[quote بعض الأسس المنطقية يمكنها أن تغير طريقة رؤيتنا للعالم.]

أستاذ الاقتصاد الأمريكي ستيفن لاندسبورج..

في يوم الخميس، الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1929، حدث أكبر انهيار للبورصة الأمريكية في التاريخ، حتى إن ذلك اليوم أُطلق عليه "الخميس الأسود". هذا الانهيار كان بداية انهيار الاقتصاد الأمريكي حينها، والدخول في مدّة من الكساد والبطالة دامت لأكثر من عقد من الزمن، وهي الحِقْبَة المعروفة تاريخيًا باسم "الكساد العظيم".

خلال حِقْبَة الكساد العظيم، لم تتمكن النظرية الاقتصادية وقتها، وهي نظرية السوق الحر، من شرح أسباب الانهيار الاقتصادي الحاد في مختلف أرجاء العالم، أو حتى توفر حلًا سياسيًا عامًا ومناسبًا لإعادة الإنتاج وإعادة الوظائف والعمل للملايين من الأشخاص.

وهنا ظهر المفكر والاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بثورته الجديدة في التفكير الاقتصادي، وظهر مفهوم تقسيم الاقتصاد إلى الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي!

كيف ينقسم الاقتصاد؟ ولماذا لجأنا إلى ذلك التقسيم من الأساس؟

لماذا نقسم الاقتصاد؟

أطفال يحملون لافتات اعتصام في مظاهرة خلال فترة الكساد العظيم

منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى حقبة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، كان الاقتصاد جزءًا واحدًا، وهو ببساطة دراسة كيف تنظم المجتمعات البشرية إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات. وكما عرفنا أن الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث، في كتابه "ثروة الأمم"، جاء بمصطلح "اليد الخفية"، والمقصود هنا أن الشخص الذي يسعى إلى زيادة مكاسبه إلى الحد الأقصى سيقدم النتيجة الأفضل للمجتمع ككل.

آدم سميث وغيره من المفكرين الاقتصاديين الأوائل، مثل ديفيد هيوم، بدأوا فكرة الاقتصاد الحديث مع انطلاق محركات الثورة الصناعية.

نظرية السوق الحر كانت تفترض ضمنيًا أن الأسواق ستحافظ على توازنها، أو هذا هو الهدف من ترك الحرية للسوق دون تدخل الحكومات، مثلًا أن الأسعار ستضبط نفسها لتعادل العرض والطلب على سلعة ما، أو في حالات الصدمات المفاجأة، مثل الأزمات المالية أو المجاعات، ستعود الأسواق بسرعة إلى توازنها المعتاد دون تدخل من الحكومات.

اقرأ: اليد الخفية وكيف بدأت الأنظمة الاقتصادية الحديثة؟

بمعنى آخر، اعتقد الاقتصاديون أن دراسة الأسواق الفردية ستكون كافية لشرح سلوك التغيرات الكبرى في الاقتصاد، مثل البطالة والناتج المحلي الإجمالي وغيرها من الأمور التي تخص الدولة.

لكن خلال حقبة الكساد العظيم، كان الانهيار الاقتصادي العالمي شديدًا للغاية، واستمر لفترة طويلة من الزمن، إذ فقد الملايين وظائفهم وخسر الملايين أموالهم.

المشكلة هنا أن النظرية الاقتصادية حينها لم تتمكن من تفسير توابع الكساد العظيم. النموذج الكلاسيكي، الذي يفترض أن الأسواق الحرة دائمًا في حالة توازن، لم يملك أي تفسير معقول للانهيار الشديد في الأسواق خلال الثلاثينيات.

وهنا جاء المفكر والاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بفكرته الجديدة بتقسيم الاقتصاد، وظهر مصطلح "الاقتصاد الكلي" عام 1936، وكان الهدف الرئيسي منه هو دراسة عدم استقرار التغيرات الاقتصادية الضخمة. وبدلًا من التركيز السابق على التوازن في أسواق محددة، قدم كينز نظرة متزامنة للتوازن في ثلاث أجزاء مترابطة داخل الأسواق: السلع والعمالة والأموال.

حسنًا، كيف ينقسم الاقتصاد، وما هو الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي؟

كيف نقسم الاقتصاد؟

ينظر علماء الفيزياء إلى الكون الشاسع، إلى الكواكب والنجوم والمجرات وقوى الجاذبية، لكنهم في نفس الوقت يدرسون أيضًا عالم الذرات والجزيئات المتناهي في الصغر. بنفس الأسلوب، ينظر علماء الاقتصاد أيضًا إلى اثنين من عوالم الاقتصاد: الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي.

ما هو الاقتصاد الجزئي؟

أموال يورو دولار - الاقتصاد الجزئي

الاقتصاد الجزئي، يمكننا اعتباره الصورة الأصغر، يكون الهدف تحليل سوقًا واحدًا، ويهتم بكيفية تفاعل العرض والطلب على السلع والخدمات في أسواق محددة، على سبيل المثال سوق السيارات، وما إذا كانت الأسعار ترتفع أو تنخفض بفعل التغير في العرض أو الطلب عليها.

هل تتذكر صديقنا "أحمد"، الشاب الذي يعمل بإحدى الشركات الخاصة؟

حسنًا، أحمد والشركة التي يعمل بها يُطلق عليهم "وكلاء الاقتصاد"، ما الذي يفعله هؤلاء الوكلاء؟

ببساطة، يتخذون قرارات واعية حول ما يجب شراؤه أو بيعه أو إنتاجه، مثلًا عرفنا أن "أحمد" يتوجه إلى السوبر ماركت لشراء متطلبات البيت، السوبر ماركت يملك منتجات يبيعها للمستهلكين، تُنتجها مصانع تابعة لشركات خاصة. هذه هي القرارات التي يُبنى عليها الاقتصاد الجزئي. مع افتراض أن تلك القرارات ستؤدي إلى ما يُعرف باسم "مقاصة السوق" أو أن الطلب يساوي العرض لتحدث حالة التوازن الاقتصادي.

الاقتصاد الجزئي، في دراسته لسلوك المستهلكين والأفراد، ينقسم إلى نظرية الطلب الاستهلاكي، ونظرية الإنتاج، وأشياء أخرى ذات صلة مثل طبيعة المنافسة في السوق، والرفاهية الاقتصادية، ودور المعلومات في النتائج الاقتصادية. على سبيل المثال، يبحث في كيف تتمكن شركة "أحمد" من زيادة إنتاجها وقدرتها إلى الحد الأقصى، حتى تتمكن من خفض الأسعار والمنافسة بصورةٍ أفضل في السوق.

يركز الاقتصاد الجزئي على العرض والطلب والقوى الأخرى التي تحدد مستويات الأسعار في اقتصاد الدولة. كأننا نصعد من الأسفل إلى الأعلى عند إجراء عملية التحليل. بمعنى آخر، نحاول فهم الخيارات البشرية، والقرارات، وتوزيع الموارد.

يهتم الاقتصاد الجزئي بأشياء مثل تأثير الحد الأدنى للأجور، أو الضرائب، أو الدعم الحكومي للأسعار، أو احتكار بعض الأسواق. كما يتضمن العديد من المبادئ الأساسية، بما في ذلك:

  • العرض والطلب والتوازن: تُحدد الأسعار بموجب قانون العرض والطلب. في سوق تنافسي مثالي، يقدم البائع نفس السعر الذي يطلبه المستهلك، وهذا يخلق التوازن الاقتصادي.
  • نظرية الإنتاج: وهي تهتم بدراسة كيفية صنع السلع والخدمات.
  • تكاليف الإنتاج: وهي تهتم بتحديد سعر السلع أو الخدمات حسب تكلفة الموارد المستخدمة أثناء عملية الإنتاج.
  • اقتصاديات سوق العمل: وهي تبحث في العاملين وأصحاب الأعمال والشركات، ويحاول فهم أنماط الأجور والتوظيف والدخل.

بينما عندما نوسع النطاق أكثر، ونتجه إلى اقتصاد الدولة بأكملها، هنا يأتي الاقتصاد الكلي.

ما هو الاقتصاد الكلي؟

البنك المركزي المصري - الاقتصاد الكلي

بعد أن كان الأمر مقتصرًا على السوق الحر وعدم تدخل حكومات الدول، جاءت فكرة الاقتصاد الكلي، الذي يمكننا اعتباره الصورة الأكبر، ويهتم بكيفية عمل اقتصاد الدولة كليًّا. هنا يكون موضع الدراسة هو الدولة، ويصف العلاقات بين المتغيرات الضخمة التي يصعب دراستها وفهمها على نطاق أصغر.

مثلًا كيف تتفاعل كل الأسواق داخل تلك الدولة لتولد ظواهر كبيرة يُطلق عليها الاقتصاديون "المتغيرات الاقتصادية الكلية" وهي الوظائف، والناتج المحلي الإجمالي، والتضخم، والدخل القومي، ومستوى الأسعار الإجمالي، تلك المصطلحات التي تسمعها دائمًا في نشرات الأخبار الاقتصادية.

هنا تُعدّ الحكومة هدفًا رئيسيًا للتحليل، مثلًا في دراسة الدور الذي تلعبه للمساهمة في النمو الاقتصادي العام أو في مكافحة التضخم. وغالبًا ما يمتد الاقتصاد الكلي إلى النطاق الدولي، لأن الأسواق المحلية الآن مرتبطة بالأسواق العالمية عبر التجارة والاستثمار وتدفقات رأس المال.

لكن يجب ملاحظة أن الاقتصاد الجزئي قد يملك عنصرًا دوليًا أيضًا؛ غالبًا لا تقتصر الأسواق الفردية على بلدان محددة، وسوق البترول العالمي هو أوضح مثال على هذا الأمر. مثلًا عندما تنخفض أو ترتفع أسعار البترول في دولة كبرى، سيتأثر سوق البترول العالمي بهذا التغيير.

ينقسم هذا المجال إلى دراسة النمو الاقتصادي للدولة على المدى الطويل، وتحليل الابتعاد عن التوازن الاقتصادي على المدى القصير، وصياغة سياسات لتثبيت الاقتصاد الوطني على حالة التوازن، أي تقليل التقلبات في النمو والأسعار. يمكن أن تشمل هذه السياسات قوانين خاصة بالإنفاق والضرائب تفرضها الحكومة، أو إجراءات السياسات النقدية التي يتخذها البنك المركزي للدولة.

باختصار، الاقتصاد الكلي يدرس سلوك دولة ما، وكيف تؤثر سياساتها الحكومية على الاقتصاد ككل. يحلل الصناعات والاقتصادات بأكملها، بدلاً من تحليل سلوك الأفراد أو الشركات. هنا نسير من أعلى لأسفل عند إجراء التحليل الاقتصادي، ونحاول الإجابة على أسئلة مثل: ماذا يجب أن يكون معدل التضخم؟ أو ما الذي يحفز النمو الاقتصادي للدولة؟

العرض والطلب!

يمكننا تشبيه الاقتصاد الحديث بآلة معقدة للغاية، تتمثل وظيفتها الأساسية في تخصيص موارد الكوكب المحدودة وتوزيع الناتج على عدد كبير من العوامل الاقتصادية، وهم الأفراد والشركات والحكومات، ويسمح بإمكانية أن يؤثر فعل كل عامل منهم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على أفعال العوامل الأخرى.

وصف آدم سميث تلك الآلة بأنها "اليد الخفية"، مؤكدًا على تنظيم الاقتصاد لنفسه، وأن كل عامل من العوامل ممن يبحثون عن مكاسبهم الخاصة قد يخرجون أفضل نتيجة نهائية تخدم المجتمع ككل.

واليوم، يبني الاقتصاديون نماذج اقتصادية لتعزيز فهمنا لتلك اليد الخفية. الهدف من بناء تلك النماذج هو فهم كيف تتصرف تلك العوامل العاقلة، الأفراد والشركات والحكومات، أو لفهم كيف يعمل الاقتصاد، وإحدى تلك النماذج هي نموذج العرض والطلب!

إذًا، ما هو العرض والطلب؟ وكيف يعمل هذا النموذج الذي نسمع به دائمًا ويؤثر على حياتنا اليومية؟

لكن، كما يقول العجوز رفعت إسماعيل، هذه قصة أخرى.

انتظرونا في المقال القادم من سلسلة دليلك لفهم الاقتصاد، لنشرح كيف يعمل مفهوم العرض والطلب، وما الذي يؤثر على الأسعار وكيف تعمل الأسواق.