من ديسكو مغرب إلى سبوتيفاي: كيف أثر بث الأغاني على صناعة الموسيقى؟
أتذكر عندما كنت تشتري شرائط الكاسيت؟ تبحث عن آخر ما أصدره محمد منير، بينما كان يبحث خالك عن شرائط فيروز، وهناك من يبحث عن شرائط أغانٍ أمريكية منسوخة لأننا لم نجدها هنا إلا بمبالغ طائلة، أو لم نجدها أصلًا.
لو كنت تتذكر هذه الأيام، ففي الأغلب أنت من جيل التسعينيات، والذي حضر نهاية عصر الكاسيت، صحوة الـ CD ووفاة أقراص الموسيقى الملموسة. أما لو ولدت في الألفية الحالية، فأنت محظوظ يا عزيزي لأنك تواجدت في عصر بث الأغاني، أو تحميلها على الأقل.
العصر الذي نتحدث عنه هو عصر الـ Analog، والذي يعتمد على وسيط، هو شريط الكاسيت أو الـ CD، وسنلقي نظرة أولًا على هذا العصر قبل أن نتحدث أن أثر بث الأغاني، والذي ترك بصمة أكبر من أي تقنية سبقته لتوزيع الموسيقى.
موجز عصر الوسائط قبل بث الأغاني
أبعد ما يتذكره المعظم هو الغرامافون، والذي اعتمد على أقراص الفينيل. اختراع توماس إيدسون في 1877 سمح بتسجيل الصوت وإعادة إنتاجه، واستخدم هذه الأقراص التي تدور بـ 78 دورة في الدقيقة. صدرت بعدها في 1948 النسخ التي تقبل تسجيل ألبومات كاملة، عوضًا عن تسجيل أغنية أو اثنتين، مما فتح الباب للمغنيين لتسجيل أغاني أكثر على الأسطوانة الواحدة.
ماتت أسطوانات الغرامافون بوصول الشرائط المُمغنطة في ستينيات القرنِ الماضي. قطعة صغيرة تسمح لصاحبها بتسجيل المقاطع وتشغيلها، وأنفجر سوق الكاسيت وقتها بسبب سعرها الذي كان في متناول اليد مقارنةً بأسطوانات الغرامافون، ما أفسح المجال في الوطن العربي لشراء الشرائط الشعبية.
في الفترة بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بدأت عملية تطوير أقراص الـ CD لتستضيف مقاطع الصوت وتشغلها. أول ألبوم صدر بهذه الهيئة كان 52nd Street للمغني Billy Joel، وتزامن الإطلاق مع صدور جهاز CDP-101 الذي صنعته Sony في 1982.
بعدها نصلُ للألفية الثانية، والتي بدأت الأغاني فيها بالوصول إلى المرحلة الرقمية بالكامل. ملفات الـ MP3 ظهرت إلى النور، وفتحت مجالٍ أكبر لقرصنة الأغاني. أضِف إلى هذا خروج منصات مثل Napster التي سمحت بقرصنة الأغاني في 1999 وتسببت في هبوط مبيعات الأغاني وقتها، وظهرت منصات أخرى مثل Zune وJuno Records تسمح للمستخدم بتحميل الأغاني مقابل دفع ثمنها.
ما بعد الـ MP3: ظهور بث الأغاني
مع الاعتماد على الإنترنت لفعل كل شيء تقريبًا، كان من اللازم أن يخرج أحدهم بفكرة جديدة، وكان Spotify الذي قدم هذه الخدمة لأول مرة في 2006. تبِع Spotify منصاتٍ أخرى مثل Deezer وApple Music لبث الأغاني بمقابل الدفع، وظهر SoundCloud بعده لتوزيع الأغاني بالمجان على المستخدمين.
كل منصة كانت لها مزاياها، ونحن لسنا هنا لنقارن بين كل منصة والأخرى، بل دعونا نتحدث عن أهم المميزات التي تقدمها معظم هذه المنصات.
يمكنك تشغيل الأغاني في أي مكان من أي جهاز
أهم ميزة تقريبًا أن كل المنصات الكبيرة تمكنك من تشغيل الموسيقى، أو الصوتيات عامةً، من أي مكان على أي جهاز. هناك تطبيق للهاتف، المساعد الشخصي، السيارة، الساعة الذكية، اللاب توب والأجهزة اللوحية. مكتبتك تتنقل معك إلى أي مكان، وملفك يحفظ الأغاني التي تريد سماعها كلها.
وبما أنها متاحة على كل هذه المنصات، فهي أيضًا متاحة في أي مكان تفكر فيه لأن معظمها أجهزة محمولة، على عكس أجهزة الكاسيت التي كانت محدودة فقط للسيارة أو المنزل، ولا تجد لها بديلًا آخر. حتى لو لم يكن هناك تطبيق للجهاز، يكفي أن تبث الصوت من خلال بلوتوث أو أي تقنية مشابهة.
خوارزمية مُحددة لك أنت
لنقل أنك تُحب سماع الأغاني الحزينة، لا أعلم ما الذي قد يدفعك لهذا، ولكن إذا اخترت أغنية واحدة حزينة ستتمكن من الوصول إلى أغاني مماثلة لها. التشابه سيكون في الكلمات، الموسيقى نفسها والجو العام للأغنية. هذا يفتح لك باب السماع إلى أغاني جديدة عوضًا عن الالتصاق بمكتبة واحدة، ويضيف قيمة أفضل للمستمع والمغني، لأنه يرفع من عدد مرات الاستماع للثاني ويدفع بالأول لتجربة أغنية جديدة.
مع مرور الوقت ستخرج لك الخوارزمية قوائم أغاني كاملة مبنية على تاريخ استماعك، ومنها ما يضم أفضل الأغاني لمغنيك المفضل، أو حتى الأغاني التي لم يكن لها صيت عند صدورها تحت مسمى "جواهر مخفية" وما شابهها من مسميات.
تقنيات صوت محدثة باستمرار
لنواجه الواقع. جميعنا لا نملك أفضل سماعات، بل والمعظم يمتلك سماعات من الفئات الأرخص، أو حتى السماعات التي كانت ترفق مع الهواتف في الماضي. يجب على تطبيقات الموسيقى أن تتبنى كل دقة صوت لتعطي التجربة الأمثل لكل مستخدميها، فمثلًا يجب أن يكون هناك نظام صوت محدد للسيارات لتستغل سماعات الستيريو، ونظام الـ HiFi لأنقى تجربة صوت ممكنة لسماعات الرأس.
لكن هذا لا يعني لمستخدم السماعات المباعة على الأرصفة أن يحمل ملفات الصوت ذات أعلى جودة، لأنه وببساطة، لن يكون لها قيمة. لهذا معظم التطبيقات تعرض لك مستوى الصوت المثالي لك، وهذا حتى لا تستهلك مساحة لا داعي منها، ولا من الميجا بايتس على هاتفك الذكي، ومع كل تقنية جديدة سيدعمها التطبيق في الأغلب طالما هناك أجهزة وسماعات تدعمها.
تأثير بث الأغاني على صناعة الموسيقى
هنا نصل للنقطة التي نريد التحدث عنها، ولكن قبل أي شيء يجب أن نتحدث أولًا عن عملية صناعة الموسيقى ما قبل ظهور منصات البث والتحميل، وسنقف في نقطة التاريخ هنا قبل ظهور هذه المنصات لنشرح الوضع.
عملية صناعة الأغنية في عصر الكاسيت
تخيل لوهلة أنك محمد منير؛ وأنك على وشك إطلاق أغنية "شبابيك" لأول مرة. يذهب محمد منير إلى الاستوديو بصحبة أحمد منيب ملحن الأغنية، يبدأ منير بتسجيل الأغنية ويخرج شريط كاسيت يضم الأغنية في نهاية المطاف.
يُرسل الشريط الآن إلى الشركة الموزعة، والتي تتولى عملية التوزيع بالكامل. الشركة تنقل الشرائط إلى التجار، وبدورهم يبيعون الأسطوانة أو الشريط بسعر محدد. هذا يعني أن عندنا هنا أطراف محددة أثرت عليها صناعة بث الأغاني، وهم:
- المُغني
- شركة التوزيع
- شركة التسجيل
- تاجر أقراص/شرائط الموسيقى
الأثر على المغني في مصلحته
صار من السهل أن يصل المغني إلى عدد أكبر من المستمعين من خلال هذه المنصات، والتي يستخدمها الملايين حول العالم، مما فتح باب أكبر لمغنيي الأغاني المستقلة. لو عدنا للتسعينيات وظهر مغني جديد في الجزائر يسمى "الشاب عمرو"، ودخلت إلى متجر شرائط الكاسيت، هل ستفكر في شراء شريط لهذا المغني الذي لا تعرف عنه شيء؟ بالطبع لا، لأنك ستدفع مبلغًا وقدره في الشريط الواحد، ولا توجد مساحة للتجربة هنا.
لكن الشاب عمرو الآن يمكنه أن ينشر أغانيه على منصة مثل Spotify، ويظهر من خلال خوارزمياتها للمستمعين الذين يحبون سماع نفس اللون الذي يقدمه، والشاب عمرو سيحصل على العائد كامل في جيبه على العكس؛ إذا لجأ لشركة توزيع تنشر الأغاني بنفسها على هذه المنصات، وتأخذ نسبة ربح من العائد المادي الذي سيخرج له.
والشاب عمرو الآن لن يحتاج إلى الدخول في تفاصيل لا يفهمها، مثل التعاقد مع شركة توزيع حتى يصل لجمهورٍ أكبر، فكل ما يحتاجه هو إنشاء ملفه الشخصي وإصدار الأغاني عليه من خلال المنصة أيًا كانت، وهذا يجعل مستقبل المغني المستقل في يده، حتى لا يتعرض لأزمات الاحتكار التي قد يعاني معها من شركات التوزيع. أعني…لا يريد أحد تكرار تجربة بهاء سلطان مع نصر محروس في نهاية المطاف.
ما قد يؤثر سلبًا على المغني هو الضغط لإطلاق أغاني أكثر وأكثر، فلو أطلق المغني ما نسميه بـ "Hit" على منصة من المنصات، سيضغط الجميع عليه ليبدأ بإطلاق أغاني أكثر. هذا قد يحدد من قدرة المغني ويؤثر عليه بالسلب بسبب غزارة الإنتاج، وقد يتسبب في صدور 100 أغنية منها أغنية واحدة جيدة.
شركات التوزيع أخذت وقتها لتتعامل مع الأنظمة الجديدة
مثلها مثل أي سلعة، تأخذ شركة التوزيع المنتج النهائي وتبيعه فقط لا غير. هذه الشركات لا زالت موجودة، ولكن هناك الكثير من الأشياء الأخرى التي ستركز عليها الآن. أولها هو التعاقد مع المنصات، مثل Spotify وأنغامي، حتى تطلق أغاني المغني من خلالها، ومع هذه الخطوة يبدأ التركيز أكثر على التسويق أكثر من العملية نفسها.
عملية التوزيع أصبحت رفع أغنية مع صورة الألبوم، أما عملية التسويق هي الأصعب لأن الشركة تحتاج للجوء إلى الإعلانات على كل المنصات، ومنها ستتعامل مع المواقع والمجلات للترويج لهذه الأغاني. يمكننا أن نقول أن هذه الشركات تحولت إلى وكالات إعلان، هدفها أن تًزيد من عدد المستمعين على منصات بث الأغاني ومقاطع الفيديو لا أكثر ولا أقل.
لم تؤثر على شركات واستوديوهات التسجيل تقريبًا
على عكس كل شيء في صناعة الموسيقا، لم تؤثر منصات بث الأغاني على الشركات المُختصة بالتسجيل. استوديو التسجيل سيُقدِّم نفس الوظيفة، وهي نقل صوت معدات الموسيقى نفسها، والمغني، إلى ملف صوت وشكرًا، وظيفته تظل كما هي.
حتى لو فكرت في التقنيات الجديدة للصوت، فلا فارق. منصات بث الأغاني هي من تحاول الوصول إلى محاكاة الصوت من داخل الاستوديو، وليس العكس. النقطة الوحيدة التي يمكن أن نتحدث عنها هي وجود استوديوهات، كما نقول في مصر، "تحت السلم".
لكنها لم تبدأ مع هذه المنصات، فمع ظهور خيار "تحميل الأغاني" بشكل عام، بدأت الكثير من ألوان الموسيقى بالظهور مثل "المهرجانات" وما شابهها من أغاني يضرب بها النقاد عرض الحائط، ودورنا ليس الحكم عليها، بل التحليل التقني البسيط.
أغنية المهرجان أو الأغنية الشعبية، عادةً، تخرج من أحياء نفس الطينة. هناك لا توجد رفاهية الحصول على أفضل ميكروفون أو عوازل للصوت، ولا توجد إلا أجهزة الاستيراد عند المنتجين. لا تخرج الأغاني بأفضل شكل ممكن، فتشعر عند الاستماع لـ"اسلام كابونجا" في أول أيامه أنك تستمع لجارك وهو يغني في مطبخ المنزل.
فلو فكرت في الأمر، ستجد أن الوصول للشهرة صار أسهل مع هذه الأغاني، والتي لا تحتاج من الاستوديو الخاص بها إلا أقل المعدات في السوق، والذي سيخرج منها الأغنية في صيغة ملف يرفعه على أي منصة بث ليصل إلى جمهوره، وجمهوره في معظم الأحيان لا يمانع، فهو في النهاية اسلام كابونجا، وليس لانا ديل ري.
الضحية الأكبر هي متاجر الأغاني
في قلب الجزائر، في شارع جاودي عبد الرحمان بوهران. متجر ديسكو مغرب، أشهر متجر شرائط كاسيت في عصرها، كان المتجر الأول لعشاق أغاني الراي التي ذاع صيتها إلى فرنسا وما وراء المتوسط.
ديسكو مغرب، المملوك لصاحبه بوعلام بن حوى، كان أشهر متجر شرائط في الوطن العربي في التسعينيات. أيُما كان الشريط الذي تبحث عنه ستجده هناك، ولو أردت شريط بأغانٍ محددة سيخرج لك من الداخل، وكان أحد معالم مدينة وهران طوال فترة عمله.
لكن؛ ومع صدور الأغاني على المنصات السحابية، و ازدهار معدلات التحميل والقرصنة من الإنترنت، بدأت الأقدام تنسحب رويدًا رويدًا من المتجر، والذي تبنى شرائط الكاسيت وأقراص الـ CD لأنها الوسيط الوحيد الذي يمكن بيعه في متجر.
الآن، ديسكو مغرب صار مزارًا سياحيًا في الجزائر. متجر بوعلام الأشهر في شمال أفريقيا لا يحتوي إلا على أقراص وشرائط قديمة، وبعد أن تحولت الصناعة إلى بث يتم من أي جهاز تقريبًا، صار المتجر جزءًا من التراث، وتكررت القصة ذاتها مع كل متاجر وسائط الموسيقى.
قصة حزينة عند التفكير في أثر التقنية على أي شيء، ولكن هذه سنة الحياة في الكثير من الأحيان.
أثر هذه المنصات على الأغنية نفسها
هناك ثلاثة أبعاد أثرت هذه المنصات عليهم. بدايةً من الأغنية نفسها، ومع غياب أي نوع من الرقابة على هذه الأغاني، يمكن القول بأنها أكثر حرية. أغاني مثل "إن أن" لشب جديد ودبور ما كانت لترى النور في عصر الكاسيت، فوالدك لن يسمح لك بسماع كل هذه الألفاظ الخارجة من شريط كاسيت، وشركات التوزيع ستتفادى بالكامل توزيع مثل هذه أغاني.
المستفيد الأكبر تقريبًا من هذا الأثر، في الوطن العربي بالتحديد، هو الراب. بعيدًا عن أنك قد تعتبره "فن شارع" ويعكس حقيقة المجتمع، فنادرًا ما تجد رسالة من أغنية راب، وعادةً ترى مغنيها يستعرض عضلاته ومخدراته وعلاقاته النسائية، ونحن لسنا هنا لنحكم على ما تسمع، ولكنك لم تكن لتسمعه من مؤديين هذا الفن العرب إلا من خلال هذه المنصات.
البعد الثاني الذي أثرت عليه هذه المنصات هو غزارة الإنتاج، ففي النهاية يُنظر إلى الأغنية وكأنها مصدر للمال، فمنهم من يطلق ألبوم فيه أكثر من عشر أغاني لأنه يرى أنها ستدر له الكثير من المال، ومنها أغاني ليست بالمستوى المتوقع من المغني، ولكنه سيطلقها على أية حال.
والبعد الثالث والأخير هو جودة الأغنية نفسها، فمع وجود إمكانية نشر أغنية على منصة دون الحاجة للدخول في تعاقدات وأمور بيروقراطية تستهلك الوقت والمال، يمكن لأي شخص أن يركب ميكروفون في غرفة معزولة ويسمي نفسه "مُغني"، حتى لو كانت أغنية رديئة تعتمد فقط على الاوتوتيون وBeat مجاني من اليوتيوب.
أخشى اليوم الذي تتداخل فيه التكنولوجيا مع إنسانيتنا. لن يكون في العالم سوى جيل من البلهاء." ألبرت أينشتاين
هذا عصر التقنيات والخوارزميات .. لسوء حظ البعض
هناك ضحايا لكل تطور، وهناك فائزون منه أيضًا. أثرت هذه المنصات على الكثير من عناصر الأغنية بالسلب، ومنها الأغنية نفسها التي قد لا ترتقي لمستويات "الزمن الجميل" في آذان البعض، وهناك آثار إيجابية وأهمها وصول من يستحق إلى الشهرة في بعض الأحيان.
ولكن في نهاية المطاف، هناك من يرى أن هذا هو العصر الذهبي للموسيقى، وهناك من يرى أن الموسيقى تعيش أسوأ عصورها. في النهاية، هذا هو ما مرت به هذه الصناعة بسبب هذه المنصات، وتختلف أو تتفق، فهي غيرت الكثير من الأمور بشأن طبيعة الاستهلاك، البيع والأغنية نفسها.
?xml>