كنت أتابع الأخبار، وتوقفت عند خبر غريب وملفت للانتباه. ترامب يريد شراء جرينلاند من الدنمارك لأنها تُكلف الدنمارك الكثير دون فائدة. الأمر أشبه بأن يأتي أحدهم ويطلب من مصر شراء الإسكندرية لأنها تبعد عن القاهرة مسافة كبيرة وتُكلفها مصاريف في المواصلات!

بالطبع، لم يأخذ العالم هذا التصريح على محمل الجد، والبعض اعتبره يمزح، لكن البيت الأبيض أكّد أنه جاد تمامًا في هذا التصريح ويُصر عليه.

لكن هذا الرجل أفصح عن أفكاره في كتابه الشهير "فن الصفقة"، وتذكرت بعض الكلمات في هذا الكتاب حينما قال: "يُفضل أن تكون الصفقات ضخمة، هكذا أستمتع." تكاليف ماذا يا ترامب؟! بالتأكيد هناك شيء ضخم آخر يحدث تحت الطاولة.

واستعنت بدور شارلوك هولمز للتحقّق في هذا الأمر، واكتشفت أن الأمر يدور حول كنز من نوع آخر،
 كنزٌ من يملك أكبر قدر منه فإنه سيحكم العالم ويُسيطر عليه، كما أن ترامب لم يتوقف عند هذا الحد، بل ضغط على الرئيس الأوكراني للتوقيع على صفقة لاستغلال هذا الكنز، سواء كان يريد السلام أو متابعة الحرب.

وهذا الكنز هو: المعادن الأرضية النادرة. وعلى عكس أفلام هوليود، تمتلك أمريكا منها فقط القليل ولا تريد أن تأخذ دور "الكومبارس" في هذا الفيلم. لذلك، دعني أستكشف معك هذه المعادن، ولماذا تُسمّى بالنادرة، وهي ليست كذلك.

ما هي المعادن الأرضية النادرة؟

المعادن الأرضية النادرة أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ Rare Earth Elements (REEs)، هي مجموعة من 17 عنصرًا كيميائيًا تتسم بخصائص فيزيائية وكيميائية مميزة، وتُستخدم على نطاق واسع في الصناعات التكنولوجية والعسكرية الحديثة.

المعادن الأرضية النادرة

 سميت بالترابية أو Earths لأنه عند اكتشاف هذه العناصر لأول مرة في أواخر القرن الثامن عشر، وُجدت في صورة أكاسيد ذات طبيعة ترابية، لا في صورة معدنية لامعة كما هو الحال مع الذهب أو الحديد. لكن لماذا سميت بالنادرة على الرغم أن العالم يحتوي على ما يقرب من حوالي 130 مليون طن تقريبًا؟

سُميت "المعادن الأرضية النادرة" بهذا الاسم ليس لندرتها في باطن الأرض، بل لأن توزيعها الجغرافي غير متوازن فهي تتوافر بكميات هائلة، ولكن في مناطق محدودة فقط من العالم.

فيما يلي نسب توفر هذه المعادن بناء على الاحتياطي الخام:

النسبة التقريبية

تقدير الاحتياطي

الدولة

34%

44 مليون طن

الصين

17%

22 مليون طن

فيتنام

16%

21 مليون طن

البرازيل

7.7%(16% طبقًا لبعض المصادر)

10 مليون طن

روسيا

5.3%

6.9 مليون طن

الهند

4.4%

5.7 مليون طن

أستراليا

1.4%

1.8 مليون طن

الولايات المتحدة

1.2%

1.5 مليون طن

جرين لاند

0.38%

500 الف طن

بوروندي

0.68%

890 الف طن

تنزانيا

 

الكونغو الديمقراطية تمتلك كميات هائلة لكن لم تدرج في قائمة الاحتياطي الرسمي للـ Rare Earth Oxide (REO) عالميًا، لأن نسب الاحتياطات الرسمية غير متوفرة. إلا أن تقارير علمية مثل Frontiers in Environmental Science تشير إلى وجود رواسب مؤكدة، لكنها ما زالت في مراحل الاستكشاف أو ما قبل الاستخراج الصناعي الفعال. لكن هل يدخل وطننا العربي كلاعب أساسي أم يجلس على دكة الاحتياط أم يكتفي بدور المتفرج فقط؟ للأسف، أغلب الدول ستكتفي بدور المتفرج، كما هو حال معظم دول العالم، لكن هناك بعض اللاعبين على دكة الاحتياط يُرجَّح أن يدخلوا الملعب بقوة.

1. مصر

نعم، لا تتفاجيء ربما الحظ سيقف في صفنا هذه المرة، توجد مؤشرات قوية على وجود معادن أرضية نادرة في الرمال السوداء، خاصة في مناطق مثل رأس بناس، والبرلس، والعريش. تحتوي الرمال السوداء على معادن مثل المونازيت، الذي يحتوي على الثوريوم واللانثانيدات وهي جزء من المعادن الأرضية النادرة. في 2022، أُعلن عن بدء تشغيل مصنع لاستخلاص هذه المعادن، في محاولة لجعل مصر تلعب دورًا أكبر مستقبلًا.

مصنع الرمال السوداء بكفر الشيخ - المصدر: اليوم السابع

2. السودان

يمتلك السودان إمكانيات معدنية ضخمة، وتوجد دراسات أولية تؤكد احتمال وجود عناصر أرضية نادرة في بعض الصخور الرسوبية والبركانية، خاصة في شمال وشرق البلاد، لكن لم يؤكد حجم الاحتياطي بدقة حتى الآن.

3. المغرب

المغرب من الدول العربية القليلة التي دخلت بالفعل في التنقيب عن بعض عناصر الأرض النادرة، خاصة السيزيوم والتنتالوم. توجد جهود حاليًا في جبال الأطلس والجنوب الشرقي لاستكشاف رواسب أرضية نادرة.

4. السعودية

بحسب تقارير هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، هناك مؤشرات أولية على وجود معادن أرضية نادرة. وقد أعلنت المملكة عن مشروع ضخم للتنقيب عن هذه المعادن بقيمة تتخطى 100 مليار دولار. وتُقدر قيمة المعادن غير المستغلة في الممكلة حاليًا بنحو 2.5 تريليون دولار.

الأمر الذي جعلني أفكر في أن أرتدي زي رجال الأعمال، وأتسلل إلى الملعب، هو معرفتي بحجم الهواتف الذكية والحواسيب التي ألقيناها في القمامة أو غير المستخدمة، التي تحتوي على معادن تُقدر قيمتها بحوالي 62.5 مليار دولار من المعادن القابلة للاستخلاص، موزعة بين نحو 5.3 مليار هاتف غير مستخدم، و347 مليون جهاز كمبيوتر تم التخلص منه.

ثروة مُهدرة في النفايات الإلكترونية - المصدر: ScienceNewsExplores

 لكن حين نتحدث عن المعادن الأرضية النادرة، لا يكفي أن ننظر فقط إلى حجم الاحتياطي الخام في باطن الأرض، فالمعادلة أكثر تعقيدًا من ذلك. ما يحدد التأثير الفعلي لأي دولة في هذا المجال هو قدرتها على استخراج هذه المعادن بكفاءة، ثم معالجتها وتكريرها وتحويلها إلى المواد النقية المطلوبة في الصناعات المتقدمة. فمثلًا، قد تمتلك بعض الدول احتياطيات كبيرة، لكنها تفتقر إلى التكنولوجيا أو البنية التحتية اللازمة لفصل هذه المعادن عن الصخور المحيطة بها، وهي عملية معقدة ومكلفة وتتطلب معدات ومعرفة متخصصة. ولهذا السبب، فإن بعض الدول الغنية بالمعادن تظل خارج دائرة المنافسة الفعلية.

أما الصين، فهي التنين الذي يحلق فوق الكنز، فهي ليست فقط الدولة التي تمتلك أكبر احتياطي معروف، بل أيضًا الرائدة عالميًا في عمليات التكرير والفصل الكيميائي، حيث تحتكر ما يقرب من 90% من إنتاج المعادن النادرة المعالَجة عالميًا. هذا يعني أن معظم الدول الصناعية، بما في ذلك الولايات المتحدة، تعتمد على الصين في الحصول على الشكل النهائي القابل للاستخدام من هذه المعادن، حتى وإن استخرجت بعضها محليًا.

وقد أدركت القوى الكبرى مثل أمريكا والاتحاد الأوروبي هذه النقطة الخطيرة مؤخرًا، وبدأت تحركات فعلية لتقليل الاعتماد على الصين، من خلال إنشاء سلاسل توريد بديلة، وتحفيز الاستثمار في مشاريع التكرير داخل بلدانها أو في دول حليفة.

الأهمية التكنولوجية للمعادن الأرضية النادرة

إذا أردت أن ترى العالم من دون هذه المعادن، فقط حاول أن تتخيل الحياة دون الهواتف الذكية، الشاشات المسطّحة، السيارات الكهربائية، أو حتى المراوح الحديثة! فالمعادن الأرضية النادرة هي العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة، بل هي الروح الخفية التي لا تراها ولكن من دونها تتوقف عجلة التطور.

  1. النيوديميوم (Neodymium): أحد أكثر المعادن النادرة استخدامًا، يدخل في صناعة المغناطيسات القوية جدًا التي تستخدم في: مكبرات الصوت الصغيرة، سماعات الرأس اللاسلكية، محركات الأقراص الصلبة، محركات السيارات الكهربائية مثل سيارات تسلا، توربينات الرياح.
  2. الإيتريوم (Yttrium): يدخل في تصنيع شاشات LED وLCD، ويُستخدم في الفوسفورات التي تُضيء بالألوان داخل الشاشات، كما يدخل في زجاج الكاميرات والموبايلات ليجعله أكثر مقاومة للخدش.
  3. التيربيوم والديسبروسيوم: يستخدمان في جعل المغناطيسات أكثر مقاومة للحرارة، ما يجعلها مناسبة للمحركات في ظروف قاسية مثل الطائرات أو الأقمار الصناعية.
  4. اليوروبيوم (Europium): عنصر أساسي في الشاشات التي تظهر اللون الأحمر بدقة عالية، ما يعني أنه دون هذا العنصر، ستفقد كثيرًا من شاشاتنا جودة الألوان العالية.
  5. اللانثانوم (Lanthanum) يدخل في تصنيع بطاريات السيارات الهجينة، والعدسات البصرية ذات الجودة العالية، كما يوجد في محركات السيارات الحديثة.

الأهمية العسكرية

المعادن الأرضية النادرة ليست فقط للتكنولوجيا المدنية، بل تُعد من أصول الأمن القومي في العديد من الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين.

  • تدخل في صناعة أنظمة التوجيه الذكي للصواريخ.
  • تُستخدم في أنظمة الرادار والطائرات الشبحية مثل طائرات F35
  • تُستخدم في أنظمة الاتصالات العسكرية المشفرة.
  • تدخل في تصنيع الليزر العسكري وأجهزة التشويش.
طائرات F-35 الشبحية - المصدر: Leonardo Aircraft

أي نقص أو تحكم خارجي في هذه المعادن يُمكن أن يشلّ الجيش الحديث، وهو ما يفسر لماذا تحتفظ الولايات المتحدة بمخزون استراتيجي منها وتعدّها مواد حرجة للأمن القومي.

الأهمية الطبية

قد تتفاجأ إذا علمت أن بعض الأجهزة الطبية التي تنقذ الأرواح تعتمد كذلك على هذه المعادن:

  • يستخدم جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) مغناطيسات قوية جدًا يدخل فيها النيوديميوم.
  • تعتمد علاجات السرطان الإشعاعية  على عناصر مثل اللوتيتيوم والإيتريوم.
  • تُستخدم في تصنيع شاشات الأشعة السينية وأجهزة الليزر الطبي.
  • تدخل في بعض الأدوية المشعة المستخدمة في تشخيص بعض الأمراض.

في الماضي، كانت الحروب تُشعل من أجل الذهب والسلطة، واليوم، أصبح الصراع على ما هو أخفى وأخطر. المعادن الأرضية النادرة، هي معادن لا تلمع كالألماس ولا تُصاغ في عقود أو خواتم، لكنها تُشغّل كل ما يلمع في هذا العالم من تكنولوجيا، وتُحرّك كل آلة من هاتف ذكي إلى طائرة مقاتلة. وما بين رؤساء يساومون على السلام مقابل حفنة من المعادن، وقوى عظمى تسعى للاستحواذ على احتياطي العالم منها، وعالم عربي يكتنز جزءًا منها دون وعي بقيمتها. يبقى السؤال الأخطر معلقًا من سيسيطر على المستقبل؟

إن من يملك هذه المعادن اليوم، هو من يرسم شكل الغد. فإما أن نكون جزءًا من اللعبة أو أن نبقى متفرجين بينما تُدار الحرب حولنا بل وعلينا. بأدوات لا تُصدر صوت رصاص، لكنها تصيب بالشلل كل من لا يمتلكها. هل ما زلت تظن أن الحروب القادمة ستكون بالسيوف أو البنادق؟ بل ستكون بمن يملك المغناطيس والرقائق والشاشة التي تُخبرك بما يحدث، وبمن يتحكم بها.