السعودية: "وداعًا للنفط..نحن في عصر الرياضات الإلكترونية"!
الزمان عام 1937، أما المكان فهو جنوب غرب قارة آسيا وبالتحديد شبه الجزيرة العربية حيث تقع المملكة العربية السعودية بصحاريها الشاسعة وتضاريسها الجافة التي أكسبت سكان المنطقة قدرة فريدة من نوعها على البقاء والتأقلم مع الظروف.
بالنظر إلى الظروف الاقتصادية في هذا الوقت نجد أن معظم أقطاب المملكة كانت تعتمد على سياحة الحج والعمرة والخدمات التي يقدمها أهل المملكة للزائرين الراغبين في زيارة بيت الله الحرام، أما المناطق الساحلية والبعيدة عن مكة كانت تعتمد على الصيد أو التجارة، إلى جانب نشوء بعض الأنشطة الزراعية في جنوب المملكة اعتمادًا على ثبات معدلات هبوط الأمطار في هذه المنطقة.
قد يبدو الأمر وأننا في حصة لدراسة مادة التاريخ والجغرافيا، ولكن ما نُريد أن نستشفه هو أن المنطقة كانت تعاني بشكل كبير جدًا في هذا الوقت، ولكن كما نعلم أيضًا فإن سكان المملكة العربية السعودية وشبه الجزيرة العربية عمومًا هم تجار بارعون مُنذ آلاف السنين.
ما بين ليلة وضحاها
الزمان عام 1938، حيث كانت المملكة العربية السعودية على موعد مع حدث تاريخي غير شكل المنطقة إلى الآن، وهذا الحدث هو اكتشاف النفط في منطقة المملكة، نعم كما قرأت عزيزي القارئ اكتشاف النفط أي الذهب الأسود.
في الحقيقة اكتشاف النفط في المملكة في هذا الوقت بالتحديد كان منحة من الله تعالى، لأننا نتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي نشبت في عام 1939، ثم بعد ذلك انتهت الحرب بحلول عام 1945 وهنا دخلت القارة الأوروبية كلها في حالة إعادة إعمار بعد الخراب التام الذي لحق بها نتيجة الحرب لسنوات طويلة.
اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية لم يكن اكتشاف عادي مثل ما حدث في أي دولة أخرى حتى الدول العربية مثل العراق أو البحرين، بل كان اكتشاف قلب العالم رأسًا على عقب لأننا اكتشفنا أبار عملاقة من النفط، والتقديرات تُشير إلى أن السعودية تمتلك حوالي 260 مليار برميل احتياطي وهذه الكمية هي ربع الاحتياطي النفطي الموجود في العالم أجمع.
العقول حولت النفط إلى ذهب!
الآبار النفطية التي تم اكتشافها هبة من الله عز وجل، ولكن هذه الهبة تم استغلالها بشكل ممتاز من العقول المستنيرة في المملكة، فكما ذكرنا هم تجار بارعون، بل يمكننا أن نقول التجارة أصبحت مصبوغة في الجينوم البشري الخاص بأهل منطقة الحجاز.
في سنوات قليلة جدًا و بقفزات واسعة تمكنت المملكة العربية من أن تصبح واحدة من أكبر الاقتصاديات الموجودة في العالم، كما أنها انضمت إلى مجموعة العشرين وهو عبارة عن منتدى اقتصادي عملاق يضم 19 دولة إلى جانب الاتحاد الأوروبي.
المملكة العربية السعودية تمثل في الوقت الحالي كيان اقتصادي راسخ ومؤثر حول العالم، وقوة اقتصادية لا يستهان بها ونفخر أن هذه القوة تنتمي إلى وطنا العربي.
الزمان يتغير، والأفكار كذلك
عندما كنت صغيرًا وبالتحديد في المرحلة الابتدائية، كنا نتحدث في الكثير من الأحيان عن الأوضاع السياسية بناء على معلومات مغلوطة نسمعها من هنا وهناك ونحن أطفال، مثل أن الفنان عادل إمام ينوي دفع ديون مصر الاقتصادية كلها مقابل وضع صورته على الجنيه المصري!
أتذكر دخولي في حديث مع صديق عن المستقبل القريب وأنه في عام 2000 سيبدأ النفط في الانتهاء من العالم وبحلول عام 2010 سنعود من جديد لاستخدام الخيول في التنقل هنا وهناك.
بالطبع هذا الحديث هو السيناريو المتوقع جدًا من أطفال يتحدثون في مواضيع تفوق إدراكهم العقلي، إلى جانب اعتمادنا وقتها على مصادرة معلوماتية سمعية على الأرجح لا يوجد لها أي أساس من الصحة.
لكن هذه المحادثة على الرغم من عدم دقتها بأي شكل من الأشكال، إلا أنها كانت تحتوي على معلومة واحدة صحيحة وهي أن النفط لن يستمر كواحد من مصادر الطاقة الأساسية في العالم.
نحن هنا لا نتحدث عن انتهاء النفط من العالم، بل نتحدث عن اكتشاف تقنيات جديدة أوفر وأسهل وأكثر أمانًا، مثل الكهرباء على سبيل المثال التي أصبحنا نراها في كل مكان حولنا في الوقت الحالي.
بالعودة إلى حصة التاريخ مرة أخرى، نجد أن النفط مستكشف مُنذ قديم الأزل وكان معروفًا لدى الحضارات القديمة ولكن بكل بساطة لم يكن له أي قيمة، ولكن هذا الوضع كان يجب أن يتغير بعد ابتكار محرك الاحتراق الداخلي، وهو المحرك الذي قلب الدنيا رأسًا على عقب.
بعد اكتشاف محرك الاحتراق الداخلي أصبح النفط هو مصدر الطاقة الأهم في العالم، لأن محرك الاحتراق الداخلي يولد الحركة عن طريق حرق كمية من الوقود مع مؤكسد وهو في العادة يكون الهواء، وبالمناسبة هذه هي فكرة عمل محرك السيارة الذي كما يبدو من الشرح هو أصًلا محرك احتراق داخلي.
أرأيت أحيانًا تكون دروس التاريخ ممتعة، على أي حال مُنذ اكتشاف هذا المحرك وبدأنا نرى سيارات قوية وشاحنات نقل، وطائرات عملاقة، بل أصبحنا نرى مكوكات تصعد بنا إلى الفضاء اللامتناهي.
الآن نحن على وشك الدخول إلى عصر جديد من المحركات وهو المحركات الكهربائية، التي بدأت تقدم أداء قوي لمسافات طويلة وبدون المشاكل الميكانيكية الكثيرة التي تعاني منها محركات الاحتراق.
لذلك نحن على وشك الدخول عالم جديد يقل فيه الاعتماد على النفط بشكل كبير جدًا، وربما في المستقبل القريب تُصبح السيارات التي تعمل بالوقود مجرد سيارات لهواة تجميع التحف.
صندوق الاستثمارات العامة السعودي
تم تأسيس هذا الصندوق في عام 1971 وهو من أكبر الصناديق المالية السيادية الموجودة في العالم، وحاليًا يمتلك الصندوق مجموعة من الأصول تبلغ قيمتها 430 مليار دولار.
بدون الدخول في الكثير من التفاصيل، فإن هذا الصندوق الغرض منه هو دعم الشركات الوطنية الجديدة، وكذلك تنويع مصادر الدخل القومي عن طريق الاستثمار في العديد من الأنشطة التجارية الموجودة حاليًا في العالم.
الصندوق قام حتى الآن بتأسيس مجموعة من الشركات العملاقة في الكثير من الأنشطة الصناعية الهامة مثل صناعة طائرات الهليكوبتر لأغراض النقل، كما قام بتطوير البنية التحتية والاشتراك في العديد من المشاريع السكنية الكبرى بالمملكة.
كذلك عمل الصندوق على تطوير مشاريع كبرى مثل مشروع مدينة نيوم، مشروم البحر الأحمر، ومشروع وسط جدة؛ ولكن ما يهمنا في مقالنا هو اتجاه الصندوق أيضًا إلى الاستثمار في شركات عالمية خارج حدود المملكة مثل الاستثمار في شركة أوبر العالمية للنقل.
اقتحام عالم الألعاب والرياضات الإلكترونية
خلال الأيام الماضية فجر الصندوق مجموعة من المفاجآت المدوية لعل أبرزها كان الاستحواذ على ESL وFACEIT في صفقة بلغت قيمتها مليار دولار.
ولم تمر أيام حتى أعلن الصندوق عن الاستثمار في شركة Capcom الناشر الشهير، وكذلك الاستثمار في شركة Nexon، وهو ما جعل الكثير يعتقد أن الصندوق يتخذ خطوات لأنه فقط يمتلك المال، لذلك اليوم سنبين أن الصندوق يتحرك بناء على استراتيجية مدروسة جدًا وجميع التوجهات محسوبة بدقة.
ما هي مُنظمة ESL وكذلك FACEIT؟
تأسست منظمة ESL في عام 2000 وهي مؤسسة ألمانية متخصصة في تنظيم بطولات الرياضات الإلكترونية، وفي عام 2015 أصبحت المنظمة هي أكبر منظمة رياضات إلكترونية حول العالم، كما إنها تعتبر حاليًا أقدم منظمة في هذا المجال مازالت تمارس نشاطها.
تعمل المؤسسة على تنظيم مجموعة ضخمة جدًا من البطولات الإلكترونية حول العالم، كما تمتلك نشاطًا كبيرًا عبر منصة تويتش، مما يجعلها استثمار ممتاز في الوقت الحالي لأي شخص يُريد أن يقتحم هذا المجال.
أما منظمة FACEIT فهي أيضًا أحد مؤسسات الرياضات الإلكترونية الشهيرة ولكن حديثة العهد قليلًا حيث تم تأسيسها في عام 2012، والمنظمة تعمل على تنظيم مجموعة من البطولات العالمية لأشهر الألعاب الموجودة على الساحة مثل League of Legends، Counter Strike، Dota 2، وRainbow Six Siege.
صناعة واعدة!
في الحقيقة مجال الرياضات الإلكترونية يعتبر من المجالات القديمة نسبيًا ولكن أخر 10 أعوام شهدت نقلة نوعية لهذه الصناعة، وهو أمر طبيعي جدًا بسبب التطور الكبير في شبكات الإنترنت حول العالم ووسائل البث، إلى جانب ظهور مجموعة كبيرة من الألعاب التنافسية المعتمدة على الإنترنت.
بالنظر إلى عائدات الرياضات الإلكترونية في عام 2021 نجد أنها تمكنت من كسر حاجز المليار دولار، وهو رقم ضخم خصوصًا عندما نُدرك أن كل هذه القيمة تقريبًا تأتي من خلال الدعاية وعقود الرعاية التي وصلت قيمتها إلى 650 مليون دولار.
الأهم من كل هذه الأرقام هو المنحنى التصاعدي لهذه الصناعة، التي تنبئ بأن الرياضات الإلكترونية سيكون لها في المستقبل الريادة في مجال الرياضات الترفيهية، وقد نراها في يوم من الأيام تحل محل بطولات كرة القدم.
عائدات الرياضات الإلكترونية زادت بنسبة 14% خلال عام 2021 وهذه النسبة تعتبر مثالية لأي صناعة، ومن المتوقع أن تزداد هذه النسبة عامًا تلو الأخر، فيكفي أن تعلم أنه يوجد 465 مليون شخص حول العالم شاهدوا بطولات الرياضات الإلكترونية في العام الماضي، والتوقعات تُشير إلى أن 229.6 مليون شخص من هذا العدد هم متابعون لمجال الرياضات الإلكترونية باهتمام كبير!
بالعودة إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودي نجد، أن خطوة الاستحواذ على أكبر مؤسسات للرياضات الإلكترونية في العالم جاءت في وقتها، من الواضح أن الصندوق يُدرك أهمية هذه الصناعة الواعدة.
بل ويريد أن تكون السعودية هي محرك هذه الصناعة في المستقبل، فعند النظر إلى الصناعات كلها ستجد أنه توجد بلد تقود نوع معين من الصناعة، فمثلًا إذا ذكرنا كلمة اليابان نذكر معها التقنية والتكنولوجيا، وإذا ذكرنا كلمة سيارات يتبادر إلى أذهاننا دولة ألمانيا على الفور.
أعتقد أنه بعد هذه الخطوات عندما سيذكر كلمة رياضات إلكترونية في المستقبل، سيتبادر إلى أذهاننا المملكة العربية السعودية.
الخلاصة
الزمن يتغير ومن المستحيل دوام الحال، ولكن العقول المستنيرة هي العقول القادرة على التكيف مع متغيرات الزمن والتأقلم معها، الآن المملكة العربية السعودية تقوم باقتحام عالم الألعاب وبالتحديد مجال الرياضات الإلكترونية وهو أمر يمكننا فهم أسبابه تمامًا.
شخصيًا متحمس جدًا لكي أرى الخطوات المستقبلية التي ستتخذها المملكة العربية السعودية في مجال الرياضات الإلكترونية، نتوقع المزيد من البطولات العملاقة وربما سنبدأ عصر جديد نرى فيه البطولات يتم بثها عبر القنوات الفضائية داخل المنازل.
?xml>