة العدد تحتاج الي تصغير حجم كل دارة كهربية كي نتمكن من حشر عدد كبير منها في سطح المعالج. 

وهذا التصغير لا يتحقق إلا باستخدام عمليات تصنيع صغيره، تتم في مصانع ومسابك مزودة باجهزة تصنيع ذات ادوات دقيقة وميكروسكوبية، كي تتمكن من تقليص حجم كل دارة كهربية الي أحجام أصغر وأصغر.

التصغير أيضا يقلل من الحرارة الناتجة من كل دارة، فالدارة الصغيرة تحوي قدرا اقل من الموصلات التي تخرج حرارة مع مرور الكهرباء خلالها، ومع حجم الموصلات الصغير تكون الحرارة الناتجة قليلة. يمكن هذا مصنعي المعالجات من حشر عدد اكبر واكبر من الدارات في مساحة صغيرة دون القلق أو الخوف من خرج حراري كبير منها. كما يمكنهم من تشغيل الدارات بتردد عالي دون القلق من تعرضها للتلف جراء السخونة العالية. فطالما كان حجم الدارة صغير، كانت الحرارة الناتجة صغيرة.

ويأتي فوق كل ذلك فائدة سهولة تصميم وسائل تبريد بسيطة تبرد المعالج بكفاءة.

والحجم الصغير للدوائر يقلل من استهلاكها للطاقة أيضا، فالدارة الصغيرة تحتاج فرق جهد Voltage أقل لتشغيلها، مما يعني ان سحبها للطاقة الكهربية يكون أقل، ويمكن هذا مصنعي المعالجات من استخدام عدد كبير من الدارات دون القلق من شراهة استهلاكهم للطاقة، كما يمكنهم من زيادة تردد تشغيل هذه الدارات دون ان يزيد هذا من استهلاكها للكهرباء.

مما يعني أن مصممي الحاسب لن يحتاجوا الي تصميم دوائر طاقة أو مزودات طاقة Power Supplies معقدة لامداد هذه المعالجات بالكهرباء.

باختصار التصغير يزود المعالج بعدد اكبر من الدارات، وبتردد اعلي وبحرارة اقل واستهلاك طاقة اقل. اربعة عناصر محورية لا غني عنها لعمل اي معالج ذو سرعة وقدرة عالية.

ولقد واظب عالم التقنية علي تصغير حجم الدارات فيما يسمي بعمليات التصغير Manufacturing Process، وهي عمليات ازدادت صغرا عاما بعد عام. ولقد أدي هذا الي نشأة قانون مور.

والقانون باختصار ينص ان عدد الدارات الكهربية في المعالج يتضاعف كل عامين، ويتضاعف معها اداء المعالجات كذلك كل عامين.

ولقد بدأنا بقطر 500 نانومتر (500nm) للدارة في عام 1992 وهو قياس معياري تتفق عليه الصناعة كلها، لانه يعبر عن طول أجزاء معينة في الدارة الكهربية .. وبمرور الأعوام كان هذا القطر ينخفض بالتدريج مع عمليات التصغير المتكررة بمعدل 70% تصغير كل عامين (تقريبا) .. فانخفض القطر من 500 نانو، الي 350 نانو، ثم 250 نانو ثم 180 ثم 130 ثم 90 ثم 65 ثم 45 ثم 32 في عام 2009، هكذا 9 نقلات في حجم القطر خلال 18 عاما، بمعدل نقلة تصغير كل عامين.

ثم جاء قطر 22 نانو (22nm) ليكسر هذا الايقاع المنتظم، فكان الوصول الي ذلك القطر متوقعا في عام 2011، الا أنه تعرض للتأخير الي عام 2012. ثم جاء قطر 14 نانو (14nm) الذي يليه متأخرا بطبيعة الحال .. تأخر الي عام 2015 بدلا من 2013! وبقي مع المستخدمين 4 أعواما كاملة حتي هذه اللحظة.

أما قطر 10 نانو (10nm) الذي يليه فقد تأخر كثيرا للغاية .. أكثر مما ينبغي!

لقد تعرض ايقاع تصغير الدارات للتباطؤ الشديد في الاعوام الاخيرة، فكلما حاولنا تصغير الدارة اكثر واكثر كلما اصطدمنا بقوانين الطبيعة والنواميس الكونية اكثر واكثر. فكلما قل حجم الدارة كلما ارتفعت نسبة تسريب وهروب الشحنات الكهربية منها، وهو الامر الذي يرفع من استهلاكها للطاقة بطريقة غير مباشرة، ويعرضها للتلف والخطا والفشل في العمل.

وكلما قل حجم الدارة، قل حجم الاسلاك الموصلة لها، مما يزيد من مقاومة هذه الاسلاك لمرور الكهرباء فيها، ويزيد هذا ايضا من استهلاك الطاقة بشكل غير مباشر.

وكلما قل حجم الدارة كلما تعرضت للانهيار والتدمر بسهولة، سواء تحت ضغط الحرارة او التردد السريع. ولكل هذه العوامل فان قدرة المصنعين علي تصغير حجم الدارات وصلت الي أقصاها ولم يعد بإمكانهم تصغيرها بسهولة كما كان سابقا.

ولقد اجبر هذا المصنعين الي التحايل علي قواعد الطبيعة، فبدلا من تسمية عمليات التصغير باسمها الحقيقي المشتق من قطر وحجم الدارة كما كان متعارفا عليه في القياسات المعمارية، يلجأ المصنعين الان الي استعمال مسميات اعتباطية لا علاقة لها بحجم الدارة، اسماء دعائية بالاساس مصممة للإيحاء بان عملية التصنيع قد وصلت إلي حجم أصغر في حين انها ليست كذلك. وأول هذه الأسماء كان قطر 12 نانو، الذي لم يكن حقا بمقياس 12 نانو، وانما كان مقياس بدقة 14 نانو محسن ومنقح بيحث يعطي ترددا أسرع قليلا واستهلاك طاقة أقل قليلا من 14 نانو. ثم تلي ذلك عملية تصنيع 7 نانومتر(7nm) ، فهي كعملية لا تعني أن حجم الدارة أو قطرها قد وصل الي 7 نانومتر، هي فقط سميت باسم 7 نانو كي تدل علي انها افضل من 12 نانومتر. اي أن لقب 7 نانو هو لقب تجاري بحت لعملية تصنيع بخصائص افضل من حيث التردد والطاقة والحرارة، ومن حيث حجم الدارة، الذي صار أصغر قليلا من 12 نانو.

والاسوأ من هذا ان كل مصنع يختلق اسماء عمليات التصنيع كيفما يتراءى له او طبقا لاهوائه ومقاييسه الخاصة التي تحيد كثيرا عن المعايير القياسية. لذا تجد أن عملية تصنيع 7 نانو لدي شركة TSMC لا تتساوي مع عملية تصنيع 7 نانو لدي Samsung أو لدي Intel. فعملية تصنيع 7 نانو لدي TSMC هي نفسها عملية تصنيع 10 نانو لدي Intel من حيث الخصائص، لكن كل شركة اختارت تسمية عملية التصنيع لديها طبقا لاهواءها. واحقاقا للحق فان Intel هي الوحيدة التي تحافظ علي اتساقية التسمية، فعملية تصنيع 10 نانو لديها هي الامتداد المنطقي للتصغير بنسبة 70% من قطر 14 نانو السابق. بينما قفز باقي المصنعين من أمثال TSMC و Samsung و Global Foundries كذبا الي 7 نانو.

10nm

لكن قطر 10 نانو لدي Intel لم يتاح له أن يري النور في أي صورة مهمة حتي هذه اللحظة، متأخرا 4 أعوام كاملة، والشركة تصارع نواميس الكون وقوانين الطبيعة لاتمام عملية تصنيع 10 نانو بلا جدوي، فالأمر أثبت انه في غاية الصعوبة .. لذا فان صراحة وأمانة Intel لم تترجم الي انجاز حقيقي علي أرض الواقع، و ظلت Intel عالقة علي مقياس 14 نانو الذي لا تستطيع الفكاك منه! بينما سبقها مصنعين آخرين -كانوا أقل أمانة في التسمية- بعملية تصنيع أفضل، تلك التي أطلقوا عليها لقب 7 نانو في حين أنها ليست كذلك.

وتمتد توابع هذا الأمر الي حقيقة صادمة، ان دقات التصغير الجديدة لا تقدم زيادة ملحوظة في التردد فوق الدقات القديمة وهذا باعتراف شركات التصنيع أنفسهم. فجميعهم يقر الان ان تردد المعالجات لن يزداد الا بصورة طفيفة في الاعوام المقبلة، وكيف يحدث هذا والدارات لا تصغر حقا بالأحجام المتوقعة، هي فقط تتعرض للتصغير بالاسم فقط.

لقد وصلنا بصعوبة شديدة الي تردد 5GHz باستخدام عملية تصنيع 14 نانو تم تنقيحها وتحسينها أكثر من مرة! لكن حتي عملية تصنيع 7 نانو لم تحسن من هذا التردد ولم ترفعه بصورة واضحة وانما أبقت عليه كما هو! رغم كل التحسينات العديدة في عملية التصنيع الذي حققته 7 نانو مقارنة بـ 14 نانو!

لا يجب علي المستخدمين توقع ترددات تتعدي الـ 5GHz بفارق كبير في القريب العاجل أو حتي الآجل .. يبدو أن هذا سقف طموحات المصنعين حاليا!

وتلك هي فاجعة المعالجات الحقيقة، أن نخسر قدرتنا علي زيادة التردد! رغم قدرتنا علي زيادة عدد الدارات، ورغم قدرتنا علي تصغيرها ولو بشكل جزئي .. ورغم عمليات التصنيع التي تسمي بأسماء فخمة ومزخرفة في حين أنها عاجزة تحت السطح عن زيادة التردد كما ينبغي، وبشكل يعبر عن فخامة هذا الاسم!

لهذا فان التسمية بالقطر أو المقياس أو الدقة Node  لم تعد صالحة بعد اليوم، لانها لا تعبر عن الواقع، والتسمية الوحيدة الصالحة الآن هي عملية التصنيع Manufacturing Process لتطابق الأسماء التجارية التي تنتشر الآن.

لقد ضربت الفوضي أطنابها في عالم التصنيع، أصبح لدينا الآن عمليات تصنيع بأسماء زائفة مثل  12 نانو و 10 نانو و 8 نانو و 7 نانو، وكلها لا علاقة بقطر الدارة الحقيقي.

فضلا عن ذلك فإن تكلفة عملية التصغير الان صارت أضعاف مضاعفة مقارنة بما كان سابقا، إن تكلفة عملية تصنيع 7 نانو وحدها هي ضعف تكلفة 14 نانو، علي الرغم من أن 7 نانو ليست تصغيرا كاملا لقطر 14 نانو! لكن صعوبة التصغير تطلبت بناء مصانع ضخمة باجهزة مخصصة بتكلفة طائلة للحصول علي أفضل نتيجة تصغير ممكنة متاحة! مما رفع من تكلفة عملية تصنيع 7 نانو متر ككل.

والأمر سيزداد سوءا مع عمليات التصنيع الأصغر، فعملية تصنيع 5 نانو يتوقع لها أن تأتي بضعف تكلفة 7 نانو! علي الرغم من أن أيا  منهما لا يعد تصغيرا كاملا لقطر الدارة .. والتكلفة ستتضاعف أكثر وأكثر اذا اقتربنا من 3 نانو! مما يعني أن تكلفة صنع المعالجات ستتضاعف وسيتضاعف سعر بيعها للمستهلكين!

لكن التكلفة هي أقل اهتمامتنا حاليا، فقد نضحي بها تماما مقابل أن نحصل علي دارات وعمليات تصنيع أصغر بشكل حقيقي، وأسرع ترددا وأقل استهلاكا للطاقة واخراجا للحرارة، كما اعتدنا من قبل، لكننا لم نعد نحصل علي ذلك حقا! لقد خسرنا التردد كبداية أولي رغم التكلفة التصنيعية المهولة.

ويأتي بعد التردد عدد الدارات نفسه، فلن نستطيع زيادته بنفس القدر الذي تعودنا عليه، لأم حجم الدارة ليس صغيرا بما فيه الكفاية .. وهو الأمر الذي يؤثر علي استهلاك الطاقة أيضا .. والخرج الحراري، الذين لن ينخفضا بالشكل المطلوب نتيجة ثبات حجم الدارة النسبي. لقد اضطر بعض المصنعين الي خلط عمليات التصنيع في معالجاتهم لان الفائدة من التصغير لم تعد مجدية مقارنة فيما مضي، مثل AMD التي استخدمت أنوية بمقياس 14 نانو جنبا الي جنب أنوية أخري بمقياس 7 نانو في معالجات Ryzen 3000 الخاصة بها! وبالمضي قدما فإن الفوارق بين عمليات التصنيع المستقبلية ستكون أقل وأقل .. لقد ولت أيام الفوارق الضخمة في الأداء بين المعالجات فقط بالانتقال الي عملية تصنيع أصغر للأسف.

وتلك هي الفاجعة الكبري لعالم التقنية ولعالم المعالجات وللتطور التقني بشكل عام، عمليات تصنيع بأسماء زائفة، وبتكلفة عالية وتردد ضعيف ونسب استهلاك طاقة وخرج حراري متواضعة، وعدد دارات لا يزيد بما فيه الكفاية، والنتيجة النهائية هي زيادات قليلة في أداء المعالجات .. اي إنتهاء قانون مور!

إنه عالم آخر نعيش فيه اليوم، عالم يختلف تماما عن ربع القرن الماضي حيث كنا نعيش في نعيم مظلة التقدم التقني ذو الخطوات المهرولة. والقفزات التقنية في التردد واستهلاك الطاقة وقوة أداء المعالجات. نحن الآن نعيش في عالم جحيم قوانين الطبيعة القاسية والتقدم التقني الذي يسير بسرعة السلحفاة وأسماء عمليات التصنيع الزائفة! إنه عصر التجمد والبيات الشتوي التقني القارس الذي دخلنا فيه بغتة! ربما يجدر بنا اطلاق لقب عصر السلحفاة علي هذا العالم، ولن يكون في هذا اللقب أدني قدر من المبالغة أو المغالاة!

لكن الأسوأ من كل هذا أن الأفق يبدو مسدودا أمام ايجاد حلول حقيقية لانتشال العالم من هذا جحيم هذا العصر، لا توجد تقنيات أخري فعالة وبديلة، لا توجد طرق تصنيعية أخري تعوض ما نخسره من تردد وأداء، لا توجد مواد أخري نصنع منها معالجاتنا بطريقة منجزة وفعالة سوي السيليكون اللعين، لا يوجد أي شئ! وكل من يخبرك خلاف هذا هو حالم واهم وساذج أيضا!

لا يوجد سوي نحن وطرق تصنيع عتيقة وصلت أقصاها ومادة السيليكون اللعينة التي اعتصرنا منها كل قطرة حتي أصابها الجفاف وأصبحت مثل الثمرة المعطوبة التي نبتت في الصحراء الجرداء!

و بحق الله؟ فأي فاجعة تقنية أكبر من هذا؟